أثرا كادو – القوش
تمر علينا يوم 15 آذار 2021، الذكرى التاسعة والثمانون بعد المئة (١٨٩) للمجزرة التي أقامها أمير راوندوز، الذي كان يلقب بـ(ميري كور) أي الأمير الأعور، وفي مقالي هذا، أضع بين أيدي القارئ الكريم مصدران تاريخيان عن هذه الحادثة، أولهما تراجم من أبيات قصيدة للقس دَميانوس والثاني مقدمة قصيدة القس يوسف عبيّا.
قبل أيام حصلت، عن طريق أحد الأصدقاء الإيزيديين الذي تعرفت عليه بأحد مواقع التواصل الاجتماعي، على نسخة الكترونية من قصيدة باللغة السريانية الفصحى عن هذه الحادثة، والموجودة في المكتبة العامة في برلين، والتي كتبت بيد القس الألقوشي (دَميانوس كونديرا 1803 – 1868) سنة ١٨٥٥، ونسخها جيريميا شامير، وكان قد ترجمها إلى العربية الباحث الإيزيدي مِراد ختاري ونشرت الترجمة في مجلة (إيزيدخان) سنة ٢٠١٨، وقد أضفت بدوري ترجمة بعض الأبيات التي لم تترجم، مع تعديل على أبيات أخرى كانت ترجمتها غير دقيقة.
وفي ذكرى هذه المناسبة الأليمة، نستذكر شهداء القوش، وشعبنا الكلداني السرياني الآشوري والعراق والحرية والإضطهاد في كل العالم، ونتمنى أن يتعض الأبناء مما فعله الأجداد ويعلموا بأن لا ظالم دام ولا مُضطهِد انتصر في النهاية، وإعتراف الأحفاد بجرائم ومذابح أجدادهم هو الإنسانية الحقيقية.
أكتب للقارئ الكريم ترجمات من قصيدة القس دَميانوس، والذي سرد خلالها أحداث هذه الجريمة البشعة:
يبدأ القس دَميانوس بذكر بعض التفاصيل عن المذبحة التي طالت الإخوة الإيزيديين، قبل بدئه بوصف بشاعة المجزرة التي حدثت ضد أبناء القوش، من قبل الأمير الكردي، محمد باشا الراوندوزي، ورجاله الذين يصفهم حينها “أبناء الأمة الغائرة في الظلم، سوران، أمة لا تعرف الرحمة، قلب أفرادها قاسٍ ومليء بالحقد والرجس”، حيث جاء الأمير الراوندوزي “الذي كان رمز التسلط والظلم” إلى الموصل، وخاف منه الناس، لكنه عبر بهدوء، إذ غايته كانت “أمة إيزيد [الإيزيديين]، الذين تمردوا عليه”.
وفي طريق العودة حاصر قرية حتارى في ٩ آذار، وقتل رجالها وسبى نسائها، وهذا أدخل الرهبة في قلوب أهالي القوش، وخلال مغادرته، قابله وأغواه الملّا يحيى الذي يحقد على الإيزيديين والألقوشيين، فأقنع الأمير أن يهجم على القوش، وهكذا، وبعد اسبوع من الهجوم على قرية حتارى، وتحديداً يوم الأربعاء في 15 / 3 / 1832، والذي كان منتصف شهر الصوم الكبير، أحاطت قوات الأمير ألقوش، منهم من توجه نحو القوش مع أميرهم، وآخرون خرجوا على حدود الجبل “ونحن بقينا في وسطهم”، لكن أهالي القوش لم يعلموا بالقوة التي كانت على الجبل، فعند اقتراب الأمير إلى القوش، توجه أهلها نحو الجبل، وبعد وصولهم للقمة، واستراحتهم قليلاً، وهم يتشاورون عن ماذا سيفعلون وإلى أي قرية سيلجؤون، بدأ صراخ قوات الراوندوزي من جهة الدير، بصوت “صداح كصوت العاصفة… زأروا الكفار كالأسد، وصهيلهم كصهيل الحصان، وموكبنا ضعيف القوة، اخذته الفزعة والرهبة”، فتركوا أبنائهم وبناتهم وأموالهم وماشيتهم لينجوا بحياتهم، فبدأ المجرمون يطاردونهم ويقتلونهم كالشياة، فإمتلأت الجبال والسهول بجثث الأطفال والصبايا، إذ لم يرحموا الصبي ولا الطاعن بالسن، إذ جردوا الرجال مع النساء من ثيابهم قبل تعذيبهم وقتلهم بالسيوف، وكان الآباء والأمهات يشاهدون أولادهم يذبحون أمامهم، ويعلمون بأن دورهم قادم “صراخهم كان يهز الأرض، وبكائهم كان يُبكي الصخر”، قتل يومها 7 قساوسة، من ضمنهم رئيس الدير الأب جبرائيل دنبو المارديني، ومن أهل القوش قتل 376 شخص على الأقل، فلم يجد للمقتولين دفّان وأصبحت قبورهم عراء الجبال، وبطون الحيوانات “الأم كانت تنظر إلى إبنها، ولم تستطع إغاثة نجدته… ولم يكن لهم باكٍ، لا للأطفال ولا الفتيات، ولم يقم لهم عزاء”.
ويؤكد “من بعد القتل الذي عملوه، سبوا واختصبوا نساء كثيرات” وجمع الأمير الرجال في الكنيسة وقيدوهم ثم قتلوهم، ودنسوا كل مقدس في بيوت الله، فلم يتركوا شائنة وتنكيس لم يفعلوه، بعدها توجه الأمير نحو نوهدرا (دهوك) ليلاحق الأمير الإيزيدي (علي بك)، حيث الأخير كان قد قتل علي آغا الأليماني (آغا المزوريين)، ابن عم الملّا يحيى، وهذا كان سبب كره الملّا للإيزيديين.
ويذكر القس تناحر أمير الموصل ونده أمير بهديدان، بعد أيام من مجزرة القوش.
لكن مجزرة القوش لم تنتهي هنا، فبعد أيام، أرسل الملّا يحيى أخاه (رسول بك) إلى القوش، بحجة السلام، فهرع أهالي القوش من القرية إلى الموصل، وبقي آخرون من الذين وثقوا بكلام هذا المجرم، وعند وصوله، اقتاد الباقين من أهل القوش وحبسهم وعذبهم في الكنيسة، حيث مات منهم من شدة التعذيب، وآخرون استسلموا من شدة التعذيب وأخرجوا له كل ما تملك القرية من ذهب وخزائن قديمة وحديثة، فكل ما لم يؤخذ من الهجمة الأولى، أخذوه في الثانية، وإلى حينها إنتهى غزو القوش.
ومن ألم القس دَميانوس على أبناء شعبه، يذكر معاناتهم ويتوسل لله، وعن المآسي الثلاث المتتالية التي واجهتها القوش حينها، فقد كان الجوع وبعده الطاعون وختمها المجرم ميري كور بهجومه وإبادته لأهلها.
وينهي قصيدته بطلب المغفرة من الرب، وإنهاء الظلم على أبناء القوش والمنطقة، فقد عانوا الأمرين وهلكوا، ويتضرع إلى مريم العذراء وإبنها المخلص، ويرحم الشهداء وينير حياتهم في ملكوته الأبدية.
مقدمة قصيدة “سيف القوش” للأب يوسف عبيّا، في الذكرى ١٨٩ لحدوثها
قبل سنوات، كان لي الشرف أن أنضد كتاب الأب الشاعر يوسف عبيّا (١٨٨٠ – ١٩٦٥) ، الذي هو من إعداد وتقديم المربي الفاضل المرحوم نوئيل قيا بلو (١٩٣٤ – ٢٠١٢)، وهو بعنوان (مباخر وبخور) ويحوي في صفحاته قصائد القس عبيّا التي كتبها خلال حياته، وطبع الكتاب في مطبعة هاوار في دهوك سنة ٢٠١٦.
وخلال قراءتي للكتاب، ومن القصائد التي أدخلت الحزن والألم في صميمي، كانت قصيدة (سيف القوش – ܣܝܦܐ ܕܐܠܩܘܫ) باللغة السريانية – لهجة القوش، والتي يذكر فيها الأب عبيّا تفاصيل المجزرة التي قام بها الأمير محمد الراوندوزي (الأمير الأعور) على أبناء القوش سنة 1832.
وكمقدمة للقصيدة، كتب السيد نوئيل بلو نبذة عن الحادثة، وترجمة من القصيدة.
استذكاراً لهذه الذكرى، ولأهمية هذا الحدث التاريخي، أنقل للقارئ الكريم ما موجود في مقدمة القصيدة، بدون إضافة أو إلغاء ، ولكل من يرغب بقراءة القصيدة بنسختها السريانية، فهي في الكتاب المذكور أعلاه من الصفحة ٣٩٧ إلى ٤٢٩.
يبدأ الإقتباس:
حدث هذا السيف سنة 1832م، وألف القس يوسف عبيّا هذه القصيدة سنة 1932م في الذكرى المثوية لهذه الحادثة.
في العهد العثماني كان الأمن مفقوداً والقرى والأرياف معرضة للسلب والنهب والقتل وليس من يحميها ويذود عنها، وفي سنة 1832م جاء من راوندوز أمير يدعى محمد باشا الراوندوزي، وكان يلقب بالأمير الأعور “ܡܝܪܐ ܟܘܪ” وهجم بجيشه على القوش وقتل الرجال والنساء والأطفال ونهب وعبث، ولم يترك شيئاً سليماً، حتى الكنيسة دخلها وقتل من وجدَ فيها من قسس وشمامسة ومؤمنين، ومزق كتبها، وإلى اليوم يوجد في مكتبة الكنيسة كتاب الصلاة “الحوذرا”(1) خودٌرًأ مضروب بسيف ميري كور وممزقة أوراقه، ولا زالت آثار السيف واضحة وقد أصلحت وجلدت من قبل القس أوراها شكوانا وتستعمل للصلاة الطقسية.
هذه الحادثة كانت مؤثرة كثيراً في تاريخ القوش وتحدّث عنها الآباء ونقلوا خبرها للأبناء، وكتبوا فيها قصائد ومداريش كثيرة لأنها كانت فاجعة لا تنسى، والقس يوسف عبيّا لم يعش الحادثة، لكنه سمعها ممن عاشوها وعانوا أحداثها، ومن جملتهم القس متي رئيس ((ولد سنة 1813 – وتوفي سنة 1912م)) فقد رواها له – هو وغيره من المسنين آنذاك، فتأثر بها وألّف فيها هذه القصيدة الطويلة التي تقع في (160) مقطعاً كل مقطع يتكون من ثلاثة أبيات.
تتحدث القصيدة عن الفاجعة التي ألمت بألقوش، وتصف في بدايتها الأوضاع السياسية السائدة آنذاك، وكيف كانت البلاد تُحكم من قبل أمراء مستقلين كل أمير كان حكومة قائمة بذاتها، يفعل ما يشاء بالمنطقة الواقعة ضمن إمارته. وكل أمير قوي يستولي على الإمارة المجاورة له.
كان بين الأمير الراوندوزي وأمير بهدينان عداوة ومشاحنات مستمرة كل يريد الإيقاع بخصمه للنيل منه، وكانت القوش في تلك الفترة خاضعة لحكم أمير العمادية الذي كان يحكم على منطقة بهدينان، وكانت أمارة بهدينان تضم عشائر كردية عديدة منها – عشيرة المزوري. التي كانت تميل إلى أمير راوندوز بسبب مقتل رئيسها. علي أغا – من قبل علي بك أمير الشيخان اليزيدي بإيعاز وتحريض من أمير بهدينان.
وكان لعلي أغا ابن عم يدعى ملا يحي المزوري، اغتاظ وغضب لمقتل ابن عمّه –علي أغا- فلجأ إلى الأمير الراوندوزي ميري كور الذي كانت تربطه معه صداقة قديمة، واستنجد به ليثأر له من اليزيديين، وأوغر صدره وألبَهُ على ابادتهم والإستيلاء على منطقتهم، ووقع كلام ملا يحي موقعاً حسناً من نفس الأمير الأعور، لأنه كان يخفي بين جنباته عداوة وحقد قديمين على أمير بهدينان فوجدها فرصة مواتية لاكتساح أمارته والاستيلاء عليها، فجمع جيشاً كبيراً من الراوندوزيين وتقدم لمقاتلة اليزيديين، وفي الطريق تمردت عليه عشائر (دزداي وكرداي) فحمل عليها بجيشه القوي الذي لم يكن لديهم القوة الكافية لمواجهته، فتركوا أماكنهم وهربوا من أمامه، فتبعهم حتى نهر الخازر وتركهم وتوجه إلى جبل مقلوب، وهناك قتل عدداً كبيراً من اليزيديين، فخاف أهالي بعشيقة وبحزاني واليزيديين القاطنين حواليهم، فتركوا أماكنهم وهربوا مذعورين واتجهوا إلى الموصل مستنجدين بواليها لينقذهم من غضب ميري كور، وحطوا الرحال فوق تل قوينجوق. أما ميري كور وعساكره فوصلوا ضواحي الموصل فخاف والي الموصل من دخول الجيش الراوندوزي إليها فقطع الجسر، وحاصرت عساكر ميري كور مدينة الموصل لعدة أيام. والتقى باليزيديين المتواجدين في تل قوينجق فأحاط بهم وأعمل السيف في رقابهم. ومن هناك توجه إلى تلكيف، فخرج رؤساؤها مذعورين لاستقباله، وتوسلوا إليها، مدعين أن مدينتهم هي مدينة النبي (يقصدون النبي يونس)، فتركهم ولم يمسهم بسوء، سوى قتل يزيدي واحد كان متواجداً هناك، ومن هناك قصد النوران والتقى هناك ثانية بعشائر –الدزداي وكرداي- فقاتلهم وشتت شملهم، ثم عاد إلى اليزيديين، وأول قرية صادفها كانت –قرية حتارى- فأعمل فيها السيف، وقلب أفراحها مآتم، وتركها وتوجه إلى منطقة النوران وظهر جبل مقلوب المأهول بالقرى اليزيدية، فأبادها وأذاق أهاليها مرّ العذاب… ولما سمع أمير اليزيدية –علي بك- بذلك، جمع رجاله وهرب إلى القوش واحتمى بها، واتفق مع رؤسائها على مقاومة الميري كور. وكان رئيس القوش آنذاك –عوديشانا- وتم الاتفاق بين الألقوشيين واليزديين على الصمود ومواجهة جيش الأمير الأعور ومقاتلته، فلما سمع ملا يحي المزوري بهذا الاتفاق غضب وامتعض وخطط للنيل من أهالي القوش أيضاً، فذهب إلى الأمير وأوغر صدره على المسيحيين في القوش، وخاصة لإيوائهم اليزيديين الهاربين من وجه الأمير.
فحمل الراوندوزي على القوش. أما علي بك –أمير الشيخان- المتواجد هو ورجاله في القوش، لما رأى عساكر الأمير قد وصلت مشارف القوش، هرب خلسة في الليل هو ورجاله ناقضاً اتفاقه مع أهالي القوش، فلما أصبح الصباح وعلم الألقوشيين هروب اليزيديين وأميرهم، أسقط بيدهم وهبطت همتهم وخار عزمهم وتملكهم الذعر وارتبكت خططهم الدفاعية ودخل الشك نفوسهم، وظنوا أن لا قِبَلَ لهم بمقاومة الأمير الراوندوزي وحدهم، فقرروا الهرب طلباً للنجاة رغم اصرار عوديشانا٢ رئيس القوش على البقاء والدفاع عن القصبة، لكنهم لم يصغوا إلى رأي رئيسهم، وتبعثر الناس في كل الاتجاهات. وقد تملكهم الذعر والخوف، فلما رأى ميري كور أن الألقوشيين يهربون من أمامه، تشجع وامتلأ ثقة، فأمر عساكره بالهجوم على القوش من جميع الجهات، وأعمل السيف في كل من صادفه.
كان يوم الأربعاء وسط الصوم الكبير 15 آذار سنة 1832م عندما دخلت عساكر ميري كور القوش وسفكت دماء الأبرياء.
وهنا يسترسل القس عبيّا في وصف المآسي والفواجع التي اقترفتها عساكر الأمير الراوندوزي في قتل وتعذيب أهالي القوش، الذين تبعثروا في الجبال والمغاور والكهوف والسهول والروابي، فاصطبغت هذه الأماكن بدمائهم الزكية.
لقد قتل في هذه الفاجعة ما يربو على 370 رجلاً عدا النساء والأطفال، كما قتل سبعة قسس وثلاثة رهبان مع رئيس الدير الأب جبرائيل دنبو المارديني.
وفي نهاية القصيدة يدوّن القس عبيّا اسمه في أحد أبياتها ويطلب الرحمة والغفران لكل الضحايا والشهداء الذين استشهدوا في هذه المذبحة. [انتهى الإقتباس].
وهنا أود أن أنقل القارئ الكريم إلى مقال آخر، وترجمة أخرى لقصيدة القس دَميانوس كونديرا (1803 – 1868)، والتي كتبها سنة ١٨٥٥م، من خلال ما عاناه خلال تلك المجزرة، إذ عاشها وكان شاهداً لها، القصيدة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنظر فهرست المخطوطات السريانية في العراق / الجزء الأول ص271 رقم 105 إعداد السادة (صنا – بلو – سكماني) بغداد 1977.
من أسرة شمينا الألقوشية.