لطيف پولا
كان للظواهر الطبيعية تاثيرا كبيرا على تحفيز فكرالانسان,وتلك الظواهر التي كانت بمثابة علامات استفهام كبيرة في حياة الانسان الاول الذي اجهد نفسه وبكل الطرق ولا يزال في البحث عن جواب لها .. كان الرعد والمطر والصواعق والنيران والفيضانات والحرائق والموت تثير الرعب في نفسه وتحفز تفكيره للتساءل عن مصدر هذه الظواهر وكيفية تجنبها او الحماية من خطورتها .. وكان لوضعه الاجتماعي في عيشه على شكل جماعات في الكهوف وخروجه الى الغابات لقطف الاثمار ومن ثم القنص والصيد تاثيرا كبيرا في تبادل الخبرة مع بني جنسه وتطوير عمله بما يسهل عليه في توفير العيش له ولجماعته فكان لاستعمال يده في قطف الاثمار ومن ثم استعمالها في القنص وتطوير ادواته من استعمال الحجارة والاخشاب الى استعمال ادوات متطورة من الحجارة للقطع والضرب ثم استعمال الرمح والقوس والنشاب . وبانتقاله الى مرحلة الزراعة وتربية الحيوانات وسلخ جلودها ليصنع منها ملابسا له ثم جز صوفها ليتعلم الحياكة والنسيج وصنع مسكنا له بدلا من المغارات والكهوف صار راعيا له خيام ثم حقول في وسطها اكواخ للتطور الى قرى تتصارع فيما بينها للسيطرة لتتوسع ويتشكل منها ما يشبه مستعمرات ودويلات صغيرة تعمقت المنافسة بينها ليتحول الى صراع ينتصر فيها الاقوى ليشكل دولة ومملكة ثم امبراطورية كما حصل في وادي الرافدي في زمن سرجون الاكدي 2340ق م – 2284 ق م الذي اسس اول امبراطورية عرفها الانسان ..
كان الانسان طوال هذه المراحل يبحث عن اجوبة لاسئلة تثيرها تلك الظواهر الطبيعية التي نوهنا عنها اعلاه . وقد توصل تفكيره بما يسمح له أفقه المحدود. ما من شك ثمة قوة ما تسبب هذه الظواهر .. وكان تفسيره لها من واقعه., فعندما كان يضطهده ويستغله ويستعبده من هو اقوى من بني جنسه او من الحيوانات المحيطة به كان يوعز تلك الظواهر الى قوى سماها الالهة, تجمع بين حكمة الانسان وقوة الثور وشجاعة الاسد وعلو النسر وهي التي تسيطر على مقدرات الانسان وتسبب هذه الظواهر, فيها الخير وفيها الشر, وعلى الانسان ان يرضي هذه الالهة لترضى عنه, وتمنحه القوة والخصوبة والخير, وتجنبه الشر والاشرار .. وعلى ضوء هذا التفكير تطور الفكر البشري الى حين اكتشاف قوانين الفيزياء ,وتطور العلوم ,وسبر الانسان اعماق البحار واعماق الذرة وغزا الفضاء, ليكتشف سذاجة تفكير الانسان القديم الذي لازمه الافا من السنين . ولازال البعض يقدس جانبا منه ليكون موروثا اجتماعيا قديما, رغم انتهاء دوره , وثبوت بطلانه الا ان ثمة من يقتات على شعوذته وخزعبلاته , ناهيك عن ان بعض السياسات والانظمة تسخره لتكريس حكمها القائم على ضلالة الناس وجهلهم . وعليه جعلوا من تلك المفاهيم القديمة مؤسسات خطيرة تدمر المجتمع ,وتعيق تطوره , وتقيد حريته , لكنها تخدم سياسة الطغاة , فيلتقيان في مصلحة بقائهما المهدد في زمن يرفض وجودهما .
ونعود الى ذالك الانسان البدائي وتفكيره الذي صنع الالهة بصورة ثور او حصان او تنين او اسد او ثور او كائن خرافي او شمس , تجمع بين الحكمة والقوة والسرعة والرفعة , لتحميه من تلك الظواهر والكوارث الطبيعية .. ولارضاء تلك الالهة كان يجب ان يقدم لها ما يقدم لملوكه من طاعة وخشوع ومن الاكل والشرب كما يقدم للملوك الاقوياء الذين يسيطرون على حياته وقد يقدم لهم حتى نفسه عن طيب خاطر او كواجب ديني ! وكما كان يقتل الملوك البشر تحقيقا لرغباتهم , كذلك كان يقدم للالهة ضحايا من البشر ..وظلت تلك الممارسات جارية الى يوم اراد ابراهيم تقديم ابنه اسحق ضحية لربه ! وكذلك قدم يسوع المسيح له المجد نفسه قربانا للبشر, لانقاذهم من خطيئتهم المميتة ..ولا زال القداس الذي يقام حتى هذا اليوم في الكنائس يمثل رمزا لتلك التضحية , حينما ضحى يسوع المسيح بنفسه واليوم يتناول المسيحيون خبزا مقدسا ( البرشان ) يمثل جسد يسوع ,ويشربون خمرا بدلا من الدم الذي كان يراق على مذابح الالهة وقد يشربه الاخرون ..
وكذلك صنع انسان الرافديني .حينما بدأ يحتفل امام الهته , لتساعده في عمله ويقدم لها الضحايا والخمور لتنتعش , واطيب الاكلات ,ويعزف لها الموسيقى ويرتل ويرقص .. ومن هنا جاءت كلمة (اكيتي ) و(اكيتو )(a – ki –ti –se –gur – ku) السومرية . تعني الحياة الاحتفال والطواف والرقص والصلاة والابتهاج بالحياة وباللغة الاكدية ( البابلية – الاشورية ) ريش شاتين ,اي راس السنة ,كما نسميها اليوم باللغة السريانية والتي هي بنت الاكدية , ريشا دشاتا , وبنفس المعنى تاتي الكلمات السريانية – العربية (حگا ـ خگا و حجو و حج ). لان من المستلزمات الحضارية عند ابناء الرافدين هي تلك المتلطبات والحاجات التي املت على هذا الانسان ان يبتكر قبل غيره هذه المناسبات ويجعلها متطورة نسبيا بتطور علومه الحياتية وشعائره الدينية التي كانت لها علاقة وثيقة بمعرفته للفلك والرياضيات والقراءة والكتابة والادب والطب والقوانين وصنع الالات الموسيقية والتراتيل والصلاة التي كان يرفعها لالهته المنتشرة في ثلاثة الاف معبد في طول البلاد وعرضها , فيها من المرتلين والعازفين على الالات الموسيقية ,وفيها من الكهنة والكاهنات كلها تكرس جهودها ومعرفتها للاحتفال باعيادهم المقدسة , والتي كانت لها علاقة وثيقة بحياتهم ,والزراعية منها بالذات ,لان مستلزمات بقائهم وتطورهم وحضارتهم كانت مبنية على الزراعة التي اشتهرت بها ارض الرافدين ,والتي كانت سببا اساسيا في قيام حضارتهم . وكان للظروف الجوية والطبيعية تاثيرا كبيرا عليها ولذلك انصب اهتمام ابن الرافدين على هذا الجانب ومنه انطلقت معتقداته وممارساته الدينية والقومية وافكاره وخيالاته الميتافيزيقية . وقد بدأ ذلك منذ ان شرع ابن الرافدين يتلمس طريقه صوب الحضارة ..وكان عيد زاكموك (zag – mug )عيد الاعتدال الخريفي , هو العيد الذي كان يحتفل به ابن الرافدين في منتصف ايلول من كل عام ,لانه موسم قطف الاثمار وخاصة التمور. وكما هو اليوم عيد الصليب عند المسيحيين في 14 ايلول , كان منتصف ايلول عيدا مقدسا عند اجدادنا في بابل واشور وسومر واكد … وكان عيد جز الصوف يحتفل به في الربيع بين آذار ونيسان .. ومنذ بداية الالف الثاني قبل الميلاد اصبح اكيتو ( ريش شاتين ) هو العيد القومي والديني والوطني عند ابناء الرافدين . كانت تقام الاحتفالات في اعياد اكيتو اثنا عشر يوما وفي طول البلاد وعرضها, يشترك فيها الملك والكاهن والفلاح الفقير والغني والموسيقيون والممثلون والمدنيون والمحاربون . واستمر شعبنا يقيم هذه الاحتفالات الاف من السنين ,الى ان انتقل هذا العيد الخالد الى مناطق اخرى , وسمي بمسميات محلية , وكلها تشير الى اكيتو بمعناه ورموزه وفعالياته , فكان في بلاد فارس عيد نيروز , وفي مصر عيد شم النسيم وعند الاخوة الكرد نوروز وعند الاخوة الايزيدية سرى صال . وكان الاول من نيسان الذي تبدأ فيه احتفلات اكيتو يتفق مع الاعتدال الربيعي 21 آذار لان الفرق بين السنة القمرية والشمسية احد عشر يوما ,وقد توصل اجدادنا الى هذه الحقيقة منذ امد بعيد .. واستمر العراقيون من احفاد سومر واكد وبابل واشور بالاحتفال بهذه المناسبة ,وان كانت احيانا بمسميات اخرى ..ولا زال شعبنا يقيم الكرنفالات والسفرات في موسم الربيع ..وكان البغداديون الى عهد قريب يخرجون في كل نيسان الى حدائق سلمان باك وبارك السعدون وحديقة غازي والراشدية ..وفي قرانا اتخذ اكيتو شكل مهرجانات مسيحية حديثة يطلق عليها ( شيرا ) وشيرا كلمة اشورية فصيحة جذرها ( شر ) معناها غنى , رتل. وشيرا هو احتفال وابتهاج . وتوزع اكيتو الى عدة كرنفالات وباسماء القدسين والشهداء مثل : شيرا دربن هرمز , وشيرا د بربارة وشيرا دمار كوكيس وشيرا دسلطان مادوخ وشيرا دمار ساوا وشيرا دمار اوراها وشيرا دمار عوديشو وشيرا دربن بويا وشيرا دمار بهنام والخ .. ويبقى اكيتو الذي هو محور مقالتنا هو المصدر, وهو الرمز الوطني والديني والقومي عند كل ابناء الرافدين احفاد سومر واكد وبابل واشور, وتبقى مراسيمه واحتفالاته ومعانيه السامية هي الاعظم والاجمل والاعمق واكثر اصالة ومجدا ..
سأذكر وبشكل مختصر تلك الايام الاثني عشر التي كانت تجرى فيها احتفالات اكيتو ( ريش شاتين ) واهم الطقوس التي كانت ترافقها :
يبدأ الاحتفال بأعياد أكيتو ريش شاتين ( ريشا دشاتا ) نهرانيتا , في ليلة الاعتدال الربيعي (وهو اليوم الذي يتساوى فيه الليل والنهار ) .
1- الايام الثلاثة الاولى : كانت تكرس لتطهير النفوس, وتطهير المعابد والمسح بالزيت ( زيت السدر – النبق ) ,ولازالت شجرت النبق موقرة عند اهل بغداد اذ لا زال الكثيرون يخشون قطع شجرة النبق . وبعد التطهير تقدم الضحايا كي تغفر الالهة الذنوب . ونتقلت هذه الطقوس الى اديان اخرى ولازالت تقدم الضحايا من الحيوانات والنذور للتكفير عن الخطايا ..لا زالت عملية المسح بالزيت المقدس تمارس الى هذا اليوم وكذلك مُسح ربنا يسوع المسيح له المجد . ولا زال المحتضر من المسيحيين يـُمسح بالزيت ,كما فعل اجدادنا البابليون – الاشوريين . ولازال القربان المقدس يرمز الى تضحية يسوع المسيح له المجد من اجل التكفير عن ذنوب البشر, ولا زال عيد الكفارة عند اليهود وعيد الفصح عندهم احد عشر يوما كما كان في اكيتو ! .
2- في اليوم الرابع من الاحتفالات كانت تتلى ملحمة ( اينوما ايليش – عندما في العلى ) , وهي ملحمة انتصار الملك مردوخ في بابل , وفي نينوى آشور على التنين تيامات ,الذي اراد ايقاف التطور والتقدم عندما صممت تيامات ارساله مع الاخرين لقتل الشباب , الجيل الصاعد والباني للحياة . فانتفض الملك الشاب ليضع حدا لتجاوز تيامات ,والتي تمثل القديم ,على الجديد وهي فلسفة تقدمية تعطي اشارة لديالكتيك الحياة وقانون التطور وانتصار الجديد على القديم .
3- في اليوم الخامس يحضر الملك امام الاله مردوخ في بابل وامام الاله آشور في نينوى ,ويقوم الكاهن بنزع تاجه وصولجانه ويأمره بالخشوع للاله ,ثم يوجه الكاهن صفعة قوية الى الملك ويجبره على الركوع امام الاله ليقدم طاعته وايمانه في خدمة شعبه وفي كل الظروف. ثم يلتمس الملك الاله أن يمنحه الملوكية مجددا . فيقوم الكاهن مرة اخرى بهذا الدور ليضع التاج على راس الملك ,وصولجانه بيده , ليبدأ حكمه من جديد بادارة شؤون البلاد كما ارادها الاله ان يحكم بالعدل بين الناس .
4- في اليوم السادس يصل وفد من الالهة من المدن الاخرى , إذ كان لكل مدينة الاهها , للمشاركة مع رب الارباب مردوخ في بابل , واشور في نينوى . وتجلب الالهة من المدن بعربات خاصة مع كهنة معابدها ويتقدم الالهة الاله الشاب (نابو) لتحرير والده مردوخ . فيرسم من اجل ذلك خطة بالاتفاق مع الاله (نينورتا) اله الحرب .وتستقبل هذه الالهة في العاصمة باحتفال كبير .
5- كان اليوم السابع يوم البحث عن الاله مردوخ والذي قضى ثلاثة ايام في العالم السفلي بين الاموات . ومن اجل هذا حضر ابنه الشاب الاله نابو لتحريره ..وفي هذا اليوم يخرج الشعب كله ليشد من ازر الشاب الاله نابو ويبدا البكاء واللطم والنواح والاستغاثة لاعادة مردوخ الى الحياة . ومن الجدير بالذكر ان هذه العادة كانت تمارس في قرانا في العصر الراهن في البحث عن الختن ( العريس ) ومن يجده له مكافئة ..
6- في اليوم الثامن ,يوم قيامة مردوخ من بين الاموات وتحريره من الموت وقد قضى بين القبور ثلاثة ايام !.. وبهذه المناسبة تجتمع الالهة جميعها في ( اوبشو اوكينا ) بيت الاقدار , بعد تحرير مردوخ وانتصاره على الموت.
7- في اليوم التاسع يسير موكب النصر . المهيب ويقوده الملك ومعه كل الجماهير الى بيت اكيتي مع الدفوف والالات الموسيقية والفرق المرتلة والشعب المبتهج بالنصر وهو يوم انتصار الحياة التي ربها مردوخ على الموت والشر التي كانت ترمزاليه تيامات .
8- قي اليوم العاشر تبدا الاحتفالات بالنصر وتمثل فيه مشاهدا من بعض القصص والملاحم . وبذلك تكون بلاد الرافدين اول من اسس فن التمثيل وامام الجماهير وفي مثل هذه المناسبة العظيمة ,وهذا يدل على استيعاب شعبنا لهذا الدور الخطير الذي يؤديه المسرح والممثل في حياة الشعب. وكذلك تبدا الفرق الموسيقية وفرق التراتيل والغناء .. وفي نفس هذا اليوم يتم فيه الزواج المقدس , وهو اشارة لبداية الحياة من جديد ..ويقوم بهذا الزواج المقدس , بدلا عن الاله مردوخ وزجته صربانيتم , الملك والكاهنة الاولى في المعبد. ويكون الزواج في مخدع الاله مردوخ في الطابق العلوي من معبد ( ايساكيلا ) البيت الشامخ .
9- في اليوم الحادي عشر يعود الاله مردوخ وبقية الالهة الى بيت الاقدار ( ابشو اوكينا ) لتقرير مصير الشعب ..
10- في اليوم الثاني عشر تعود الالهة الى معابدها ,والشعب والى مزاولة اعماله, بعد ان كرس اثني عشر يوما مع الهته وملكه وكاهنه , ومارس كل طقوس اجداده التي تحثه على العمل وزيادة الانتاج وحب الوطن والحرية وتحقيق النصر على اعداء الحياة والتي كانت تمثله تيامات ومن حولها من قوى الشر التي كان يرمز لها بالتنين .كل اكيتو وشعبنا والعالم بالف خير ومحبة وسلام ..
وهذه قصيدتي وترتيلتي لأكيتو رش شاتين رأس السنة البابلية الاشورية اعياد الربيع والفرح والمحبة والحياة , مع ترتيلة : اكيةو شبٌيخًا اكيتو شويحا ( اكيتو المجيد )
شعر ولحن وغناء وتوليف وعزف على العود : لطيف پولا
ترتيلة اكيتو شويحا