1. Home
  2. /
  3. اراء
  4. /
  5. مقالات
  6. /
  7. خفايا إنقسامات الكنيسة المشرقية...

خفايا إنقسامات الكنيسة المشرقية الموحدة في كتاب جديد للباحث عوديشو ملكو

عرض : حنان اويشا

العنوان مستهل بـ (حقيقة).. المفردة التي تعني إثبات اليقين وكشف الخبايا وبيان الصائب منها، وذلك بالطبع لايتم الا بمحاولات جادة وجهود مضنية للبحث والتقصي في جوهر الامور ومدى صحتها بالادلة والبراهين التي تدعم تلك الجهود وتؤسس لافكار وطروحات جديدة.

الكاتب والباحث الدكتورعوديشو ملكو كوركيس جاب مصادرأ مهمة ونصوصاً تاريخية ولاهوتية ليقدم حقائق غفل عنها معظم المؤرخين والباحثين في الشأن الكنسي على حد تعبيره، وذلك عبر كتابه (حقيقة بطريرك بيزنطة مار نسطورس 428 ـ 431) الصادر حديثاً عن رابطة الكتاب والادباء الاشوريين. ويبحث فيه الاحداث التي جرت بحق العقيدة المسيحية والكنيسة عموماً أيام البطريرك نسطورس وما آلت اليه تلك الاحداث من انقسامات في جسم الكنيسة العالمية الواحدة.

عنوان الكتاب لا يوحي الى وجود حقيقة ما سعى الكاتب لاستبيان خباياها فحسب، بل يلمح للوهلة الاولى بان الكتاب يبحث في مسائل لاهوتية وتفاسيرها وربما الخوض في دراسة المذاهب المسيحية وخصوصياتها. لكن تمهيد الكتاب يأخذ القارىء الى حقيقة مقاصد الكاتب والاسباب التي دعته الى الخوض في موضوع يعتبره تصدياً لافتقار مكتبة الكنيسة المشرقية الاشورية لدراسات وبحوث تاريخية محايدة عابرة للخصوصية المذهبية والهوية الحضارية ومتجاوزة للحدود الجغرافية ودون الخوض في تعقيدات بعض المصطلحات والعبارات المتداولة مسيحياً وتفاسيرها اللاهوتية التي مضى عليها أكثر من خمسة عشر قرناً. واصفاً إياها بالثقيلة على مسامع هذا الجيل لما لها من صدى لمأساة حلت بالايمان القويم ووحدة الكنيسة معاً، دون الوقوف على مسببات وخفايا تلك الاحداث التي أدت الى إنشطار في جسم الكنيسة العالمية الواحدة ولازال قائماً. حيث يحصر الكاتب الدوافع الحقيقية وراء ذلك في أربع نقاط تضمنها تمهيد الكتاب.

جاء الكتاب في 183 صفحة من قطع A4 ومحاوره مقسمة الى خمسة فصول مختومة بملحق يضم بعض الاحداث والتواريخ لكنيسة المشرق الاشورية بشقيها (1900 ـ 2000).

(الأصل ـ الولادة ـ الطفولة والنشأة) هي المحور الرئيس للفصل الاول من الكتاب الذي يدلي فيه الكاتب بمعلومات قيمة عن الظروف الزمانية والمكانية التي ولد فيها البطريرك نسطورس واصول جده (ادّي) الاشورية الذي عاش في أواسط القرن الرابع الميلادي في بلدة “مرعش” الواقعة الى الغرب من ديار بكر في تركيا الحالية، وأصل هذا الرجل يعود الى قرية “أتك” الواقعة بالقرب من مدينة “دارا” القديمة بين ماردين ونصيبين في تركيا الحالية ، حيث يورد الكاتب قصة حادث حصل معه أٌجبر إثره على مغادرة قريته والتوجه الى مدينة “سموساط” وسكن فيها وأنجب ابنيه الاول “بعل شمين” والثاني “أبيعشوم” اللذان رجعا بعد وفاة والديهما الى قريتهم “مرعش” وتزوجا هناك لينجب الاول طفلاً سماه نسطورس، والثاني طفلا سماه”ثيودوريتوس”، وبناءًا على ذلك يؤكد الكاتب على الاصول الاشورية لنسطورس منوهاً الى ان القاموسي بر علي يؤكد بأن “أتك” هو أسم قرية أداي جد نسطورس وهو من بلاد الاشوريين في مقاطعة الجزيرة الفراتية. هذه المنطقة الحدودية التي كانت تخضع للفرس تارة وللروم تارة اخرى حسب نتائج المعارك العسكرية ومواثيق الصلح والسلام بين الطرفين، وذلك كان سبباً في إدعاء بعض المؤرخين بأن نسطورس كان من بلاد فارس وبعضهم ينسبه الى بلاد سوريا، وهناك صواب لدى الفريقين على اعتبار ان المقاطعة الاشورية (آسوريا Assoryo) كانت تخضع للفرس فهي بطبيعة الحال تكون بلاد فارس (سياسياً) وادارياً وليس عرقياً وحضارياً، فالشعب بغالبيته كان من الاشوريين دون سواهم، وما أسماء الاشخاص والمدن والمناطق الا دليلاً واضحاً على هويتها حيث لم يكن يتسمى بها غير الاشوريين.

(النذور والنبوغ اللاهوتي والسيرة النسكية) في هذه الفقرة من الفصل الاول يسترسل فيها أهم مراحل حياة البطريرك نسطورس.. دراسته.. رسامته كاهناً.. أهم الاعمال التي أُسندت اليه.. صفاته الشخصية.. مواهبه.. حياته النسكية.. تضحياته من أجل إيمانه وصيانة وحدة كنيسته، ومن ثم إبعاده عن الكنيسة ونبذ تعاليمه. ليبحث بعدها الكاتب في فقرة اخرى حملت عنوان (بين الاسكندرية وانطاكيا “من المحلية الى المسكونية”) في جوهر الصراعات الفكرية التي نشبت بين ابناء الكنيسة الواحدة والتي تجسدت في   المواقف التي اتخذها رجال المركزين الانطاكي والاسكندري باعتبارهما مدرستين للفكر المسيحي المسكوني والتي استلمت مقاليد الامور في النصف الاول من القرن الخامس من تاريخ المسيحية واطلاقهما لمصطلحات جديدة للتعبير عن حالات محددة تخص طبيعة المسيح، وما اودى اليه خلافهما حول اللاهوت والناسوت في شخص المسيح الواحد. وايضا حول تسمية العذراء بأم الله أم بأم المسيح ، مبينا موقف البطريرك نسطورس من هذا الخلاف والمقترح الذي قدمه كحلاً لهذا الخلاف العقائدي، والذي لم يؤخذ به من قبل منافسيه على كرسي القسطنطينية الذين عملوا بحسب الكاتب الى تضخيم الصراع حول (عقيدة أمومة مريم لله) ليس حرصاً على العقيدة وانما حقداً وانتقاماً من نسطورس. متجاهلين انهم بذلك لم ينتقموا منه فحسب بل من الكنيسة الجامعة ومن العقيدة المسيحية برمتها.

(المجامع الكنسية واحتدام الصراع 431 ـ 451) هو المحور الرئيس للفصل الثاني المستهل بنبذة عن الظروف التي دعت الى رسامة مار نسطورس أسقفاً للعاصمة “قسطنطينية” عام 428  وأهم الاجراءات التي أتخذها بعد ذلك من أجل حماية الكنيسة على حد تعبيره من الهراطقة الذين روجوا للفوضى الايمانية والادارية في جسد الامبراطورية ومن ثم جسد الكنيسة الموحدة، مشيراً ايضا الى الصراع الحضاري والخصومات الشخصية بين رجال الكنائس على المراتب الكنسية وخصوصاً الكنيسة الاسكندرية المتمثلة بالبطريرك “كيرلس” ومحاربته مار نسطورس أسقف القسطنطينية طمعاً بالكرسي البيزنطي بعد اعلان الملك قسطنطين المسيحية ديانة رسمية للامبراطورية وصار هذا الكرسي في بيزنطة يعلو شأناً على بقية الكراسي الأسقفية. ليسلط بعدها الكاتب الضوء على أهم المجامع الكنسية المنعقدة خلال تلك الاعوام منها: المجامع الامبراطورية / الكنسية خلال القرنين الرابع والخامس ومنها مجمع نيقيا عام 325 ومجمع القسطنطينية  الاول عام 381، مجمع أفسس الاول 431، مجمع أفسس الثاني 449 ، مجمع خلقدونيا عام 451. حيث يطالع القارىء تفاصيل مهمة حول كيفية انعقادها، والدوافع التي وقفت وراء انعقادها، ومن ثم النتائج التي خرجت بها. وهنا يدعو الكاتب في أحدى زوايا الفصل الى تتبع كل تلك الاحداث والاجواء الملبدة بين القائمين على كنائس الامبراطورية الرومانية نفسها والكنيسة الاسكندرية والبيزنطية من جهة اخرى ويصفها بالتخبط  والتناقض في مواقفها وقرارتها.

وفي الفصل الثالث من الكتاب وفي تتابع للاحداث التي تلت انعقاد كل تلك المجامع الكنسية والنتائج التي خرجت بها وكانت سبباً رئيسياً في تخلي البطريرك نسطورس عن منصبه عبر تقديم أستقالته الى الامبراطور وتفضيله العودة الى ديره في انطاكيا، يتناول الكاتب ايضا قرار النفي الذي صدر بحق البطريرك ومن ثم تحريم تعاليمه والاضطهاد الذي تعرض له اتباعه وحرق كتبه ومؤلفاته.

وفي تلخيص لجوهر الفصلين الثاني والثالث كرس الكاتب الفصل الرابع من الكتاب لتناول أبرز ماجاء فيها من خلال تقديم مقطعين مقتبسين لباحثين كبيرين من العقد الاول للقرن الواحد والعشرين، الاول الباحث الكاثوليكي السويسري كريستوف باومر، والثاني الباحث الدكتور القس حنا الخضري من اتباع الكنيسة الاسكندرية (القبطية)، معللاً ذلك التكرار بانه إعانة للدارسين والباحثين عن الدوافع الاساسية والعلل الجوهرية المسببة للصراع الذي استمر كل هذه القرون ومايزال يتفاعل هنا وهناك لدى البعض.

كما يبدي الكاتب في زاوية اخرى وجهة نظره بخصوص تلك المشاكل العقائدية بين نسطورس وكيرلس قائلا: “اننا لانقول بانه لايوجد اختلاف في تعاليمهما ولكننا نقول بانهما كانا متفقين على نقاط كثيرة جوهرية، وكل ما نأسف له هو ان الرجلين لم يحاولا ان يتقابلا معاً في مدينة أفسس قبل اجتماع المجمع لكي يناقشا معاً وجهاً لوجه هذه المشاكل العقائدية.وان دراسة التاريخ مهمة جداً ليس فقط لمعرفة ما حدث في الماضي، ولكن الاهم هو كيف يمكننا ان نستخلص دروساً من الماضي لحل مشاكل الحاضر والمستقبل. مقدما دعوته للطوائف المسيحية للحوار معاً بروح مسيحية هادئة في الامور العقائدية والتعاليم التي كانت سبباً في تمزيق الكنيسة، جسد المسيح، وحينها سيكتشفون بانهم قريبون جداً من بعضهم، فالجبال والحواجز التي تفصلهم أصغر بكثير مما يتخيلونه”.

الفصل الخامس خصصه الكاتب لبعض النصوص التاريخية واللاهوتية المكتوبة عن البطريرك نسطورس باللغة “السريانية” مشيراً الى قلة الدراسات التي تعالج الاحداث خلال فترة ذلك الصراع الكنسي العنيف أي بين (428) سنة جلوسه على كرسي البطريركية، و(451) سنة انعقاد مجمع خلقيدونيا، موعزاً سبب ذلك الى تلف واحراق الكتب وملاحقة وقتل الكتّاب والمؤلفين.

اخيراً: يجدر بنا الاشارة الى ان اهمية الكتاب لاتكمن فقط في قلة الدراسات والبحوث التي تبحث في اسباب ذلك الانشطار الكبير في جسد الكنيسة المشرقية بحياد وموضوعية كما اسلف الكاتب، وانما اهمية الكتاب تأتي باعتباره مسعى آخر من لدن أحد مثقفي هذا الشعب يضاف الى محاولات لاحصر لها لتشخيص العلل الاساسية  لذلك الانشقاق الكنسي وتبعاته على بنية الشعب الواحد الذي دفع ثمنه باهضاً ولقرون طويلة ليطرح السؤال نفسه.. ألم يحن الوقت للفرقاء لتجاوز كل العقبات وإيجاد حلولاً مرضية لجميع الاطراف ليجتمعوا في محبة المسيح وتحت ظل كنيسة واحدة موحدة في ايمانها وعقيدتها؟.

zowaa.org

menu_en