“الجزء الثالث”
جورج هسدو
g_hasado@yahoo.com
النهج التعاوني والمسار القومي
أسوأ وأخطر جملة بتنا نسمعها اليوم هي (نحن وأنتم)، فالمقتنع بالاسم القومي الواحد يعتبر الآخرين على خطأ فتراه أحياناً يدقق بأدق تفاصيل التاريخ ويسبر أغواره فقط ليقتنع ويقنع المقابل بصحة رأيه، وأحياناً تراه يجادل حد العداء بأن ما يلتزم به هو الحق المطلق الذي يجب على الجميع الإيمان به.. والعنصري الطائفي الذي يكون مستعداً للقبول بأسوأ ممارسات وخرافات كنيسته بينما يحتقر ويذم حتى المفاهيم الجيدة لبقية الكنائس، والمضحك المبكي أنه يلتزم بالطاعة العمياء من جانب ويمارس سلوكاً إنفتاحياً من جانب آخر دون وعي أو إدراك لماهية فعله هذا، بل عن ولاء تقليدي وإلتزام جامد.. حيث غالباً ما نشهد عبارة مثل نحن كذا بينما أنتم كذا أو نحن غير ما أنتم عليه أو في أوسع تفضيل نرى من يتكلم عن أنه هو الأصل والآخرون تفرعات عنه، كل هذا بسبب وجود بعض الإختلافات إما في اللاهوت الوضعي أو في اللهجات أو في جزء من الأعراف والتقاليد أو في التقسيم الجغرافي بين الجبل والسهل.. وهو ما يؤدي مع استمرارية الإصرار على التقسيم لتفكيك عناصر ومشتركات الجماعة الواحدة وتحويلها إلى مجاميع صغيرة غير مترابطة، وأحياناً حتى إلى ملل وطوائف متكارهة ومتصارعة على مسائل وقضايا سطحية جاعلة من نفسها لقمة سائغة للاستهدافات الخارجية المتكررة.. لذا علينا جميعاً أن نعي أننا أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الإتفاق أو الإختلاف، وبما أن الاتفاق يعني الوحدة والاختلاف يعني التقسيم فبالتالي الوحدة ستجعلنا أكثر قوة ومن الصعب استهدافنا بينما التقسيم سيبقينا ضعفاء وسيكون من السهل استباحتنا، إذاً الاتفاق يعني القوة، لكن على ماذا نتفق؟.
قبل كل شيء علينا أن نتفق أننا بحاجة إلى قومية جامعة، نعم أن نكون شعب واحد وموحد وأن نترك جميع خلافاتنا الداخلية غير الأساسية جانباً وأن نتقبل أحدنا الآخر كما هو لا كما نريده أن يكون، ومن الطبيعي أن توجد بين مكونات شعبنا إختلافات وتبايانات إن كأفراد أو كمجاميع إلا أن ذلك لا يمنع أن نعمل على تقوية المشتركات وإذلال كل ما يفرقنا.. وعندما نتفق أننا بحاجة إلى عنوان شامل (وأقصد أسم قومي جامع) فأننا سنكون مستعدين لترك خلافاتنا غير الجوهرية جانباً والتمسك بالجوهري والرئيسي الذي هو في مصلحة الجميع دون استثناء ولا تفاضل، وهو بالضبط ما يحتاج إليه شعبنا لمواجهة المخاطر المحيطة بمستقبله.. حيث بخلاف ذلك فأننا سنبقى أسرى أصحاب الخطاب الإيماني (البالي) والايدلوجية التنظيمية (المزيفة)، وأن شعبنا سيبقى مسحوقاً تحت رحى الدسائس الاقليمية والمؤامرات الخارجية والتي تزداد عدداً وشدّة مع كل مرحلة يتهيأ فيها شعبنا لتحقيق ذاته، فاليوم أما أن نسعى لترميم ذاتنا أو أن نستمر بجلدها!!.
رؤية باتجاه الترميم
بالعودة إلى سؤال على ماذا نتفق؟، باعتقادي غير الجازم أنه رغم أهمية الاتفاق على اسم جامع وموحد إلا أني أرى من الصعوبة بمكان تحقيق ذلك وشعبنا مقسم إلى طوائف (غير منسجمة) وأحزاب (غير متحدة) ومجاميع (غير متجانسة)، والأهم أو الأصعب أفراد (غير مدركين) يتلذذون بفتنة التسميات.. حيث من الصعب الاتفاق على اسم واحد في الوقت الذي يتمسك به الجميع بما لديه أو بالأحرى بما ورثه عن أسلافه، كما أن الاسم المركب لم تنجح تجربته وتم رفضه لأسباب جلها فلسفية وغير عملية، أما الأسماء المتعددة فقد لا تحقق الاتفاق بقدر ترسيخها للفرقة والتعددية.. لذا فأنه من المعقول إذا ما كنا نسعى للاتفاق أن نترك هذا الخلاف (المعقد) على جنب ونركز على القضايا المهمة والجهود الرئيسية والمستعجلة التي يحتاجها شعبنا لترسيخ وجوده والحفاظ على هويته وتحقيق ذاته القومية، أما الأمور الملحة فيمكن تلخيصها في أربع نقاط جوهرية:
1-الشعب: ، بعد أن تحول المتبقي من شعبنا في الوطن إلى أقلية مستضعفة، وبعد أن فشلت جميع الحكومات المتوالية في عراق ما بعد 2003 في حماية شعبنا وصيانة حقوقه، بات لزاماً على ثلاثة أرباع كثافتنا السكانية الموجودة في دول المهجر (وقد تكون النسبة أكبر) بذل جهود كبيرة منظمة وموحدة للحفاظ على ما تبقى من أصالتنا في أرض الآباء، فالأوطان البديلة لا تعوض عن الوطن الأم مهما ارتحنا لأنظمتها ومهما وفرته لنا من حقوق وعيش رغيد.. وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بـ (اتفاقنا ووحدتنا).
2-الأرض: لا يقل عامل الأرض في الحفاظ على خصوصيتنا عن عامل الشعب، فبدون جغرافيا تاريخية لا يمكن الحفاظ على غالبية بشرية وهو ما يصل بنا إلى ديموغرافيا حيوية، أرضنا اليوم مصادرة وقرآنا تحت الهيمنة وأملاكنا مستغلة من آخرين فهل نفهم أن ارتباطنا الوطني يبدأ من الحفاظ على مناطقنا التاريخية أم أن الأمر لا يعنينا؟؟.. برأيي كلما أستّرجع متراً من أراضينا المحتلة دق مسمار في نعش اندثار وجودنا في الوطن، حيث إن الإنسان غير المرتبط بمكان لن يكون سوى فرد لامنتمي ولاأبالي وبالتالي غير مهتم بقضية جامعة، ولرفع سقف إمكانية استرجاع حقنا المباح ومكاننا المغتصب وأيضاً للحفاظ على ما لدينا، علينا أن (نتفق ونتوحد).
3-الحقوق: يتفق الجميع على أن حقوق شعبنا المدنية والقومية مهضومة في العراق، وذلك بسبب النزعة الدينية والطائفية الموجودة لدى حكام البلد في الوسط والجنوب والنزعة القومية الشوفينية للحاكم في الشمال، وقد فشلت جميع محاولات المسايرة التي مارستها مؤسساتنا القومية والمدنية وحتى الكنسية لتذليل ذلك.. فلا الحق القومي مصان ولا الحق الديني محفوظ بسبب إصرار الأطراف الحاكمة في العراق وعلى مدى عشرين عاماً على التعامل مع شعبنا باعتباره مواطن درجة ثانية وأحياناً حتى ثالثة، وحصره في خانة القبول بالأمر الواقع أو التهميش والأسوأ دفعه إلى الرحيل والهجرة.. وأبسط دليل على ذلك هو استغلال شعبنا في العملية السياسية بدلاً من اعتباره شريكا ولو صغير، إضافة إلى الإبقاء على قوانين مجحفة بحق شعبنا على الرغم من جميع محاولات التفاوض والحوار لتعديلها، حيث لم يترك الجانب الآخر أي خيار أمام شعبنا سوى نيل حقوقه بالمواجهة والتصدي.. وهوه الأمر الذي من المستحيل تحقيقه من دون (الاتفاق والاتحاد).
4-المشروع السياسي: إن أسوأ ما قامت به أحزاب شعبنا السياسية هو عدم تبنيها لمشروع سياسي واضح وناضج مقابل إلقاء كامل قوتها على الفوز بالمقاعد البرلمانية والمناصب الحكومية، إلى الدرجة التي بات فيها شعبنا يعتقد أن حقه القومي ينحصر في التمثيل السياسي البرلماني والحكومي.. وعليه اعتقد البعض أو توهم أنه قد وجد بديلاً عندما رفض الأحزاب وتوجه إلى الكنيسة لنيل حقوقنا السياسية، فهل من المعقول أن نسعى إلى المسيحية السياسية بعد فشل الإسلام السياسي وبالأخص مع التجربة العراقية بكل ما حملته من قصور ومساوئ؟!.. للمرة الخمسين أقولها، لم يعد يوجد أمام شعبنا إذا ما أراد الحفاظ على وجوده القومي والتمتع بحقوقه المدنية أي خيار آخر سوى تدويل قضيته السياسية.. وبالتأكيد إن أول ما يحتاجه ذلك هو أن نكون (متفقين وموحدين).