جورج هسدو
من الطبيعي أن تعاني أحزاب شعبنا القومية من عقدة التمسك بالسلطة أو القيادة، ومن الوارد أن يسعى المسؤول الحزبي إلى تجريد كل من يخالفه الرأي من أدوات المواجهة لضمان استمرارية نفوذه الحزبي ومكانته السياسية، فالحالة في عموم المنطقة تكاد لا تكون استثنائية في ظل الواقع الذي تعيشه المجتمعات الشرق أوسطية وبالأخص في بلد مثل العراق (وليس تحديداً) بعد عام 2003 وزوال النظام السابق الذي كان متسلطاً على السلطة ورقاب المواطنين لأكثر من ثلاثة عقود.. وسوف نعتبر غير منطقيين وربما طوباويين أيضاً إذا ما اعتقدنا أن شعبنا المختلف عرقياً ودينياً عن باقي المكونات العراقية يتمتع بمزايا راقية وأخلاق فريدة تؤهله ليكون على قمة الهرم الاجتماعي بينما الآخرين (يتمرغلون) في أسفل القاع، فلا الطبيعة البشرية ولا التأثير المجتمعي ولا حتى الأخلاق المكتسبة (من خارج شرنقة العائلة) تساعد على اقتناء التمّيز والتفوق الانساني.. لا بل أن كل هذه الأمور مضاف لها فشل النظام السياسي وقساوة المحيط الاجتماعي تعمل على تحويل المثال الصالح إلى أسوة سيئة، وإن فشلت فأنها ستجاهد بطرده من حلقة التفاعل وتبعده عن دائرة التأثير.
وهو بالفعل ما يحصل منذ فترة طويلة لأحزاب شعبنا السياسية ممن تحمل لواء القومية ولا فرق بأي مسمى أو عنوان كانت، حيث أن المرض وإن بدأ عند الأحزاب الأشورية (باعتبارها الأقدم والأكبر) إلا أنه استشرى بين شقيقاتها الكلدانية والسريانية الأصغر والحديثة نسبياً، ولم يعد هناك ما يفرق بينها أو بالأحرى بين أدائها الحزبي سوى العنوان وبعض التفاصيل التافهة التي لم تعد تهم أبناء شعبنا من قبيل التخندق الطائفي والموالاة السياسي لهذا الطرف أو ذاك.. والأسوأ أن بعضهم لا يخجل من أن يصر على إعلان نفسه في زمن ثورة الاتصالات والعولمة والانفتاح التكنلوجي بأنه السياسي الأوحد والقائد الضرورة وصانع المرحلة، وطبعاً بتأييد ومباركة جموع الـ نعم، والتي تنقسم إلى ثلاثة أقسام، موالي مستنفع، جاهل تابع وذوي القربى.. وشيئاً فشيئاً يتولد عنده شعور أن الحزب أصبح إرثاً عائلياً ولا يحق لأي شخص من خارج الحلقة الضيقة استلامه أو التمتع بمزاياه المعنوية والمادية، وهو ما يؤدي بالنتيجة إلى استشراء ثقافة التسيّد والتسلط ورفض التداول السلس للقيادة، حيث نرى تكرار الحالة عند القائد الجديد في حال تمكنه من إزاحة القديم وتشبثه بالمنصب والدرجة العالية، أما القاعدة فإنها في أقصى حالات الرفض لا تستطيع كسر قضبان قفص الأنظمة والقوانين الداخلية (إلا ما ندر وغالباً عند الشعور بالازاحة أو الخسارة) بحجة حرصها على وحدة وتماسك وسمعة التنظيم، ومن حيث لا تدري فأنها تساهم في بقاء الحزب أسير الرغبات الشخصية وتحت رحمة القناعات الفردية للقائد الذي همه الوحيد هو البقاء في أعلى الهرم لأطول فترة ممكنة.
مما سبق نصل إلى نتيجة مفادها ((إن أحزابنا القومية واقعة تحت تأثير المحيط العام المريض، وقادتها لا يتوانون عن الاقتداء بأمثلة سيئة من خارج بيتنا القومي، وأعضاؤها غير مؤهلين وينقصهم النضج السياسي والتنظيمي لاتخاذ خطوات إصلاحية))، إذا أين يكمن الحل وكيف يمكننا تجاوز المشكلة؟؟.
رغم أن الحل يكاد يكون صعب جداً في ظل الظروف الراهنة التي يعيشها شعبنا والذي لم يعد يتحمل المراهنة على دعم أي مشاريع جديدة، وهو ليس بسيطاً مع بقاء المدرسة الحزبية الكلاسيكية وتفاقم فكرة ضرورة الحفاظ على التنظيم رغم كل مساوئه وعثراته، فأن الحل يكمن في التمسك بمبدأ واحد وهو ((الغاية ثم الوسيلة))، ماذا نعني بذلك؟.. عندما يقتنع القائد الحزبي من أبناء شعبنا أن عليه أن يكون مختلفاً عن قادة بقية الأحزاب العراقية الساعية إلى السلطة وعليه أن يقدم مصلحة شعبه على مصلحة حزبه أو مصلحته الشخصية فأنه سيضع رجله في أول الطريق المؤدي إلى خلق قيادة متماسكة مؤمنة بالتداول السلس للمسؤولية ويحقق مبدأ الغاية أولاً ومن بعدها الوسيلة، وعندما يفهم الكادر الحزبي أن مصلحة حزبه لا يمكن أن تتحقق بعيداً عن مصلحة القضية ولا يمكن بناء تنظيم قوي إلا بالالتزام بمبادئ وثوابت العمل القومي فأنه يسد الطريق أمام الانتهازيين والمتسلقين ويحقق مبدأ الغاية أهم من الوسيلة.. فعراق ما بعد 2003 تحول إلى بلد تتصارع فيه الهويات الفرعية وتتقاطع فيه المصالح الفؤية وتتسابق فيه الأحزاب السياسية لتولي السلطة ومن بعدها التمتع بالمنافع والأرباح، وكله على حساب المال العام والذي نتعرف فيه يومياً على تجار السياسة وسماسرة الأحزاب وفسّاد المؤسسات الحكومية، كما أن العمل السياسي في عراق اليوم أصبح يعتبر فرصة للثراء السريع والمكانة الاجتماعية المرموقة.. إلا أنه على أحزاب شعبنا أن تعي أنه لا يمكن لها المنافسة في هذا المضمار لصغر حجمها ومحدودية تأثيرها ولا يمكن لها أن تشكل رقماً في المعادلة الاقتصادية (ولن أقول السياسية) لتمسك الأطراف الأخرى بايدلوجياتها العقائدية المتأسسة على خلفيات إما دينية متسلطة أو قومية رافضة، وفي أحسن الأحوال يتم القبول بالموالاة والتبعية الملطخة بعار العمالة والتي هي أيضاً لا تتجاوز حدود المنفعة الشخصية للأفراد.
برأيي أن هذا كله لا يمكن تحقيقه إلا بشرطين:
الأول.. أن يمتلك المسؤول الحزبي إيمان صادق بعدالة القضية ويكون لديه استعداد قوي لنكران الذات وعلى الأقل في حدوده المقبولة مرحلياً وقدراتياً، أي على من يطرح نفسه قائداً أو مسؤولاً أو حتى عضواً لحزب سياسي قومي إبداء استعداده الدائم للتضحية وتقديم مصلحة الشعب والقضية على مصلحة حزبه أو مصلحته الشخصية، حيث بخلاف ذلك فأنه سيعتبر موظفاً في مؤسسة يقدم لها الخدمات مقابل أجر شهري!!.
الثاني.. العمل على تغيير الأنظمة والقوانين الداخلية بما يتماشى وروح العصر وأحترام قناعات المنتمين والحد من سلطة القيادة ونفوذ الزعيم، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تأسيس معهد إعداد الكوادر الحزبية لتأهيلهم سياسياً وفق منهج علمي وتربية قومية سليمة ترفع من مؤهلاتهم وقدراتهم الفردية وتعمل على بناء شخصية سياسية قوية لديهم.
ولمن يشكك أو يعترض على ما تقدم أقول ((لقد فكرت وأدليت بدلوي وهذا ما خرج معي، فهات ما عندك وسنكون أول الداعمين إذا كان أفضل مما موجود))، فالعبرة ليست بالاعتراض أو الرفض بل.. الأتيان ببديل.