لطيف نعمان سياوش
قبل اكثر 39 عاما تحديدا في عام 1983 عندما انتهت ألإجازة الدورية للجندي المكلف موسى جرجيس عسكر ، كانت المعارك في الحرب العراقية الإيرانية على أشدها بين كر وفر في قاطع كردمند ..
حمل حقيبته وقبّل زوجته الحامل حمامه ، وطفله الصغير راكان ليودعهما ..
أما كلماته الاخيرة التي نطقها قبل ان يفترق فكانت تنصب على المولود القادم المنتظر حيث قال :-
إذا كان المولود فتاة ولم أعد أنا فإن وصيتي أن تسموها رشا !!
تتذكر حمامه دائما آخر وداع عندما بادرت برش طاسة ماء خلف موسى كما جرت العادة مقلدة امهاتنا عندما يودعن عزيزا عليهن لكي لا يطيل الغياب ويعود مرة اخرى وتتكحل عيناها به .. كما تتذكر عندما لمح بيده إشارة الوداع مع إبتسامة مريرة ملؤها المعاني الحزينة ، وكأنه يقول :- أنا ذاهب قد أعود أو لا أعود !!..
في تلك الحقبة كانات آذان الجميع مصغية لأنباء المعارك وعيون الناس ترقب تلفزيون العراق الذي ينقل صور من المعركة التي ابتلى بها شعبي العراق وإيران ..
حرب سقيمة لمراهقين اوغلا في تعنتهما ودفع شعبيهما ثمن المعارك الضارية ..
هذه المرة اشتدت المعارك في قاطع كردمند بشكل شرس للغاية بين طرفي النزاع غاية كل منهما السيطرة على هذا الجبل الاستراجي في المفهوم التعبوي لأنه يطّل على منطقة حاجي عمران والمنفذ الحدودي المهم في المنطقة ..
لم تمض كثير من الايام .. هدأت المعارك ، ومرت الايام .. حمامه تنتظر عودة الحبيب بلهفة المحبين كما كل العوائل ، وحان موعد إجازة موسى لكنه لم يأت .. مرت الايام ببطىء شديد وكأنها سنين ثقيلة لم يأت !!
×× ×× ×× ××
لم يعد الاب ، ولم ير مولوده القادم ، وكان المولود فتاة كما تمناها هو ، وسمتها امها (رشا) ..كيف لا وهي الامينة أن تطبق وصية الحبيب..
كبرت رشا وفهمت معنى الحياة ، لكنها لم تر والدها ، وكان السؤال الذي يؤرقها دائما :- لماذا كل الناس لهم آباء الا أنا ؟!!
أما ولده راكان الشاب المتدفق حيوية وجمالا ونشاطا اليوم ، والذي يتحمل مسؤولية العائلة الآن فهو الآخر كان يراوده نفس السؤال عندما كان صغيرا ..
راجع ذويه خلفيات وحدته العسكريه يستفسرون عن مصيره أخبروهم بأنه فقد في المعركة الاخيرة ، ولا أحد يعرف عن مصيره أي شيء.
من يومها ظلت زوجته واهله يكثرون سماع الإذاعة الايرانية خلسة علهم يسمعون صوت موسى . حيث ان الاستماع لإذاعة العدو في زمن صدام حسين يحاسب عليه الناس بشده . لكن دون جدوى .. فلا احد سمع صوته من يومها ، ولا أحد علم عن مصيره شيء ..
لكن توالت الاخبار والاشاعات لعائلته بأن بعضهم سمعه من الاذاعة الايرانية!! ليتبين فيما بعد ان تلك ما كانت الا فبركة غايتها التخفيف عن وجع اسرته ولتبقى تتأمل وتتطلع علّه يعود اليها عند انطفاء نيران الحرب ..
في قادم السنين انتهت الحرب وتم تبادل الاسرى وعاد آلاف الاسرى إلى بيوتهم وعوائلهم إلا موسى بقي مفقودا ومجهول المصير..
×× ×× ×× ××
يوم 3/6/2022 إمتلأت صفحات التواصل الاجتماعي خبر العثور على رفاة الشهيد موسى جرجيس عسكر من قبل احد فلاحي قضاء حاج عمران عندما كان يحرث الارض من خلال صفحة 7 ROJ عثر على سبعة رفاة لشهداء الجيش العراقي .. ستة منهم مجهولي الهوية . أما الوحيد الذي تمكنوا من التعرف عليه من خلال هوية نقابة المعلمين (المكبوسة بشكل جيد) الموجودة في جيبه فكان الشهيد موسى ..
من هنا بدأت عائلة الشهيد وذويه يقيمون العزاء والصلوات وهم يذرفون الدموع بوجع كبير لمحب عزيز كانوا يتأملون أن يلتقوه يوما برغم العقود الاربعة التي ابعدته عنهم .. تحرك ذويه بسرعة كبيرة ووصلوا الى قائمقامية حاج عمران ، وبعد مكالمات عديدة بين قائمقام عنكاوا وحاج عمران ، استلموا الرفاة ..
×× ×× ×× ××
السؤال الصعب هو :- هل أن موسى جرجيس عسكر أستشهد عام 1983 عندما لم يعد من آخر إجازه دوريه منذ 39 عاما ؟.. أم انه استشهد اليوم في مطلع حزيران 2022 ؟.. أم أنه إستشهد مرتين ؟..
اليوم إنظمّ شهيد آخر إلى قافلة شهداء عنكاوا ، ودخل قائمة الخالدين من أوسع الابواب ..
×× ×× ×× ××
قبل أن أختم لا بد من الاشارة أن قائمقامية حاج عمران لم تكلف نفسها أن تضع رفاة الشهيد في صندوق وتغلفه بعلم الشهداء ليتلائم مع منزلة الشهادة ومكانتها ، ولتبعث الراحة في نفوس ذويه ، إنما وضعت الرفاة داخل كيس !!
هل وصلت حقوق الانسان عندنا الى هذا المستوى من التدني ؟ مع كل الاسف هذا لايحدث حتى في جيبوتي وجزر القمر ..
اليوم قبل كتابة هذا المقال بقليل عدت من مقبرة عنكاوا التي شهدت تشييع مهيب جدا للشهيد موسى جرجيس عسكر ..
تشييع لا يليق الا بالشهداء .. حيث إمتلأت المقبرة بأعداد غفيرة من أهالي عنكاوا وأربيل وبقية الاطراف ، وتكللت بأكاليل وباقات الزهور ، ودوّت عاليا زغاريد النساء وهي تودع ابن عنكاوا البار بدموع الحزن والالم ..