زوعا اورغ/ متابعات
يضعنا الشاعر السرياني شاكر مجيد سيفو في كتابه الشعري الجديد “على رأسي قنديل أمشي” أمام فضاءات لعبة شعرية تفصلُ ما بين الوضوح والغموض، وحيث يتقنّع المعنى بلبوسٍ من الشفرات، والإيحاءات الأسطورية والطقوسية، وكأنّ الشاعر يجد في القصيدة اعترافه، وبوحه وهروبه إلى ما يشبه مرايا القديسين.
في مقدمة الكتاب بلُغتيها السريانية والعربية يتقصّى الناقد روبين بيت شاموئيل هواجس الشاعر وهو يكتب نصوص التهجير، والمراثي، حيث هواجس التاريخ الكارثي، وهواجس أنويته الضائعة في حروب الهويات القاتلة، إذ تنطوي لغته الشعرية بإشاراتها على ما يتبدّى في “القاموس اللهجوي البغديدي” وفي استغراقات “الروح الأكدية”، التي تهب الشاعر إحساسا بالاقتراب من الوجودي والكوني، ومن التلذذِ بما تمور به لغة “السوريث” وهي لغة السريانيين الحديثة، من إيحاءاتٍ يستشرف من خلالها استيهامات الغائبِ في المكان والحاضر في اللغة وفي علاماتها.
اغترابات السرياني
تبدو أغلبُ قصائدِ هذا الكتاب الشعري، الصادر عن المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية بدهوك، وكأنّها محاولةٌ في كتابة سيرة السرياني الغائب والمهاجر، وتضمينات أسفاره وبحثه الميثولوجي عن المعنى، فالوقائع ليست واضحة، والشفرات تتلبسها لغة عرفانية يستعيد من خلالها الشاعر مخطوطاته وأسماء قديسيه، حيث الاستعارات والتآويل لا تعدو أنْ تكون سوى مقاربات في استعادة طقوس المراثي العراقية، بوصفها تمثُّلا للهجرات، بدءا من الهجرة إلى الجلجلة المسيحية، وليس انتهاء بهجرة السرياني إلى منافيه واغتراباته في مدن “اللا أين” كما يُسمّيها سركون بولص.
تعالقُ النص بتقمّصِ الشاعر قناع الراثي يتمثّل في تناصّاتٍ، يستعيد عبرها سلسلة من التعالقات مع الأسطورة، والسيرة والتاريخ، والتي تُحيل إلى ما هو مخفيّ ومتداخل مع الفضاء الدلالي لأساطير بابل، والتي تُرهِن كثيرا من نصوصها لروح ديموزي، وتتحدث عن فداحة طقوسه الخصبية، مقابل الحديث عن مصير “العشتاريات” اللائي أكسبن طاقة الخلق من خلال النواح والندب، وكأن الإناث السريانيات يستعرن من المرثاة الديموزية، شفرتهنّ في البحث عن الخصوبة، وفي الافتنان بسيرة الشاعر، وهو يُدوّن الأناشيد الطقوسية لإناث بابل، وإناث المدن المسبية، ولكلِّ قرابين الشرق المسفوحة من “سُميّل” إلى “بغديدا”، يقول الشاعر:
في قاموسنا الأرضي الأزرق،/ القصيدة أمٌّ تُقايض أبناءها بأبناء الغيم،/ بجمع دمع الجهات في سلالها،/ نمرّ على إناث بابل،/ نجمع فوضى الذكريات من بابٍ للفردوس،/ نظير بقامات الشرق،/ نجيء بعشتار من ليلها إلى ليالينا/ نفرك خاتمها فيسيل رمادا وذكرى”.
حضورُ الرمزِ المسيحي بطقوسه السريانية من أكثرِ تجلياتِ حضور فكرة “الأم الكبرى” في الأسطوريات البابلية، إذ هي “سيدة النجاة”، أو هي “الأم حنة” أو هي “سنبلة المسيح”، والتي يستعيدها الشاعر بوصفها رمزا للخصب الأسطوري، أو هي الرحم المضاد للموت، أو”العذراء” المواجهة للدَنس الذي يرتكبه الخطاؤون القتلة، والخطاؤون الغزاة.
هذ التعالق الرمزي يتجوهر حول فكرة “المُخلّص” والمُستعاد عبر فعل الكتابة/ الوجود، عبر الاعتراف، وعبر الرؤيا، فالشاعر يجدُ في القصيدة اعترافه ورؤياه، ووجوده، وبقدر ما يدور حول الإيهام، والغياب، فإنه يكشف عن حضوره، عبر ما يستلهمه من نصوص مراثي السريان في الزمن الأسطوري، ومن متاهتهم في الأسفار، وفي حروب الهويات، وعبر أناشيد الاستعادة الطقوسية بوصفها الإشراقي. يقول الشاعر “العالم كلّه ظلام،/ وحدي أمشي في هذا العالم وفوق رأسي قنديل،/ ولا أرى أحدا سواي/ أنادي ولي بحّة كبيرة نبتت في حلقي منذ سبعة آلاف وطن”.
مرثيات الشاعر
في النصِ السابق يجدُ الشاعرُ في ضمير المتكلم “الأنا” قِناعه الأسطوري لاستعارة المتعالي في الرمز عبر لعبة الملفوظ، وعبر ما يُحيله إلى وظيفة لإحياء السرياني بوصفه شاهدا، وأنّ مزاولة وجوده تتحول إلى مغامرة طقسية لتكريس تلك الشهادة، وعبر الاعتراف، وعبر تقانة “النداء” للإبانة عن وجوده، وعن استدعائه لصور موتاه المهاجرين والمنفيين، فصورة جان دمو وصورة سركون بولص وصورة يونان هوزايا، تدفعه إلى استعادة ما يمكن تسمتيه بـ”القوة الكامنة” وكتابة ما يشبه أناشيد الخصب، تلك التي تحتفي بطقوس استيلاد المعنى، وكأنها طقوس لاستيلاد الحياة ذاتها، وعبر احتفائها بالمسيح وكأنه ديموزي، حيث كلاهما ينطويان على رمزية الصلب والخصب، فضلا عن أنّ احتفاءه بالشاعر سركون بولص تحوّل إلى نوع من الاحتفاء بالسرياني المهاجر والباحث عن وجوده وهويته وذاكرة صلبه/ نفيه، وهي استغراقات تُحيل إلى الشاعر شاكر سيفو ذاته، إذ هو المهاجر في اللغة، والمسبيّ في الواقع، والباحث عن مُخلّصه الرمزي.
يقول سيفو “للقميص الممتلئ بنقشات الألم،/ حلم راعش،/ يُهرّب روحه إلى ‘المدينة أين’/ كفاه ترتعشان،/ والشارع بين يديه مقصلة،/ كان يملك تذكرة للباص الذي حلّ ضيفا على الغيمة،/ فأخذته الريح إلى جبل/ ليجلس منتصرا كأنه هيراقليطس/ أو هرقل”.
تقانة استعادة الأسماء الواقعية والعلامات الأسطورية تتلازم مع تقانة الاستعارة، إذ تتحول هذه الاستعادة والاستعارة إلى مجال لإيقاظ رغبات الصراع الميثولوجي ما بين الحياة والموت، ولاستكناه حمولتها في التعبير عن ميثولوجيات السريانيين في هذا الصراع، وهُم يُعالقون ما بين “الرغبة والحكمة” كما يسميها الناقد مصطفى الكيلاني، أو ما بين الوجود والمحو، وبما يجعل القصيدة نظيرا للطقس المسيحي، حيث يستعيد الشاعر عبرها استيهاما المعنى الرمزي للحياة، والإخصاب، وحيث تتحوّل دالات ذلك الطقس إلى بواعث لاستعادة روح “الآلهة الشابة”، لتمارس وظيفتها في مواجهة الموت، وفي استدعاء القوة الراعية، قوة صانع الفؤوس والأناشيد، والمُولّد للأساطير عبر اللغة، وعبر ما تنطوي عليه من معان لها علائقها بالطقوس والنُذر، مثلما هي علاقتها بالنصوص التي يكتبها السرياني المسكون بسير الديموزيين المهاجرين والقتلى.