1. Home
  2. /
  3. اراء
  4. /
  5. مقالات
  6. /
  7. ترميم الذات القومية… جدلية...

ترميم الذات القومية… جدلية الفرد والجماعة.. بين الحاجة إلى التغيير وضرورات الاستمرار

“الجزء الثاني”

جورج هسدو

بين الفردية والجماعية

يزخر تاريخ شعبنا المعاصر (بعد اعتناقه المسيحية) بالكثير من التطورات والتقلبات التي أثرت على هويته ووجوده، منها ما كان في مصلحة شعبنا كالحفاظ على اللغة الأم والتشبث بخصوصياته وتراثه المشرقي مثل الاحتفال بمناسبة عيد نوسرديل وصوم باعوث نينوى.. ومنها ما أثر سلباً على هويته وديموغرافيته وجغرافيته، وذلك عندما لجأ رجال الدين إلى تبني تسميات قومية وإلصاقها بكنائسهم المنشطرة والمتصارعة، فحول رجل الدين الكنيسة والرعية إلى سلاح يحارب بهم منافسه (إخوانه) تارة لتحقيق مصالحه وتارات لتمرير مشاريع خارجية.. وبالرغم من بزوغ نجم (أفراد) من المبدعين من أبناء شعبنا في المجالين الديني والسياسي عبر تاريخه الحديث، إلا أن (الجماعة) لاقت الكثير من الفشل وتراجع المستوى وخصوصاً لما يخص التعبير عن الذات ومجاراة منافسة الجماعات المحيطة (المختلفة والمتربصة).. ورغم إقرارنا بالتأثير السلبي لأخطاء الأفراد وميولهم وحتى مزاجيتهم على مستقبل الجماعة عندما يتسيد ذلك الفرد قمة الهرم الاجتماعي باعتباره القائد الأعلى، إلا أنه لا يمكن إخلاء الجماعة من مسؤوليتها في إبداء الرأي والنقاش، فالفرد لحاله يفكر بعقله بينما في الجماعة يتبع رأيها ورؤيتها.. وهنا يمكن لنا أن نستدل بأمثلة عديدة، فالقائد العسكري أغا بطرس خسر مشروعه القومي بسبب انقياد الجماعة لرغبات الرؤساء العشائريين الذين كانوا يتبعونهم، والكاتب نعوم فائق والمفكر فريد نزهة فشلوا في تنوير الجماعة بسبب انقيادها للخطاب الديني البالي لرجال الكنيسة المحافظين والانتهازيين.. وحتى في الماضي القريب بعد انتشار الأفكار الليبرالية والحركات التحررية، نرى أن الجماعة (المقولبة) غالباً ما تتبعت الطوطمية الحزبية وتحولت إلى أداة بيد الفرد وأصبحت تعبد الشكل بدلاً من إيمانها بجوهر الفكرة، وبالتالي خسرت روح الجماعة كما لم تتنعم بنجاحات الفرد.

لذا فأنه لا يمكن ترك لا الفرد ولا الجماعة من دون إصلاح وتنظيم العلاقة (التكاملية) بين الطرفين للوصول إلى الغاية المنشودة، فذات الفرد تستغل ذات الجماعة لتحقيق الأنا الشخصية كما تُحجم الذات الجماعية الذات الفردية عند تقاطع الأهداف، وهو ما يشكل بالنتيجة الشخصية العامة للمجتمع الأكبر.. فعلى سبيل المثال إذا استفرد رئيس حزب سياسي برأيه وأهمل رأي باقي أعضاء الحزب فأنه سيتحول إلى دكتاتور وقد يصل به الأمر إلى اختزال كامل المؤسسة بشخصه، أما إذا انصاع إلى رأي أصحابه واستجاب لهم على طول الخط فأنه لن يكون سوى دمية يحركها آخرون وسرعان ما سيتم التخلي عنه وإقصائه.. لذا فتنظيم العلاقة بين الكيان الصغير (الفرد) والكيان الكبير (الجماعة) ووضعهما في أطرهما الصحيحة بما يخدم مصلحة الطرفين سيقلل نسبة الفشل ويزيد من النجاحات، وفي حال مثالنا السابق فإن الأمر لا يحتاج إلا إلى زيادة الثقة بقدرات بالفرد مع إتاحة مساحة أكبر للجماعة للمشاركة في القرار، ومن البديهي أنه كلما كبر الاندماج بين الذاتين صغر الانقسام وبالعكس.. لكن الأسوأ هو عندما يكون هناك خلاف بين ذاتين جماعيتين لنفس المجموعة البشرية، حيث من الطبيعي أن تستغل الجماعة التزام أفرادها لتغذية صراعها مع الجماعة المقابلة وهو ما سيؤدي إلى تفكيك المجتمع ككل، فعندما يوجد أفراد (قادة سياسيين وكنسيين) عنصريين وغير مؤهلين فأنهم غالباً ما سيعملون على تأجيج الصراعات الداخلية ويزيدون من حدة الخلافات بين أبناء الشعب الواحد، وهو ما سيؤدي بالنهاية إلى شق وحدة الصف ويقضي على هوية الأمة الواحدة.

صراع الهويات

أخطر ما يهدد وحدة واستقرار المجتمعات هو وجود صراعات داخلية تشدها للخلف كلما حاولت التقدم وتعيق من مساعي تطورها وازدهارها، بل أن الصراعات غالباً ما تعود بالمجتمعات إلى مربعات (بدائية) ناقلة إياها من الحضارة والرقي إلى البداوة والبربرية ناسفة استقرارها الداخلي.. وهذا بالضبط ما يحصل لشعبنا منذ الحرب العالمية الأولى ولحد الآن، بالدرجة الأولى في العراق كما في كل من إيران وتركيا وسوريا وحتى لبنان، تلك الصراعات (الخارجية والداخلية) التي شلت حركة الفرد وشوشت على مدارك الجماعة بما حملت من أحداث مدمرة وكارثية.. إلى الدرجة التي بات فيها شعبنا يعاني من أعراض زهايمر الانتماء وفقدان ذاته القومية، وتحول من صانع للتاريخ إلى مستهلك سطحي له، حيث تمسك بالساذج وترك الناضج ولم يسلم من الإفساد والتشويه حتى الموروث الشعبي الزاخر بالعراقة، وحلت القيم الأجنبية والدخيلة محل العادات والتقاليد الأصيلة.. فمن ناحية وقع شعبنا ضحية صراع الهويات (المحيطة) فيما بينها أو بينها وبين شعبنا، حيث لم يسلم لا من محاولات التعريب التي تبنتها أنظمة السلطة العراقية المتعاقبة، ولا من ممارسات التغيير الديمغرافي لمناطقه التاريخية التي قامت بها بشكل منظم كل من الأحزاب والمشايخ الكردية.. كما كان ضحية الصراع الكردي-العربي منذ بداية ستينيات القرن الماضي، فهُجر أبناءه واحتُلت قراه وسُلبت ممتلكاته وصودرت إرادته، والأنكى أن يقوم حزب البعث الحاكم نهاية الثمانينيات بإنشاء مجمعات سكنية كبيرة حول قرى شعبنا الأصيلة لإسكان المرحلين الأكراد من القرى الحدودية فيها!!.. دون أن ننسى عمليات القتل الجماعي والمجازر العرقية التي تعرض لها شعبنا بدءاً من (سيفو) ومروراً بـ (سميل وصوريا) ووصولاً إلى (سيدة النجاة)، ذلك الجينوسايد الذي أركع شعبنا وأضاع وجوده وأدخله في دوامة ضياع الهوية وبالتالي خسارة الأرض والإنسان.. ومن ناحية ثانية مزقت الصراعات الداخلية اللحمة القومية لشعبنا وحولته إلى طوائف متخاصمة وعشائر متنازعة وصلت أحياناً إلى حد القتال المناطقي (مثلما حصل مع تجمعات شعبنا القروية في مناطق هكاري)، كما أنتجت هذه الصراعات المستمرة حالة من الضياع الفكري وأدت إلى تقويض بنيانه القومي.

حالياً نحن أقرب ما نكون إلى طوائف متعددة عن كوننا شعباً موحداً وواقعنا عبارة عن مجاميع مختلفة أكثر من أمة متفقة، كما أن إنتماءنا يعاني الازدواجية، ففي الوقت الذي نعتز بانتمائنا الأثني لشعب عريق موغل في التاريخ لما يقرب السبعة آلاف سنة فأننا أيضا نتنصر للمذهب والطائفة حد التصارع.. ورغم سعينا للوحدة ومطالبتنا بها كل الوقت وخصوصاً عند تناولنا لمؤسساتنا السياسية والكنسية بالنقد (المستريح)، فأننا نهلل للمناطقية والعشائرية ونتباهى بالانتماء للنسب والرهط حد السخافة، لابل أننا نتقاتل فيما بيننا وتأخذنا الحمية دفاعاً عن هوياتنا الصغيرة المتعددة وننسى شراكتنا ووحدة هويتنا الكبيرة (الواحدة).. إذاً، فشعبنا اليوم لا يحتاج إلى منظرين ولا إلى واعظين فالكل أصبح يفهم ما يجري ويعرف ما يريد، لكن المؤثرات الخارجية والعوامل الداخلية باتت تلقي بغشاوة على مداركنا ووعينا الجمعي، إلى الدرجة التي أصبحنا فيها لا نفرز بين المفيد والمضر لذاتنا الشاملة.. حيث لا السياسي أصبح قادراً على إقناع الجماهير ولا رجل الدين بات يؤثر في الرعية، والسبب أن قادة شعبنا بأنواعهم (الديني والدنيوي) فشلوا في تحقيق مشاريع استراتيجية للصالح العام، حيث فقد شعبنا ثقته بقادته السياسيين والكنسيين والأنكى أنه بات لا يثق حتى بنفسه.. فنحن اليوم لا ينقصنا التصارع من أجل نيل كرسي برلماني أو منصب حكومي ولا نفتقر إلى الأزمات الداخلية التي عصفت بحاضرنا الإنساني، بل إن شعبنا بأمس الحاجة إلى إعادة الثقة بنفسه وبأبنائه وبقدراته لمواجهة التحديات الكبيرة التي تهدد وجودنا كمجموعة بشرية وهويتنا كمكون أصيل، لكن كيف؟.. هذا هو السؤال الذي يجب الإجابة عنه بحكمة والمسألة التي تتطلب منا حلها (بالتوافق) للوصول إلى النتيجة الفعلية والفاعلة.

zowaa.org

menu_en