بهنام عطا الله
بعد مجموعتها البكر (مطري الموعود) 2014 أكدت الشاعرة فالنتينا يوآرش هيدو حضورها بالمجموعة الشعرية الثانية (سيد الحزن) 2023، وهاهي تواصل مسيرتها بصدور المجموعة الشعرية الثالثة (وشم على ظهر قارب) عن اتحاد الأدباء والكتاب في العراق فضلاً عن عملها في مجال الإعلام، حيث تعد وتقدم برامج ثقافية في مجال الأدب والفن والحياة.
ومما نلاحظه حول مجموعتها الجديدة أنَّها جاءت بعتبة واحدة هي عتبة العنوان فقط بدون عتبات أو عناوين داخلية لنصوصها، فجاءت على شكل مقطعات شعرية ارتكزت على الأرقام فقط كعتبات، فأعطت لكل نص رقماً متسلسلاً من الرقم (1) لغاية الرقم (46) وبهذا نستدل على أنَّ الشاعرة وبذكاء تركت عتبات نصوصها الداخلية مفتوحة للتأويل أمام القارئ ومنحتة حق إختيار العنوان المناسب.
الشاعرة تشتغل على قصيدة النثر ضمن مجايليها من الشعراء من خلال عملية انتقاء ذكية للحدث، ثم تلفه بعد ذلك بصور شعرية تتسم بجمالية البنية اللغوية المتقّنة المنبعثة من المركز نحو الأطراف، لتجعلها دائرة متكاملة مليئة بالأسئلة المشروعة.
كما أن الشاعرة تتسم بجرأتها في الطرح، في محاولة منها في البحث عن الذات والهم الإنساني والعراقي على وجه الخصوص، ضمن مساحات إنسانية عالية التكثيف تجعلها مرتكزاً لبث رموزها ودلالاتها، بغية تثوير عباراتها بواسطة التلاعب بالألفاظ، ولتفتح نصوصها أمام المتلقي نوافذ متباينة ترفدها بإنسيابية مطلقة مكتظة بملفوظات غرائبية، تجتهد فيها وتتلاعب بالعبارات وتحفزها من أجل إستنطاق النص وتوظيفه لغوياً، بما يطلق عليه الغريب من الكلام، والذي يتصف عموماً بانفتاحه على التخيل، المؤطر بالصور الحسية والفكرية المخالفة للواقع، لإظهار المفارقة والتناقض والتضاد:
تقول :
(الأبواب تبتلعني نحوك
والنوافذ هي الأخرى محتالة
تقحم وجهي في مراياها
ولا أرى غير ملامحك) ص55
ترتكز الشاعرة في طرحها لبعض نصوصها على فعالية الخيال، متضمنة تفسيرها لعوالم وحيوات غذتها بروح الديناميكية المطلقة، التي تشدد على شعرية الإلتزام بالحياة والذات، لتترك وقعها وحضورها على المتلقي كما في قولها :
(تعود بكامل خيباتك
فيصدمك الحلم المكرر
تمد يدك في فضاء اللامعنى
فيعود صدى صوتك
فارغاً من الصوت) ص51
لقد نجحت الشاعرة كذلك في بناء نصوصها على إنزياحات جميلة معبرة حالمة شفافة، وهي صفة ترافق أغلب نصوصها من خلال تكثيف النص وتطويعه:
(أنا ممتنةٌ
لكل الأبواب التي مررتُ بها
دون أن تخدش ذاكرتي) ص34
وتأخذنا مقطعات نصوصها الراكدة في المخيلة، لتؤكد بما لا يقبل الشك بأن إكتشاف الذات والآخر ضمن نسيج إجتماعي، لا يمكن نفيه بل هو واقع الحال فعلاً، تحاول فيه الشاعرة قراءة الحياة بكل معانيها ودقائق فصولها ودلالاتها:
(ارحل
حيث تقودكَ خطاكَ بلا عودة
ارحل
بإتجاه بوصلة قلبك
فالسعادة
جزء من النص المفقود دائماً) ص13
وللوطن وهمومه مساحة لا بأس بها في هذه المجموعة، فيها تبث الشاعرة شفراتها المتتالية أمام المتلقي، محمولة على أعتاب الذاكرة القريبة والبعيدة، ملتزمة بخطابها الشعري الوطني، وصياغته بنظام إشتغال تحرك فيه الساكن والمسكوت عنه، بغية تحقيق هدفها لإيصال الفكرة الى المتلقي:
(أريد وطناً بلا صور
بلا دموع
وطناً لا يتسكع فيه الخائن
ولا يموت فيه الفقير)
ولتؤكد أيضاً:
(وطن
ترقد على دجلته النوارس
بلا خوف بلا عناء
أملي أن احظى بوطن
لا ي حل عنه العشاق
ولا يسكنه الغرباء) ص16
كما تشتغل الشاعرة في مشجبها على شعرية الومضة، وهذا يؤكد بلا شك على تراكم مرجعياتها القرائية المختلفة، وإقتناصها للحدث وتكثيفة مستخدمة التصور الشعري التخلي لكي يحظى بإهتمام المتلقي وبالتالي ينجذب نحوه:
(الشيزوفرينيا
هي أن أقرر مساءً
قطع كل السبل المؤدية إليك
مع شروق الشمس
أكتب لك صباحي أنت) ص 26
(متهرئة
أيامي دونك
كمعطف جدتي المعلق
في خزان ذاكرتي) ص67
إنَّ سمة الغرائبية وغير المألوف تلف بعض نصوص مجموعتها (وشم على ظهر قارب)، فهي تطرح ثيماتها من خلال صناعة الدهشة لدى المتلقي وتستحوذ على ذائقته، والتي تعكس فيها إحساسها المرهف وتلاعبها بالألفاظ الغريبة وغير المألوفة، ضمن بنية شعرية شبيهة باللقطة الفوتوغرافية، لتؤثث من خلالها نصاً شعرياً بعيداً عن الابتذال والترهل:
(ما زلت إمرأة في مقتبل الشِّعر
أنوء بكلماتي
وأفصح عن وجعي
لمهب الريح) ص11
وأخيراً يمكننا القول: إنَّ نصوص الشاعرة فالنتينا يوآرش هيدو ما هي إلا إنثيالات هائمة وحالمة، ترسم طريقاً معبداً يؤطر محيط النصوص ومقترباته، بفعالية إنسانية قادرة بذكاء على إحتواء الموقف والحدث معاً، باستخدام تقنيات شعرية من ناحية الشكل والمضمون، ومن خلال تلاعبها بالألفاظ وغرائبيتها في الطرح.