جودت هوشيار
دروس الحياة
التجربة الحياتية بما فيها من معاناة ، وآلام ، وأفراح هي ينبوع الكتابة الحق، ولا تقل أهمية عن الموهبة الفطرية ، والقدرة على التخيّل.
ليس بوسع اي كاتب ان يكتب عن اي شيء ، وعن اي انسان . فهو ليس مطلق الحرية في اختيار موضوعاته وابطاله , مهما كان موهوبا ، لأن له حدودا لا يستطيع تجاوزها , والتي تتحدد بالمجتمع الذي يعيش فيه ، وخبرته الذاتية ، والدروس التي تعلمها من الحياة ، لذا على الكاتب أن يكتب عما يعرفه بتجربته الخاصة ، وهذه التجربة مطلوبة بقدر ما تكون مدخلاً لتجربة فنية ، يعبّر فيها الكاتب باسلوبه المتميز ، عن عالمه الروحي ، ونظرته الى الأشياء.
ان العمل الأدبي اذا لم يكن نابعاً من ذات الكاتب ، و لم ينفعل به فانه لن يكون عملاً مؤثراً وناجحاً على الرغم من ان المؤلف قد كتبه بحسن نية . لان مثل هذا المؤلف لا يعرف ابطاله ولا يفهمهم .
ربما ثمة امكانية لتوالد بعض الصور المضببة في ذهن كاتب يعيش في جزيرة مقفرة , ولكن لن يكون لدىه اي حافز لتأليف رواية ، ذلك لأن الكاتب انما يكتب عن الناس وللناس , لقد كتب الروائي الفرنسي مارسيل بروست رواياته داخل غرفة ذات جدران صماء لا تخترقها الاصوات . ولكن بروست كان قد عاش بين الناس ، ودرس المجتمع الفرنسي الأرستقراطي لمدة طويلة ، قبل أن يسجن نفسه في غرفة معزولة ..
ان خيال الكاتب الروائي أو القصصي قادرعلى تغيير تناسب الظواهر والاحاسيس وملامح الشخوص وانماط سلوكهم ، ولكن ليست ثمة رواية سواء كانت خيالية ام طوبائية لا ترتكز على الواقع , ان وصف سكان كوكب المشتري في رواية ولز او (سكان سالاماندر) في رواية جابك ليس الا هجاء للمجتمع الانساني .
ربما يقال أن للخيال الدور الأكبر في بعض أنواع القصص ، وهذا صحيح ، ولكن الخيال ينبغي أن يكون مقنعاً وصادقاً ومنطقياً ، أي خيالاً يمكن أن يحدث في الواقع . فالمؤلف ليس إلهاً حتى يستمر في فرض شطحات خياله على القاريء ، وثمّة خطر جسيم يلازم نسج الأكاذيب ، فقد لا يصدّق المتلقي ما يقرؤه .
أدب الكتب وأدب الحياة
ان أغلب الروائيين المعاصرين هم من خريجي التخصصات الأدبية أو اللغوية في الجامعات ، وهم يعملون في مكاتبهم بين رفوف الكتب التي تحاصرهم ، ولا يريدون النزول الى الشارع والإختلاط بالناس ، والخوض في الحياة العملية واكتساب التجارب التي لا غنى عنها لفهم الآخرين .
الجامعات لا تعلّم سوى الأدب الكلاسيكي ، وأنه ينبغي أن تكتب الرواية استنادا الى التجارب الشخصية . وهذا أمر جيد من حيث المبدأ . ولكن كم رواية بإمكان شاب لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره أن يكتبها عن نفسه ؟ قد يكتب رواية واحدة جيدة اذا كان صاحب موهبة ، ولكن الرواية الثانية ستكون عن شاب كتب رواية ناجحة ، ولا يملك الآن نقودا ، وليس لديه صديقة أو حبيبة ، ويتبهدل يوميا في وسائط النقل العام . وهذا أمر غير ممتع على الإطلاق .
. لو كان ديكنز قد عمل حسب هذا المبدأ ، لكتب رواية ” ديفيد كوبرفيلد ” فقط . تولستوي كان قد خدم في الجيش وخالط علية القوم ، وحرث الأرض قبل أن يكتب ” الحرب والسلام ” و” آنّا كارينينا ” .
في عام 1916 نشرت مجلة ” ليتوبيس ” أي ” الوقائع ” التي كان يصدرها مكسيم غوركي في العاصمة الروسية القيصرية بطرسبورغ قصتان قصيرتان لإسحاق بابل .
أثارت القصتان اهتمام القراء والنقاد، وأصبح اسم بابل معروفًا إلى حد ما. وواصل الكاتب الشاب كتابة قصص جديدة، حيث كان يكتب قصة واحدة كل يوم ويعرضها على غوركي، الذي كان يقرأ القصة بتمعن، ثم يقول: إنها غير صالحة للنشر. وتكرر ذلك مرات عدة. وأخيرًا تعب كلاهما. وقال غوركي بصوته الجهوري الأجش: «إنك تتخيل أشياء كثيرة تقريبية؛ لأنك لا تعرف الحياة بعد. عليك التوجه إلى الناس، ومعرفة الواقع، واكتساب تجربة ذاتية تساعدك على فهم الحياة، قبل أن تكون قادرًا على كتابة قصة جيدة .
أفاق بابل في صباح اليوم التالي ليجد نفسه -بمساعدة غوركي بطبيعة الحال- مراسلًا لصحيفة لم تولد بعد، مع مئتي روبل في جيبه. لم تولد الصحيفة قط، لكن الروبلات المنعشة كانت ضرورية له. استمرت رحلة بابل في خضم الحياة سبع سنوات (1917: 1924م) كان في أثنائها جنديًّا في الجبهة الروسية – الرومانية إبان الحرب العالمية الأولى، ومراسلًا حربيًّا في فرقة «الفرسان الحمر»، وموظفًا في مفوضية التعليم، ومديرًا لدار نشر في أوديسا، ومندوبًا لبعض الصحف في بطرسبورغ وتبليسي. قطع كثيرًا من الطرق، وشاهد كثيرًا من المعارك. وكان طوال تلك السنوات يكتب ويطوّر أسلوبه. ويجرب التعبير عن أفكاره بوضوح واختصار. وبعد تسريحه حاول نشر نتاجاته، وتسلّم من غوركي رسالة يقول فيها: «ربما الآن يمكنك أن تبدأ .
وليس من قبيل المصادفة ان لكل كاتب عظيم تجربته الحياتية الثرية والمتنوعة التي تشكل منهلا لا ينضب لأعماله الأدبية . همنجواي كان مراسلا حربيا في الحرب العالمية الأولى والحرب اليونانية – التركية ، وخبر عن قرب مآسي الحرب وانطباعاته عنها أصبحت جامعته الأولى ، وانعكست في كل أعماله المبكرة، التي تعتبر مواقف ولحظات من سيرته الذاتية ، وكان شاهدا على الأزمة الأقتصادية في بلاده ، وزار العديد من البلدان المختلفة .وعاش معظم حياته خارج وطنه الولايات المتحدة الاميركية ولم يكتب عنها الا الشيء القليل نسبيا .
جون شتاينبك عمل مراسلا لصحيفة “سان فرنسيسكو نيوز ” ليس لأنه كان بحاجة الى المال ، بل لأنه أراد أن يخوض في أعماق الواقع الإجتماعي ويجمع المادة الأولية لروايته عن هذا الطريق ، العمل كمراسل قادته الى معسكر العمال الوقتيين المهاجرين . هكذا ظهرت رواية ” عناقيد الغضب ” . أما ” دوس باسوس ” فقد جاب البلاد بحثاً عن المادة الأولية لرواية ” مانهاتن ” وثلاثية ” الولايات المتحدة الأميركية ” .
كبار الروائيين أمثال بلزاك وفلوبير وتولستوي ودوستويفسكي وغوركي ، واندريه موروا ، وترومان كابوتي ، ونورمان ميلر وغيرهم ، خاضوا في أعماق الحياة ، قبل الجلوس امام طاولة الكتابة.
حقائق الحياة المؤثرة ثمينة بحد ذاتها حتى بمعالجة أدبية بسيطة. ولكن الأدب ليس أثنوغرافيا ، أو تأريخا ، أو علم اجتماع . معرفة شيء ممتع أوشائق والكتابة عنها مهمة الصحفي وليس الكاتب . ثمة ( كتّاب ) تنقلوا بين مهن كثيرة وشاهدوا الكثير من الحوادث الغريبة وكتبوا عنها ، ولكنهم فشلوا في كتابة عمل فني ناضج. لأن استنساخ الواقع عجز عن الأبداع . الكاتب المبدع لا يجمع المواد لعمله الأدبي ، بل يعيش في داخل هذه المواد ، ويتفاعل معها ليحولها الى تجربة روحية يعرض فيها شيئا لم يكن بمقدور القاريء أن يراه لو كان في مكان الكاتب
يبدأ الإبداع عندما يصمم الكاتب في ذهنه نموذجا للموقف . يرسم صور الشخصيات ، ويطور الفعل . ويملأ الهيكل باللحم والأعصاب . وهنا يتطلب الخبرة الحياتية أين ومتى عاش الأبطال ، ما هي ملامحهم ، وماذا يعملون ، وماذا يلبسون ، وكم يكسبون من نقود ، ويتنقلون بأي واسطة نقل ، وماذا يحيط بهم . الكاتب يتوجه الى ذاكرته وخبرته . وتظهر ملامح الورشة ، التي عمل فيها في وقت ما ، والأماكن ، التي استجمّ فيها .
فهم المادة الحياتية يعني القدرة على ادراك معنى كبير في حقيقة صغيرة . على الروائي ان يتعمق في جوهر الأشياء ، ولا يكتفي بوصف مظاهرها الخارجية فقط .