كتاب الخيانة البريطانية للآشوريين للمفكر القومي الكبير يوسف مالك (1900 – 1959)، معروف وشائع التداول بين الآشوريين ويعتبر مصدرا مهما لمعرفة الظروف المأساوية التي أنهالت على الآشوريين قبيل وأثناء وبعد مذبحة سميل عام 1933. إضافة إلى إحتوائه على بعض التقارير والمعلومات الرسمية وغير الرسمية ومواضيع معرفية مهمة شارك فيها بعض المفكرين الآشوريين المعروفين أمثال المحامي ديفيد بيرلي وغيرهم من الشخصيات الفكرية والسياسية التي رافقت وعاشت تلك الفترة. بدأ المفكر يوسف مالك بكتابة هذا الكتاب وهو في المنفى وأنجزه في شهر تشرين الثاني من سنة 1933 في جنيف أي بعد ثلاثة أشهر من بعد مذبحة سميل، وساهمت المنظمات القومية الآشورية في الولايات المتحدة منها الإتحاد القومي الآشوري (فيدريشن) على طبع الكتاب عام 1935. وفي تكريسه للكتاب يقول المفكر يوسف مالك “أكرس هذا الكتاب للشعب الآشوري في ذكرى أولئك الآشوريين الذين لاقوا الشهادة على أيدي الحكومة العراقية” ويقصد مذبحة سميل عام 1933. ويذكر المبشر الإنكليزي الدكتور ويليام ويكرام في تقديمه للكتاب “إنني وبمزيد من السرور أقدم كتاب يوسف مالك عن تاريخ شعبه إلى قراء اللغة الإنكليزية، فليس ثمة شعب آخر في تاريخ البشرية من يملك تاريخاً أكثر مجداً أو أكثر إستمراراً عبر الأجيال من تاريخ الشعب الآشوري الذي ينتمي إليه”. الكتاب سبق وأن ترجم من اللغة الإنكليزية إلى العربية من قبل الإستاذ يونان إيليا يونان وبجزئين ألأول الثاني عام 1981، ونشره على نفقته الخاصة، فله تقديرنا وتثميننا الكبيرين لجعل الكتاب متاحاً لقراء العربية.
أود أن أوضح، ونحن في المقدمة، بأن هذه السطور ليس الغرض منها عرض تفاصيل الكتاب ومواضيعه والتي الكثير منها متداولة ومعروفة للآشوريين، بل القصد منها هو ما ورد في عنوان الموضوع في أعلاه عن الرحلة التي إجتازته نسخة من الكتاب وهو في المعهد البريطاني في بغداد، وعن الغيرة والهمة للنادي الثقافي الآشوري في بغداد ولأعضاءه تجاه تاريخ الآشوريين بشكل خاص وتجاه الثقافة العامة بشكل عام. كما هو معروف، كان هذا الكتاب ممنوع التداول في العراق، فحاله كحال غيره من الكتب والمجلات والبحوث التي كتبت عن مذبحة سميل لعام 1933 وعن تاريخ الآشوريين التي كانت الحكومة العراقية تضع حضرا عليها أو تُصادر من قبل رقابة المطبوعات التابعة للجهات الأمنية. غير أنه بفضل المرحوم جورج يوخنا، والد العالم الآركيولوجي دوني جورج، رحمهما الله، الذي كان يعمل مديراً للحسابات في المعهد البريطاني الكائن في منطقة الوزيرية في بغداد، وبحكم القرابة التي كانت تربطنا به، علمنا منه بوجود نسخة أصلية من الكتاب في مكتبة المعهد الذي كان يتمتع بالحصانة الدبلوماسية، لكونه أحد ملحقيات السفارة البريطانية في بغداد.
والكتاب بحكم كونه محضور التداول وغير متاح في الأسواق العراقية، لذلك كان إستعارته وأخذه خارج المعهد ممنوعاً. غير أنه كان متاحاً للزوار لقراءته في مكتبة المعهد فقط. فبعد معرفة بعض أعضاء النادي الثقافي الآشوري عن وجود هذا الكتاب في مكتبة المعهد البريطاني، أصبح شغلهم الشاغل الحصول على نسخة منه. ولما كان الكتاب محدود التداول ولا يسمح بإستعارته خارج المعهد، أصبح موضوع إستنساخه يعتلي رأس وغيرة هؤلاء الأعضاء الغيرون لإستنساخه وجلبه لمكتبة النادي. وهذا الأمر لم يكن سهلا إطلاقا وذلك، بسبب الإجراءات الأمنية وتعليمات نظام المعهد البريطاني بهذا الشأن من جهة، وعدم توفر أجهزة الإستنساخ، ومنها الكومبيوتر في تلك الفترة ، من جهة الأخرى. لا بل، مازاد من صعوبة إستنساخه أيضا هو كثرة صفحات الكتاب والتي أستوجب طبعها وبحدود 330 صفحة، الأمر الذي كان يتطلب وقتاً طويلا لإستنساخه كاملا. علما بأن تعليمات المعهد في تلك الفترة كانت تسمح بإستنساخ أو تصوير صفحة أو بضعة صفحات فقط من أي كتاب أو وثيقة.
شغل هذا الموضوع بال المثقفين الآشوريين في النادي، فأنبرى أحد الغيارى للقيام بمهمة إستنساخ الكتاب أو تصويره، ومن حسن الحظ كان يملك هذا العضو الغيور آلة كاتبة (طابعة) – Typewriterصغيرة وباللغة الإنكليزية والتي كانت توضع في حقيقة (شنطة) صغيرة خاصة بآلة الكاتبة. علما بأن إقناء آلة كاتبه (طابعة) صغيرة كانت أم كبيرة وبأي لغة كانت فإقتناءها كان ممنوعا منعاً باتاً في تلك الفترة إلا بالحصول على إجازة بذلك من مديرية الأمن العامة ووفق إجراءات أمنية طويلة والتصريح عن الغرض من إقتناءها، وإلا فمصيره السجن. ركب هذا العضو الغيور موجه المخاطرة ووضع نصب عينه إستنساخ الكتاب عن طريق طباعته بالألة الكاتبة الصغيرة. وفعلاً، وبفضل بعض التسهيلات من أبن العم المرحوم جورج يوخنا، قضى هذا العضو الغيور ساعات طويلة وأسابيع عديدة وأشهر وبذل جهودا جبارة حتى تمكن من طباعة الكتاب برمته وحتى أخر صفحة منه . ليس هذا فحسب، بل قام أيضا بتصوير الصور الموجودة في أصل الكتاب بكامرته الشخصية (طبعاً الموبايل لم يكن موجود في تلك الفترة). فقام بترتيب الصفحات وقصها بحجم أصغر وخياطة بعضها بالبعض ثم تجليدها لتكون ككتاب كامل. وبعد أنجاز عمله الشجاع هذا، جلب نسخة الكتاب إلى مكتبة النادي فأحتل مكاناَ على الرفوف العالية وبنوع من الإهتمام المقرون بالحذر الشديد وبعيدا عن الأنظار اللئيمة.
كما سبق وذكرنا في مناسبة سابقة، بان النادي الثقافي الآشوري مر بظروف صعبة بعد عام 1981 بسبب نشؤء الحرب العراقية – الإيرانية وإلتحاق بعض أعضاءه بالخدمة العسكرية وسفر الكثير منهم إلى خارج العراق، ومن ثم إنتقال النادي من مقره القديم في منطقة السعدون إلى المنطقة المعروفة بـ “شارع 52” ومن ثم أجباره للإندماج مع غيره من الأندية الآشورية وتحت مسمى “النادي الأشوري العائلي”، والذي سبق ذلك بعض الإجراءات في تصفية النادي من بعض مقتنياته ومنها التخلص من أرشيف النادي وبعض الكتب التي كانت مثار جدل، منها القومية والسياسية، فكانت نهايتهم في برميل النفايات، ومنها هذا الإنجاز العظيم الذي قام به هذا العضو الغيور في إستنساخ هذا الكتاب المعني بهذا الموضوع. لا أدري كيف حالفني الحظ المقرون بدافع من الغيرة على تراث النادي وعلى مكتنزاته الثقافية والعلمية، فذات يوم غصت داخل برميل النفايات أنبش في محتوياته فعثرت على الكثير من الأوراق والوثائق وأجندات إجتماعات الهيئات الإدارية والصور وبعض الكتب ومنها هذا الكتاب المستنسخ. ولكن في معظمها كان تالفة بعض الشيء أو مقطوعة الأوصال ومهلهلة. وعندما أصبح هذا الكتاب المستنسخ بين أيدي أنتابني الكثير من الحزن والكرب لما وجدت فيه من إصفرار أوراقه وتلف البعض منها، ولكن مع هذا تمكنت من رص صفحات الكتاب وتسلسلها. وفي أدناه بعض النسخ من صفحات الكتاب.
وأخيرا… هذا العضو الغيور الذي يستحق أن نطلق عليه بـ “الجندي المجهول” لأنني لم أعد أذكر أسمه، هو صورة من صور أعضاء النادي الغيوريين على تاريخ أمتهم وثقافتها وعلى إستذكار أبطالها الخالدين ومنهم المفكر القومي الكبير يوسف مالك. فألف وألف تحية له إينما كان وفي أي زاوية من زوايا هذا العالم، لأن عظمة عمله الجبار في طبع الكتاب بألة الكتابة الصغيرة، هو عمل عظيم وصورة مصغرة لعظمة النادي الثقافي الآشوري في بغداد وأعضاءه الغيورين على ثقافة أمتهم الآشورية.
هكذا أجتاز كتاب “الخيانة البريطانية للآشوريين” رحلة شاقة وطويلة محفوفة بالمخاطر والمعاناة والتضحيات، فمن مكتبة المعهد البريطاني في بغداد، ثم العمل الشاق والتضحيات لطبع الكتاب ووصوله لرفوف مكتبة النادي الثقافي الآشوري ثم إلى برميل النفايات وأخير على رفوف مكتبة أبرم شبيرا… بالله عليكم يا إعزائي القراء، أليس من حقنا أن نقول مجازاً بأن هذه الرحلة الشاقة والطويلة والمحفوفة بالمخاطر لهذا الكتاب تشبه في بعض من جوانبها الرحلة الشاقة والطويلة والمأساوية لأمتنا الآشورية؟
======================
هذه بعض من صفحات الكتاب المطبوعة بالألة الكاتبة وصور مصورة بكاميرا بسيطة وشخصية.





