الجزء 25
البطريرك الشهيد مار بنيامين شمعون ..
أهالي القـــــــوش يطالبون بالرجوع الى كنيسة المشرق العريقة
يعكوب أبونا
وصلنا بالحديث في الحلقة السابقة عن مار شمعون الخامس يونان الذي توفى سنة 1861م…
والذي ورث الكرسي البطريركي من بعده شمعون اوراهام ابن روئيل ، الذي انجب بنيامين واوراها المنذور وناثان واسحق ، وكان اوراهام ولي عهد عمه مار شمعون يونان ، وناطر الكرسي البطريركي ،.
في ص162 من كتاب القوش عبر التاريخ لمؤلفة المطران يوسف بابانا ، يذكر بأنه كانت هناك عداوة متأصلة بين امير اليزدية “علي بك” وبين بعض عشائر المزور وتطورت الامور الى قتل علي اغا غدرا ، فاتهموا به الايزدية ، وكان للمقتول ابن اخ وهو رجل دين والمدعو ” ملا يحي ” رفع ظلميته الى امير راوندوز محمد باشا ” ميراكور ” ناشده للانتقام من اليزيدية، فاستجاب لطلبه ، وقرر الانتقام
منهم.
وعن الاستاذ لطيف بولا ذكر لي بان ميراكور بدأ بحملة ابادة الايزدية من قضاء راوندوز وواصل مسيرته لقرى الايزدية بعشيقة وشيخان والقرى الايزدية القريبة من القوش ، وكان ذلك سنة 1832 ، وعندما التجأ قسم من الايزيدية الى القوش ، والقسم الاكبر هرب الى الموصل ولكن وجدوا ابواب سور الموصل مقفلة فمنعوا من دخول الموصل ، فلحقهم الجزار ميراكور وشرع بقتلهم جميعا ، بعدها توجه الى الشمال لملاحقة الاخرين مارا بتلكيف وتلسقف ولم يقتل منهم احدا ، لذلك يقول المطران ايليا في كتاب تاريخ بطاركة البيت الابوي ص127 ، بان ميراكور كان رجلا طيبا مع الناس الطيبيين والمتواضعيين الهادئين ، وقاسيا صارما مع الاشرار واللصوص والسراق ” انتهى الاقتباس.
ويضيف الاستاذ لطيف بولا بالقول عندما وصل مشارف القوش وعلم الايزدية في القوش بخبره اصابهم الذعر وهربوا ، فلما علم ميراكور بهربهم اعتبر ذلك خيانة من اهالي القوش له ، فاجتاح القوش وقتل “397 ” شخصا من ضمنهم رئيس القوش انذاك المدعو عوديشانا واولاده السبعة ، وهو من عشيرة شمينا من ” ايني دنوني ” كاني ماس “.. وقد نالوا اكليل الشهادة ومنهم كذلك الاب جبرائيل دنبو ريئس الدير،
وارتكب ازلام الجزار جرائم بشعة بالقوش فسلبوا ونهبوا كنوزها وسبوا نساءها ، انتهى الاقتباس.
وقد خُلدت هذه الذكرى المأساوية في قصيدة للقس دميانوس حنا كونديرا ،الراهب الالقوشي ، فوصف الجزرة باسهاب ،كما ذهب القس يوسف عبيا بقصيدة القاها بمناسبة مرور المائة سنه على حدوثها ، واشار اليها القس سليمان الصايغ في كتابه تاريخ الموصل الجزء الاول ص 306 -308 ..
امتدت سيطرة ميراكور حتى ماردين ،منح قواته حرية لارتكاب جرائمهم فامعنوا في القتل والنهلب والسلب والتخريب والتدمير ، مستغلا فرصة ضعف الحكام العثمانيين في الموصل والعمادية ، اللذان كانا تحت ولاية والي بغداد ، فاستطاع ان يبسط سيطرته ويتخذ من حصن العمادية مركزا له ،ومن هناك كان يدير المنطقة كملك صغير ،.
وعندما علم ابراهيم باشا والي بغداد بخبره وبتخريبه للمنطقة شرع يكتب الى استنبول بشانه ، فخرج عليه رشيد باشا من بيزنطة بقوات كبيرة فهرب ميراكور مع قواته عائدا الى منطقته ، ودام حكمه قرابة اربع سنوات .واصبح رشيد باشا حاكما على الموصل وسمى ب محمد باشا انجي بير قدار ، وكانت القوش تابعه له واحيانا كان تتبع حاكم عمادية ويضمها اليه ،.
انتهز الاكراد في مناطق الجبلية الفرصة، لرفع رؤؤسهم وتشجعوا ليمارس كل في منطقته الظلم واضطهاد المسيحيين جيرانهم ويحملون عليهم ويسلبون اغنامهم ومواشيهم ودوابهم ويخربون بيوتهم وبساتينهم ويقتلون كل من يقع بايديهم .
بسب ذلك اخذ سكان القرى المسيحية الصغيرة يهاجرون وينتقلون الى الاماكن المنيعة حيث التجمعات الكبيرة لاخوتهم ، مستجبرين بهم مثل مناطق تخوما وجيلو وباز وغيرها ، لان بقائهم في قراهم الصغيره كانوا يتعرضون الى اضطهاد من رئيس القبيلة اومن اهالي القرى الكردية ، فاحتموا في كنف ابيهم البطريرك ، ليخلصهم من نير العبودية القاسي،
اغاظ ذلك الاكراد فتجمعوا وتشاوروا واتفقوا وقصدوا الامير بدرخان في جزيرة بازبدى ، واتهموا مار شمعون والمسيحيين بازدراء الدين الاسلامي وشتم محمد وتدنيس المساجد والقرآن ،..
كان المبشرون الغربيون خلال فترة بين 1831 – 1843 ، لهم دورا مؤثرا وفعال في حياة الشعب الاشوري، كانت منطقة اورمي اهم المناطق التي يسكنها الاشوريين من المذهب النسطوري ، فاصبحت في القرن التاسع عشر مركز للمنافسة التجارية بين روسيا وبريطانيا ، فاخذ الاهتمام بها وبسكانها لكسبهم لطرفه ومذهبه الارثوذكسية ام الكاثوليكية ؟. في هذه الحقبة اشتد نشاط البعثات التبشيرية البرتستانية في المنطقة.
في عام 1833 م عرض الكاردينال الكاثوليكي في مدينة ( كوخان ) ايران اربعة الاف تومان للبطريرك مار شمعون لاقناعه باعتناق المذهب الكاثوليكي وترك النسطورية ، فرفض هذا الطلب بشدة ..
كان بدر خان يعد العدة لمواجة الاشوريين ، فوجه رسائل الى زعماء القبائل الكردية يدعوهم الى الاجتماع للجهاد ضد المسيحيين ، وجاء بنص الرسالة كل من يمتنع ولم يشارك في قتالهم تكون زوجته مطلقه وتحرم عليه ، كما كان وفد منه قد وصل اشيثا في ايار 1843 ، حاملا دعوى الى الدكتور كرانت المبشر لحضور ذلك الاجتماع ،وفي 6 حزيران سنة 1843 قصد كرانت مقر بدرخان وكان ابناء تيارى على وجه الخصوص في خشية وقلق لما يجري ، والشك باستعدادات القبائل الكرديه لامور مشبوهة ، وبينما كان كرانت يستعد للذهاب للاجتماع الحربي الذي ستضع خطة لقضاء على القبائل الاشورية المستقله طلب منه المسيحيين مساعدتهم في تلك الظروف الحرجه الا ان جوابه كان انا لا اتدخل بالسياسية ، قال هذا وهو يغادر لحضور اخطر اجتماع سياسي وحربي.
كان كرانت المبشر الامريكي قد توصل الى تقسيم الصف الاشوري وجعلهم في مجموعات ، وصل كرانت الى مقر بدرخان بك وكانت مجموعة من اغوات الاكراد هناك فسمى مؤتمرهم هذا ( بمؤتمر دير كلي) نسبة الى مكان انعقاده ، ابتدأ هذا المؤتمر اعماله منذ 13 / حزيران / 1843 ولمدة عشرة ايام.
استقبل كرانت من قبل اغوات الاكراد المجتمعون بحفاوة بالغة اثناء وصوله ، كان اهم الحضور في المؤتمر ( بدرخان ، واسماعيل باشا العمادية ، ونور الدين بك ، وعبد الصمد بك ، وزينل بك وتناراغا اضافة الى قائمقام ارضروم والموصل التركيتين ) . كان موضوع المؤتمر وما تم التدارس به وخطط له هو وضع خطط الهجوم على الاشوريين النساطرة واخضاع قبائلهم .
ويذكر المبشر جورج بادجر ويقول بأن كرانت المبشر كان على علم بخطط الاتراك والاكراد والمذبحة التي ستقع الا انه لم يبلغ بها الاشوريين ، لانه اعتقد بان اخضاعهم سيفسح له المجال بنشر كلمة الرب بينهم ، وفعلا بعد رجوعه الى اشيثا ، بدأ الهجوم في 15/ تموز / 1843 بتحالف الاكراد بقيادة بدرخان امير بوتان وامير حكاري على اقليم ” دز ” وبعدها الهجوم على تياري وحكارى ، يستمر الاكراد بالهجوم على مناطق الاشوريين ، ويذكر القنصل الانكليزي في 29 / تموز / 1843 بان البطريرك مار شمعون اوراها نجح بالهروب الى الموصل وطلب الحماية البريطانية له ولشعبه .لان البريطانيين كانوا يعملون من أجل تحسين وضع أتباع بطاركة كنيسة المشرق في الدولة القاجارية خلال عهد الشاه ناصر الدين القاجاري (1848-1896)…
حاول الضغط على القنصلية البريطانية لإيقاف حملة بدر خان، غير أنه وضع تحت الإقامة الجبرية ، بأمر من والي المدينة ، الا انه تمكن من الفرار مجددا إلى أورميا. قام بدرخان بالهجوم على عشائر تخوما سنة 1846 منفذا مجزرة أخرى بهم، ما دفع البريطانيين إلى زيادة الضغط على الباب العالي من أجل إخضاعه،وايقاف هجومه وجرائمه .وهو الامر الي تم 1847م.
كانت الفترة المحصورة بين 1841 – 1846 م فترة عاصفة في تاريخ القبائل الاشورية المستقلة ، اذ اخذت تعاني من الاضطهادات والصراعات من اطراف مختلفة من الاكراد والاتراك والمبشرين الانكليز والامريكان ، فنجد مار شمعون اوراها يكتب الى رئيس كانتربري في اب / 1849 م قائلا ( كنا نعيش بسلام قبل مجىء المبشرين الامريكان ، والان يجب ان نكون حذرين منهم). ويذهب الكاتب جورج قرم بكتابه ” تعدد الاديان والانظمة”، بأن سياسة المبشرين خلقت العداء بين الاسلام والمسيحيين اذ سعى المبشرين الى خلق بؤر استعمارية في مناطق النفوذ العثمانية ، وكان التبشير واستغلال الدين هو الجسر الذي استعملوه للوصول الى اهدافهم.
ويذكر المطران ايليا ابونا في ص 128 من كتابه تاريخ بطاركة البيت الابوي ،
مكث مار شمعون اوراهم في الموصل لفترة طويلة، وآباؤنا رحمهم الله رووا لنا انهم كانوا ولمرات عديدة يقصدون قداسة البطريرك، ويتبركون منه ويسألونه عن حال الأمة والكنيسة وما سيؤول اليه مصيرهما .
واذ رأى ابناء الأمة ان بطريركنا الأخير مار يوحنان قد توفي، وقام بعده نيقولاوس زيعا وأصله من سالاماس، تجمع ابناء الكنيسة كلهم وقصدوا مارشمعون وبينوا له الظروف التي كانت تعيشها كنيستهم القديمة التي سقطت من مجدها ووقارها، وخسرت ابناءها كلهم بخروجهم وانتمائهم الى الكنيسة الكاثوليكية، ولم يبق سوى جماعة قليلة. ولوجودكم هنا علمتم بأن بطريركنا قد انتقل من بيننا وتركنا كاليتامى بلا اب روحي يتولانا ويهتم بنا. ولربما كان تدبيرا إلهيا ان تأتوا عندنا وتطلعوا على اوضاعنا بعد موت بطريركنا وتركه للكنيسة والرعية لتتولوا العناية بهما بعد ان انتصرتم على اعدائكم …
ولأننا بلا بطريرك ، ولا ولي عهد للكرسي البطريركي كما كانت العادة المتبعة لدينا منذ القدم، والسبب هو ان الجانب المضاد لنا كان اقوى منا فتغلب علينا ولم نقدر من الوقوف بوجهه، لذلك نتوسل ونطلب من قداستكم ان تنظروا الينا بعين الرحمة وتمكثوا عندنا وتكونوا لنا راعيا حقيقيا وأبا رؤوفا، وانكم انتم ورثة البيت البطريركي وكرسيه شرعا وقانونا، وابناء هذا البيت دم وجسد واحد، انتهى الاقتباس.
وكانت المفاجئة بأن مجموعة من وجهاء القوش ورجالاتها قدموا طلب ” مضبطة وثيقة “، موقعة من قبلهم للبطريرك اوراها.
وبعد ان أبدى الطوباوي تعاطفه معهم ، تنهد بعمق وقال: ابنائي الأحبة انا احس وأعيش كل العذابات والمظالم والاضطهادات التي مورست بحقنا وبحقكم انتم ،أحبتنا وأخوتنا. واليوم اضفتم حزنا على احزاني لكونكم تعيشون ظرفا صعبا ومريرا. كم اتمنى لو كان بمقدوري ان اضمد جراحاتكم التي هي جراحاتي، احس بآلامها القاسية التي لا تطاق. ليتنى كنت اقدر ان امكث معكم وبين ظهرانيكم ،.
كونوا على ثقة انه لا حاجة لأن اثبت لكم صدق رغبتي وشوقي الكبير للاقامة هنا اذ لا فرق بين كراسينا سواء كنا هنا أو هناك لا فرق بين كرسي بابل وكرسي قودشانوس لاننا جميعنا ابناء كنيسة واحدة، وايماننا واحد، وهدفنا واحد، وبطريركنا كان دائما واحدا وكلنا تبعناه وتقبلنا تعاليمه بلا تمييز ولا اختلاف مطلقا..
ولقد سمعتم و علمتم ولعل بعضكم قد اطلع على الأمور بشكل مباشر، وغدت كل تلك المصائب والنكبات والعذابات والقتول والاضطهادات والاهانات وتخريب البيوت والكنائس واحالتها الى خرائب وانقاض ، اقول لقد غدت كل هذه الأمور معلومة للجميع، فلقد تفرق الابناء وتشتتوا وتاهوا في الجبال والوديان وها قد مضت فترة طويلة وانا اجهل اخبارهم ولا اعلم ماذا حدث لهم وما هو مصيرهم…
فلقد تركتهم فى حالة يأس وشك في احتمال استقامة امورهم وعودتهم الى مواطن سكناهم. وإن انا مكثت هنا عندكم، فسوف لن يتفهموا سلوكي هذا مهما كانت قوة ايمانهم، وسيصعب عليهم تصديق كل العلل والمبررات التي نرتكزعليها انا او انتم. هل سيصدقون بأني أمكث هنا بملء ارادتي من اجل الكنيسة وتقدمها، ومن اجل نصرة الأمة والحفاظ عليها ؟ ترى الا يشكون بي من انني لم اعد اليهم خوفا من الاكراد، أو من الاجراء التعسفي الصادر من المملكة التركية والقاضي بعدم عودتي الى بيتي ،؟
بهذه وغيرها من العبارات الملائكية ، كما يذكر المطران ايليا ص129 عن ابائه كان يخاطبهم الطوباوي ، حتى اقتنعنا بضرورة عودته الى مقر كرسيه، ونحن على يقين من ان صدره كان يغلي بالحب لنا،
كانت كلماته احلى من العسل. وفارقنا مع مرافقيه بعد ان طلبنا منه أن يصلي ويباركنا ، وعاد البطريرك الى مستقره في قودشانوس، والتم حوله ابناء رعيته وصدورهم عامرة بالفرح، وملء افواههم الضحك والسنتهم ترفع التسبيح لله ،لنجاح راعيهم وانتصاره على الاعداء. وراحوا تدريجيا يعيدون بناء مساكنهم ، ويقيمون قصورا جديدة اكثر من السابق.
ويذكر الدكتور هرمز ابونا في ص 280 -281 من كتابه صفحات مطوية من تاريخ الكنيسة الكلدانية : نقلا عن ما كتبه مدير متحف البريطاني ” السير والس بدج “الذي له العديد من المؤلفات عن بلاد الرافدين ، يذكر السير بدج يقول في رحلتي في سهل نينوى وحالة كنيسة المشرق بعد ان تعرضت للهجمات المتواصلة وما تبقى من مؤمنيها وقرى المنطقة مشيرالى ما حصل له وهو في تلكيف يذكر :
… ما بين عشرين الى ثلاثين من الكهول ” وشيوخ تلكيف ” تجمعوا في الغرفة ، وجلسوا على الافرشة المحاذية للجدران ، وبعدها اخذ الكاهن يشوح لي ماذا يريدون ، ان جوهر حديثه كان كالاتي :
ان الفرع النسطوري الذي ينتسب اليه كلدان تلكيف كان معرضا لخطر الزوال ، ان تحركات مبعوثي روما من ناحية ونجاح عمل المبشرين الامريكان من ناحية الاخرى ، كانوا يهددون كنيستهم وان اعدادا كثيرة من اتباعهم قد تبعوهما ولم يعودوا يتهمون بعقيدتهم الدينية وان رأى الكلدان في الوقت الحاضر بأن محاولة جازمة يجب القيام بها على الفور لمواجهة نفوذ روما ونشاطات الامريكان وجعل الحياة تعود لكنيستهم .
لقد كتبوا ” والقول لمدير المتحف ” طلبا قام بقراءته لي .. الكاهن غمر ختمه في الحبر ثم وضعه على الوثيقة ، وبعدها ظهر خط بدا وكان لا نهاية له من الرجال توالوا في المجئ كل منهم بيده ختمه الشخصي مضيفين اختامهم على الوثيقة بكل صمت “..
ويضيف بأن هذا التماس من اهل تلكيف كان مقدم الى الملكة فكتوريا ملكة انكترا انذاك ، يرجون مساعدتها لهم لتخلصهم من اضطهاد الكاثوليك ،.
توفى البطريرك مار اوراهام سنة 1861 م ..
بعد ان كان قد وضع يده ورسم ولي العهد ابن اخيه روئيل بنيامين،
الذي سيكون موضع حديثنا في الحلقة القادمة ان شاء الله.