لطيف پولا
احجية ( حزورة ) سومرية تسال مايلي : ما هو المكان الذي يدخل اليه الأعمى ويخرج منه وهو يبصر النور ( يرى , يشوف )؟
تبدأ العصور التاريخية منذ ان بدأ الانسان يدون بالكتابة كل ما يمر في حياته ,كان ذلك في الالف الرابع قبل الميلاد اي قبل ستة الالاف عام وكان ذلك عند السومريين . كان لأبناء سومر مدارس قبل ستة الاف عام .لا زال العلماء لحد هذا اليوم يدرسون ما اكتشفوه في مكتبة اشور بانيبال من كتب تناولت الحياة ومعظم العلوم في حضارة وادي الرافدين استنسخها الملك المثقف اشوربانيبال من مكتبات كانت موجودة في امبراطوريته وخاصة في بابل وسبار واور واريدو واوروك واماكن اخرى جمعها وحفظها في مكتبته العظيمة في قصره في نينوى تمكن علماء الاثار من اكتشافها ليخلد بذلك كل التاريخ والعلوم التي سبقته بالاف من السنين ولتصبح اليوم قابلة للقراءة والترجمة الى كثير من اللغات العالمية . ومن هنا نعلم كم كانت القراءة وحب التعلم منتشرا لدى ابناء العراق القديم ولولا معرفة اجدادنا بالقراءة والكتابة لما كتب الملوك العظام قوانينهم وحولياتهم ونقشوها على مسلات في الساحات العامة وعلى جداريات لتصبح بين ايادي ابناء شعبهم يقرأونها ليعرفوا سياسة وقوانين وانظمة حكامهم . تلك القوانين والأنظمة التي لازال الكثير من فقراتها تطبقها الامم لحد هذا اليوم .وظل العراقيون احفاد الحضارة يحترمون المدرسة والعلوم والثقافة ,وكان للمثقف والمتعلم مكانة خاصة في مجتمعنا .
وهنا مقارنة بسيطة بين مدرسة اليوم والأمس القريب ولما شاهدناه بعيوننا ولمسناه بأيادينا كواقع عشناه في حياتنا اليومية.
كنا طلاباً منذ اوائل الخمسينيات من القرن العشرين وفي القرى والأرياف وكنا نجلس على المقاعد وما من طالب يفترش الأرض أبدا !. وفي الشتاء كان في كل صف موقد يخفف عنا, نوعا ما من برد الشتاء ,وبعد الدرس الثاني كانت توزع على الطلبة التغذية , تتكون من قدح حليب مع رغيف خبز (صمونة) وكأس فيه حمص مع برتقالة او تفاحة .كان ذلك في العهد الملكي والعراق لازال تحت الانتداب البريطاني !ّ. كانت ميزانية العراق لا تشكل واحد بالمائة من ميزانية عراق اليوم.وكانت اللجان الطبية تزور المدرسة أكثر من مرة خلال العام الدراسي لإجراء الفحوصات على الطلبة ومعالجة من فيهم فقر دم او ضعف في البصر او أي مشكلة صحية اخرى . وكانت اللجنة التي تزور البلدات وقرى سهل نينوى ( لواء الموصل سابقا) ترسل من يحتاج معالجة الى الموصل مركز اللواء ( محافظة اليوم ), او يزود المريض بأدوية تساعده على اعادة صحته . وكانت المعونة الشتائية ( معونة الشتاء ) والتي تشمل ملابس واحذية تُوزع كل عام على المحتاجين من الطلبة .كانت المدرسة بحق المكان المقدس للتربية والتعليم .كانت للمعلم هيبته ومكانته الاجتماعية ,وللكتاب قدسيته .والمجتمع بشكل عام والقروي بالذات ينتظر ان يتخرج ابنه من المدرسة ليتبوأ مركزا وظيفيا واجتماعيا محترما يرفع من شأن والديه ويُعينهم على العيش الكريم .كانت المدرسة امل الشعب في رفع مستوى المعيشة وكسب الثقافة والعلم .وكانت وزارة التربية كل عام تبعث مجموعة من الطلبة المتفوقين في المرحلة الاعدادية الى اوربا للدراسة والتخصص في الجامعات ليعودوا الى الوطن بعد اكمال دراستهم اطباء ومهندسين اصبحت للكثير منهم شهرة عالية في الوطن وخارجه . وفي الوقت الذي تقوم كثير من الدول المهتمة بتطوير وبناء اوطانها بإغراء وجذب الكثيرين من اصحاب العقول والكفاءات والشهادات العالية والمواهب لتساهم في عملية بناء اوطانها كانت الانظمة المتعاقبة في اوطاننا تعمل على تهجيرهم وقتلهم واختطافهم واعتقالهم حتى كاد الوطن يخلو من اصحاب الكفاءات .
ومن صميم تجربتي , بالنسبة لي , كنت مدرساً منذ اوائل السبعينيات من القرن العشرين في القرى والارياف في المحافظات الجنوبية . ولما انتقلت الى بغداد قضيت سنين طويلة من خدمتي كمدرس في المناطق الشعبية . كانت للمدرسة وللمعلم قدسية واحتراماً لدي الطلبة واهاليهم .انتهت تلك القدسية وذلك الإحترام بعد مجيء الانظمة الشمولية التي اعتمدت على الفاشلين والجهلاء في تنفيذ مخططاتها وترجمة افكارها السوداء ولتثبيت اركان حكمها بتشجيع الفساد والرشوة والمحسوبية فكان الطالب الفاشل ينجح ويدخل الجامعات ويتخرج طبيب ومهندس ومدرس ويتبوأ المراكز الحساسة وهو لا يعرف القراءة والكتابة . اما الطالب المجتهد والذكي والموهوب يسقط ! وكان هذا هو الاسلوب الناجح لإفراغ الوطن من اصحاب الكفاءات ونشر الجهل اضافة الى الاساليب الإجرامية كالقتل والملاحقة والاضطهاد . كان كل هم تلك الانظمة هو المحافظة على ايدلوجيتها بنشر الجهل والتعصب الاعمى وتدمير المدرسة والعلم والمعلم والمثقف لكي لا يبقى مصباح نور في الوطن . بعد عقود من هذا التخريب والتدمير في المدرسة والعلم والثقافة, في كل نواحيها ,حقق الاشرار اهدافهم ..ها هو الجهل ينتشر في كل مكان والجهلاء يتبوأون المراكز الحساسة همهم الاول هو تعطيل عمل المدرسة والمعلم ومحاربة المثقفين ونشر الفساد في كل مكان وخاصة في مجال الاعلام والصحافة والتعليم والطب والقانون لكي نعود الى عصر الغاب وفي الغابة لا يتحكم الا الوحوش الكاسرة حيث لا قيمة للأخلاق ولا للثقافة ولا للعلم .جيوش من العقول المبدعة في الطب والهندسة والاقتصاد والادب والفن هُجِّروا من الوطن ليتركوا وطنهم يئن تحت وطأة التخلف والمرض والفقر وليقدموا خدماتهم الى شعوب وفي اوطان اخرى كان العراق ولا يزال بأمس الى خدماتهم . وانا كمدرس متقاعد وحسب تجربتي المتواضعة مع ابنائي الطلبة الذين تفانيت في سبيلهم ,ودفعت الثمن باهضا بسبب اخلاصي لهم, توصلت الى ان العراقيين بشكل عام ورثوا العبقرية والمواهب والابداع وحب عظيم للمدرسة والمعلم عن اجدادهم منذ عصر الحضارات عصر سومر واكد وبابل واشور وكذلك في زمن العباسيين يوم اصبحت بغداد مركزا حضاريا بجهود ابناء العراق الاصلاء الذين اعجب بهم الخلفاء العباسيين واكرموهم وشجعهوهم على الابداع في التاليف والترجمة حتى قيل ان الخليفة كان يكرم العالم والمؤلف والمترجم ذهبا بوزن الكتاب !. لولا المدرسة لما قامت الحضارة التي سرق الاخرون كثير من منجزاتها العلمية في الهندسة والفلك والطب والري . ولأن كل العصور التاريخية بدأت منذ نشوء الكتابة في زمن السومرين ولأهمية المدرسة بالنسبة للسومريين والأكديين والبابليين والاشوريين يكفي ان انقل لكم حزورة سومرية كتبها سومري على رقيم بالخط المسماري , تسأل الحزورة ما يلي : ما هو المكان الذي يدخل اليه الأعمى ويخرج منه وهو يبصر النور ( يرى , يشوف )؟
الجواب طبعأ المدرسة . تصور صديقي العزيز اطفال سومر يجدون في المدرسة المكان الذي يجعل الانسان يرى النور ومن دونها فهو أعمى . اعرفتم كيف صنع العراقيون حضارتهم ولماذا سبقوا العالم في ذلك؟ .من هذا نتوصل الى حقيقة تدلنا على سبب حقد الجهلة والفاشلين على المدرسة التي تنور العقول وتفتح العيون لترى مصائب وخفايا الطغاة ودجلهم ودسائسهم ؟ وقد ادرك ونستون تشرشل اهمية المدرسة والقضاء في احلك الظروف تمر بها بريطانيا في الحرب العالمية الثانية وطائرات المانيا تمطر لندن بالقنابل والصواريخ ,في هذا الوقت العصيب جاء البعض الى رئيس وزراء بريطانيا وينستون تشرشل يخبروه بان البلد يتهدم ليس بسبب قصف الطائرات الألمانية لبلدهم فحسب بل بسبب الفساد المستشري فسألهم ونستون تشرشل : هل وصل الفساد الى القضاء والتعليم ؟. فقالوا له: كلا مازال القضاء والتعليم بخير. فقال لهم: إذاً البلد بخير فلا تخافوا….
ذلك لأنه كان يعلم أن القضاء يكشف الحق ويردع الفاسدين والمجرمين والخونة والأشرار، ويمنع الناس من أن تأكل بعضها البعض . والتعليم ينوِّر العقول ويثققف النفوس ويهيء الكفاءات لبناء المجتمع. في اصعب الظروف. وهذا التفكير كان موجوداً عند اجدادنا , للبرهان على ذلك يؤكد أحيقار الحكيم الآشوري ومستشار الملك سنحاريب وابنه اسرحدون قبل اكثر من ( 4700 ) عام على اهمية الثقافة والعقل والحكمة وخطورة الجهل على الانسان إذ يقول في حكمة من حِكمه الشهيرة : يا بُني نقل الحجارة مع الحُكماءِ خيرٌلك من الجلوسِ على موائدِ الجُهلاء.
والبرهان الساطع والخالد الاخر هو هذا الرقيم والحزورة الخالدة في الصورة ( رقم 1) مع صور اخرى لها علاقة بالمدرسة والمعرفة بين الامس واليوم .
من هنا نعلم لماذا تشجع دول العلوم والعلماء والثقافة والمثقفين والفن والفنانين. في حين دول اخرى تحاربهم وتشجع الجهل والجهلاء والفساد والفاسدين والدجل والدجالين !!.