د.عبدالخالق حسين
تشهد هذه الأيام محافظات الوسط والجنوب العراقية ذات الأغلبية الشيعية، تظاهرات احتجاجية التي هي حق يكفله الدستور، بدأت بمطالب مشروعة، منها توفير الخدمات مثل الكهرباء، والماء، والعمل للعاطلين…الخ. وقد لقيت هذه التظاهرات تعاطفاً وتأييداً من الجميع، وحتى من السلطة التنفيذية، وعلى رأسها رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي الذي وعد بتلبية هذه المطالب. إلا إن هذه المشاكل هي مزمنة تحتاج إلى إقامة مشاريع كبيرة وعديدة لا يمكن تحقيقها بعصى سحرية، أو بين عشية وضحاها.
بدأت هذه التظاهرات في محافظة البصرة لأنها المحافظة التي عانت ودفعت الثمن الباهظ بالأرواح والممتلكات أكثر من أية محافظة أخرى بسبب الحروب العبثية التي شنها النظام البعثي على إيران، ومن ثم غزو الكويت، والحرب الدولية لتحرير الكويت، وأخرى لتحرير العراق من حكمه الجائر، ثم تبعات سقوطه…الخ. فهذه المحافظة التي تسهم بنحو 80% من واردات خزينة الدولة، ما زالت تعاني أكثر من أية محافظة في العراق من البطالة والحرمان من الخدمات بسبب الإهمال، والفساد المستشري في صفوف المسؤولين. لذلك بلغ ظلم ذوي القربى، أي ظلم سلطات ما بعد 2003 إلى حد الانفجار، فكانت حصيلته هذه التظاهرات الاحتجاجية التي انتشرت شرارتها في المحفظات العراقية الأخرى كالنار في الهشيم.
بالطبع نحن مع التظاهرات السلمية، ولكن المشكلة أن هناك دائماً مجالاً للمجرمين المخربين ليندسوا ويخترقوها ويحرِّفوها عن خطها السلمي، وأهدافها المشروعة، ويحولوها إلى فرصة ذهبية لهم للقيام بأعمال التخريب، والاعتداء على ممتلكات الدولة، وإشعال الحرائق فيها، والاعتداء على مقرات الأحزاب، وخاصة تلك التي تناهض البعث الساقط أمثر من غيرها، ورفع شعارات ومطالب مشبوهة لم تدر في خلد الناس الأبرياء الذين بدؤوا تلك التظاهرات، منها مثلاً: دعوة البعض بعدم الاكتفاء بتوفير الخدمات، بل الاستمرار حتى إسقاط الحكومة، وتحت مختلف الأساليب الخادعة.
وهؤلاء لهم جيوش على مواقع التواصل الاجتماعي يتمتعون بالخبرة في التضليل والتسقيط، لدعم التخريب واعتباره عملاً وطنياً لتحرير الوطن من احتلال الحكومة العميلة لإيران وأمريكا على حد قولهم، بل والاستهزاء من كلمة (المندسين)، وكأنه لا يوجد مندسون إطلاقاً. فقد قرأنا تقريراً مقلقاً من (مفوضية حقوق الانسان تعلن اجمالي عدد المتوفين والمصابين منذ انطلاق التظاهرات)(1) عن المصادمات بين المتظاهرين، والقوات الأمنية، راح ضحيتها 13 قتيلاً من المتظاهرين، و729 جريحاً، بينهم 460 من القوات الأمنية، و269 من المتظاهرين. والملاحظ أن عدد الجرحى في القوات الأمنية نحو ضعف عددهم في صفوف المتظاهرين. والسؤال هنا كيف جُرح هؤلاء من القوات الأمنية، إن لم يكن من بين المتظاهرين أناس مسلحون جاؤوا خصيصاً للمواجهة والتخريب.
كذلك قرأنا أخباراً مقلقة تفيد عن قيام مجرمين بقطع أسلاك الكهرباء من أجل إدامة الأزمة، وتبرير استمرارية التظاهرات وتصعيدها إلى اعتصامات تخريبية، أي إلى إسقاط الحكومة، لإشاعة الفوضى العارمة من أجل إظهار الشعب العراقي للعالم أنه غير مؤهل للديمقراطية، تمهيداً للانقضاض على العملية السياسية، وإلغاء الديمقراطية، وإعادة العراق إلى عهد الظلام البعثي ما قبل 2003.
وقد لاحظنا في مثل هذه الحالات أن تتفتق عبقرية العديد من الكتاب لتقديم اقتراحات، منها صادقة وبنوايا حميدة، وأخرى من نوع (قول حق يراد به باطل)، غرضها التشويش ونشر البلبلة الفكرية، وتضليل الجماهير، وإرباك السلطة.
يجب على الشعب العراقي أن يستفيد من تجاربه السابقة، وتجارب الآخرين، ويستخلص منها الدروس والعبر، وأن لا يُلدغ من جحر عشرات المرات. لذلك نطالب جماهير شعبنا باليقظة والحذر من المندسين، بأن لا ينساقوا وراء المخربين البعثيين الدواعش الذين يتربصون بهم شراً، وأن لا يكونوا من أمثال الذين وصفهم الإمام علي (ينعقون مع كل ناعق ويميلون مع كل ريح).
دروس من التاريخ القريب والوقت الراهن
فما أشبه اليوم بالبارحة، إن ما يجري في العراق اليوم يذكرنا بما قام به البعثيون في عهد حكومة الزعيم عبدالكريم قاسم عندما رفع سعر غالون البنزين مبلغاً طفيفا، فقادوا التظاهرات الاحتجاجية في بغداد، وراحوا يحرقون باصات المصلحة، ومحطات البنزين، وغيرها من ممتلكات الدولة. كذلك التظاهرات الطلابية التي قادها البعثيون والقوميون أواخر عام 1962 التي مهدت لإنقلاب 8 شباط 1963 الأسود الذي أدخل العراق في نفق مظلم لم يخرج منه لحد الآن.
وهناك تجارب مماثلة في مناطق أخرى من العالم، ففي أيامنا هذه هناك تظاهرات احتجاجية في مناغوا عاصمة نيكاراغوا، ضد الرئيس الوطني الاشتراكي دانيال أورتيغا. بدأت هذه التظاهرات بمطلب مشروع، وهو عندما أقدمت الحكومة بتخفيض رواتب المتقاعدين. فانطلقت التظاهرات الاحتجاجية من قبل المتقاعدين، مما حدا بالحكومة إلغاء القرار، إلا إن المتصيدين بالماء العكر استغلوا الفرصة، واختطفوا تلك التظاهرات وطالبوا بالانتخابات المبكرة، وإزاحة الرئيس أورتيغا. ثم أحالوا هذه التظاهرات إلى أعمال تخريبية ضد ممتلكات الدولة، وبالتالي إلى مواجهات مسلحة مع القوات الأمنية، راح ضحيتها لحد الآن أكثر من 300 قتيل من الجانبين. وهي بالمناسبة تتلقى الدعم والتأييد من أمريكا وغيرها من الدول الغربية التي ساندت عصابات الكونترا في عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريغن في الثمانينات من القرن المنصرم.
كذلك التظاهرات الاحتجاجية التي اندلعت في البلاد العربية أواخر عام 2011، والتي سميت بانتفاضات وثورات(الربيع العربي). فكانت هناك مبررات مشروعة لهذه الانتفاضات مثل مظالم الأنظمة الدكتاتورية الجائرة بحق الشعوب العربية، وتفشي الفقر والبطالة والحرمان من الخدمات، والتي دفعت الجماهير الشعبية للإنفجار، والمطالبة بتغيير الأنظمة المستبدة الجائرة. ولكن تم اختطاف هذه الانتفاضات من قبل قوى داخلية وخارجية، فبعد إسقاط حكوماتها، تركوا هذه الشعوب في حالة فوضى عارمة مثل ليبيا، واليمن. ونفس السيناريو تكرر في سوريا، حيث بدأت بمظاهرة طلابية في مدينة درعا الجنوبية بمطالب مشروعة عام 2011، فاختطفتها قوى الشر المدعومة من السعودية وقطر وتركيا، وأمريكا، وأحالوها إلى حرب العصابات الإرهابية ضد سوريا حكومة وشعباً، ولحد الآن.
ما العمل؟
وفي أوقات الأزمات، وكما أشرنا أعلاه ينبري البعض بتقديم اقتراحات لحل الأزمة، منها صادقة، ومنها للتشويش ونشر البلبلة الفكرية. لذلك أرى من واجبنا تقديم قائمة من الاقتراحات نأمل من أبناء شعبنا والحكومة الأخذ بها وهي كما يلي:
أولاً، نهيب بجماهير شعبنا عامة، و شريحة المثقفين بخاصة، أن ينتبهوا جيداً إلى ما يحاك ضدهم، ونبذ المخربين المندسين من البعثيين الدواعش وأشباههم في صفوفهم الذين غايتهم إفشال تظاهراتهم المشروعة، و اختطافها لتحقيق أغراضهم التدميرية. وأن يكونوا حذرين قبل إقدامهم على تأييد كل من هب ودب من الذين يقدمون اقتراحات وشعارات ظاهرها حق وباطنها باطل، يراد بها نشر التشويش وصب الزيت على النار المشتعلة.
ثانياً، على الحكومة أن تعرف أن الشعب يمهل ولا يهمل، فخمسة عشر عاماً بعد سقوط الفاشية، ليست بفترة قصيرة، إذ مازال هناك تقصير فضيع في الخدمات، وكذلك تفشي الفساد المالي والإداري في جميع مرافق الدولة من القاعدة إلى القمة، ولم نسمع من السيد رئيس الوزراء الحالي، ولا الذي قبله إلا وعوداً بمحاربة الفساد والكشف عن الفاسدين ومحاكمتهم، لكن دون أخذ أي إجراء عملي مكشوف لتحقيق هذه الوعود. العراق بحاجة إلى قانون فضح الفاسدين (Name and shame)، والعمل الجاد لحل مشكلة نقص الخدمات وغيرها من المشاكل التي تمس حياة المواطن مباشرة.
ثالثاً، هناك اقتراح من خبراء مخلصين مفاده السعي الحثيث برفد مؤسسات الدولة وخاصة الكهرباء، بأصحاب الكفاءات والسمعة النظيفة لحل مشكلة الكهرباء وجعل الأسلاك الكهربائية تحت الارض، وكجزء من بنية تحتية متينة ومتماسكة وحتى يجد المخربون صعوبة في النيل من البنية التحتية، وكذلك الحال في توفير مياه الشرب، والخدمات الأخرى مثل الصحة والتعليم، والمواصلات وغيرها. وكذلك العمل على دعم وتشجيع القطاع الخاص باستخدام الطاقة الشمسية في توليد الكهرباء للبيوت والمعامل والمؤسسات الحكومية، فهي طاقة متجددة ونظيفة.
رابعاً، هناك خبر عن تشريع مجلس النواب المنحل، لقانون جديد لامتيازات البرلمانيين قبل اشهر ولم يتم نشره في الجريدة الرسمية إلا في يوم 16 تموز 2018. وسمعنا أخيراً أن السيد رئيس الوزراء طالب المحكمة الاتحادية بإيقاف العمل بهذا القانون(2 و3). وفي حالة عدم استجابة المحكمة لهذا الطلب لأسباب قانونية، فعلى السلطة التشريعية القادمة إلغاءه. كذلك يجب تخفيض رواتب النواب، والوزراء والمسؤولين الكبار بما يتناسب مع إمكانية العراق في ظروفه الراهنة.
خامساً، العمل على بناء مشاريع تحلية المياه قبل فوات الأوان وخاصة في البصرة. لا شك أن هناك مقترحات أخرى كثيرة تخص الأزمة الحالية، من واجب الحكومة تبني بما يفيد منها وترجمتها إلى عمل مفيد.