د. المؤرخ الكاتب حسن الزيدي
سأحاول ان أجتهد في المساهمة في بحث فكرة وأسلوب المنهج الوسطي..
أولا- المنهج الوسطي في اللغة الادبية يعني، وجود شيء او شخص او دولة في الوسط بين أربع جهات هي الشرق والغرب والشمال والجنوب. أي في نقطة إرتكاز مركزي. ويعني الاعتدال والمنطق الأقرب للواقع المعاش (المعاصر). أي ان لا ينظر كثيراً للوراء ولا يستعير كثيراً من تجارب الماضي (السلف) حتى الصحيحة منها، ومحاولة تطبيقها على الحاضر على الرغم من اختلاف المكان والزمان والأشخاص الذين طبقوها، حيث سوف يكون الامر رجعياً وغير واقعياً.
كما لا يصح من وجهة نظري إعتماد وتخيل وافتراض منهجاً وأسلوباً بعيداً زمنياً لمعالجة وقائع معاصرة، بل الأفضل والأكثر نفعاً وفائدة هو اختيار (منهج معاصر ومتحرك قابل للتطبيق في المكان المتباين أي حسب ظروف كل دولة وفي زمان محدد).
ان المنهج هنا يعني طريقة وأسلوب وفن وفلسفة عيش على الأصعدة الفردية والجماعية وعلى صعيد الدول أيضا. وهو لا يختلف عن السياسة التي لا تعني فقط الحزبية كما يتبادر لأذهان البعض لان الحزبية والتحزب والتكتل والتعايش هي مفردات من معنى السياسة ومثلها الديمقراطية التي هي إحدى مفردات واوجه الحرية. ومثلهما منهج الترويض والتدريب والصقل، فالمنهج والسياسة والترويض هي مفاهيم لغوية واجتماعية متقاربة لحد التطابق.
ثانيا- الوسطية في لغة العلوم الصرفة، الوسطية والوسط في علوم الفيزياء يعني (مركز الثقل لكل مادة) التي كلما تمددت في الطول والعرض تبتعد عن المركز ويقل وزنها وتأثيرها. فالكون مركزه الشمس التي كلما اقتربت منها أجزاء من الأرض تزيد حرارتها وكلما ابتعدت تزيد برودتها، بينما يبقى وسطها حاراً جداً، حيث الصحاري الرملية والصحاري الثلجية والبراكين الأرضية والفيضانات. أي ان موقع الأرض المستديرة والمتحركة من الشمس الثابتة هو الذي يحدد لنا المناخات والانواء الجوية واشكال النباتات والأشجار والحيوانات ومنها البشر الذين توزعوا بحكم البيئة الجغرافية ونوعية الأغذية والاطعمة بين أربعة ألوان.
– الأبيض كثيراً.. في دول اوربة الشمالية. حيث البلدان الباردة والرطبة
– الأحمر النحاسي.. في قارة أميركا حيث البلدان الباردة الجافة.
– الاسود.. في افريقيا الغربية وخاصة شعوب السنغال وكامبيا حيث البلدان ذات الحرارة العالية والرطبة.
– الاصفر الزيتوني.. في البلدان ذات الحرارة الجافة في قارة اسيا.
ثالثا- المنهج الوسطي في السياسة.. الوسطية ليست ترفاً بل هي تطبيقات يومية لأنها تعني (الاعتدال) الذي هو منهج فلسفي، حيث يكون ابعد من (اليمين المتطرف جداً او الرجعي وابعد من اليسار المتطرف جداص او الفوضوي). فاذا اخذنا مثلا مساحة 10 أمتار فيكون موقع اليمن المتطرف بين المترين الأول والثاني في الطرف الأيمن فيما يكون اليسار المتطرف بين المترين التاسع والعاشر في الطرف الايسر. فيما تكون مساحة الوسط بين 3-8 أمتار هي التي بينها يتوزع (منهج الوسط الأقرب لليمين) الذي قد يأخذ الثالث والرابع و(منهج الوسط التقدمي) الذي يأخذ السابع والثامن فيبقى (منهج الوسط المعتدل) بين الخامس والسادس.
رابعا. نماذج لمنهجيات سياسية لبعض الأنظمة.
1-المناهج المحافظة للأنظمة المركزية. تخضع لإدارة مركزية تتركز فيها السلطات بين يدي امبراطوراً او ملكاً او رئيس جمهورية او سلطاناً او اميراً او شيخاً مع مجموعات قليلة (حاشية) محيطة بهم وممثليهم في المقاطعات والولايات والمحافظات. في المناهج المحافظة لهذه الأنظمة تتعقد الأمور ويزداد الروتين على المواطنين وتقل ادوار السلطة التنفيذية حيث تغيب او تقل كثيراً المؤسسات الديمقراطية وتكون شكلية في أنشطتها وفعالياتها لصالح الدكتاتورية التي تتعايش في الغالب مع الأديان المحافظة والجامدة بطبيعتها، مما ينعكس ذلك على السلطة القضائية. كما تقوى أدوار الجيش والشرطة والمؤسسات الأمنية كثيراً فيما تقل كثيراً أدوار وسائل الاعلام والأنشطة المدنية.
هذا النوع من المناهج المحافظة ينطبق حاليا (بنسب متفاوتة) على:
ا- مناهج كل الدول العربية والإسلامية والدول الأخرى المماثلة لها والتي يطلق عليها دول العالم الثالث التي تصنف على أساس كثرة جيوشها وكثرة الامية والبطالة وقلة نسبة مساهمة النساء في كل أنشطة ومؤسسات القطاعات العامة والمختلطة والخاصة وقلة او انعدام الأحزاب السياسية الحرة والتنظيمات النقابية والمهنية المختلفة للمجتمع المدني.
كما ينطبق هذا الوصف على مناهج الدول الشيوعية قبل تفككها عام 1990، حيث كان يحكمها حزباً واحداً مهيمناً على كل أنشطة الحياة التي يصبها الفقر والعقم والجمود الفكري لفقدان المبادرات والأفكار والآراء والاجتهادات والانتقادات الحرة ولذلك تفككت.
2- مناهج الانظمة المتطرفة يساراً تقل فيها كثيراً المؤسسات المركزية لصالح مؤسسات مناطقية قد تتباين في توجهاتها الفلسفية بين متطرف قليلا ومتطرف كثيراً وقد تعم الفوضى اليسارية فيها، منها امثلة وليس حصراً كلا من :
– (انتفاضة الزنج) في جنوب العراق بين 869/883م التي قتل فيها 500الف شخص بحسب تقديرات المؤرخ علي حسين المسعودي ولد عام 896 في بغداد وتوفي عام 956 في القاهرة والمؤرخ محمد بن يحي الصولي أشار الى 1.5مليون قتيلا. والمؤرخ العراقي ابن طقطقي عاش بين 1260/1309 يشير الى 2.5 مليون قتيلا.
– الثورة الفرنسية بين 1789/1804حيث ارتكب الذين ساهموا بها جرائم بشعة ضد أبرياء، ثم تقاتلوا فيما بينهم واندحروا جميعا ليسرق السلطة نابليون الضابط الشاب الكورسي الإيطالي الأصل ويحولها الى امبراطورية توسعية حتى اندحاره في 18 حزيران 1815 في معركة واترلو حيث تم أسره ونفيه الى جزيرة القديسة هيلينا التابعة للمملكة المتحدة حيث توفي عام 1832.
– (انتفاضة كمونة باريس) بين 18 اذار و28 مايس 1871 راح ضحيتها 20 ألف قتيلا.
– الانتفاضة الماركسية في المانيا في كانون الثاني 1918وادت لاستقالة الامبراطور غلوم الثاني في 8 تشرين الثاني 1919 حيث قادها في مدينتي برلين وبافاريا كل من الحزب الشيوعي الألماني الذي تأسس في كانون اول 1918ورابطة سبارتاك التي تأسست في مطلع تشرين ثاني 1919 بقيادة البولونية روزا لوكسمبورغ التي ولدت عام 1871 في بولونيا وقتلت في 15 كانون الثاني 1919 في برلين مع زميلها الألماني (كاري لبنخت ) مواليد عام 1871 في مملكة الساكس واعدم في كانون الثاني 1919 فبعد اجهاضها تشكلت (جمهورية فيمر اي المانيا ) بعد سحق اليساريين المتطرفين وعاشت جمهورية فيمر بين تشرين ثاني 1918 واذار 1933حيث استلم هتلر السلطة وبدل اسمها الى جمهورية المانيا .
3- المناهج الوسطية للنظم اللامركزية او الفدرالية والاتحادية، هي النماذج الأفضل، حيث تقل فيها صلاحيات ومسؤوليات السلطات المركزية لصالح صلاحيات السلطات الاتحادية والفدرالية والمحلية حيث تتوزع فيها السطات بين أكثر عدد ممكن من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية (منظمات المجتمع المدني) فيخف الروتين والضغط على السلطات المركزية وتكون مشاركة الناس أوسع في القرارات المحلية في التعليم والصحة والضرائب وغيرها كما يزيد انتفاع الناس من الخدمات المتنوعة (بيوت سكن. مدارس. مراكز صحية.. طرق. حدائق عامة. مسارح. سينمات. مسابح. شواطئ. ملاعب رياضية الخ) لأنهم يتعاملون مع مسؤولين اداريين وتربويين وماليين وامنيين محليين يعرفون بعضهم او كلهم من منطلق (اهل الدار اعرف الذي فيها والذي ينقصها وما هو الضروري والأكثر ضرورة والمهم والأكثر أهمية. هذا النمط من الأنظمة الوسطية موجود في كل الأنظمة المتقدمة منها خاصة.
– نظام المملكة المتحدة. التي يعتبر أقدم امبراطورية لا زالت قائمة منذ وثيقة (الماكنا كارتا والوثيقة الكبرى) لعام 1215مرورا باتفاق ما سمي بقانون الوحدة في 1/5/1707بين مقاطعة انكلترا في الشرق ومقاطعة الغال في الغرب ومملكة الايكوس في الشمال ومملكة إيرلندا في الغرب قبل انفصال إيرلندا الجنوبية عام 1923 وبقاء إيرلندا الشمالية.
– نظام الولايات المتحدة. الذي بدأ عام 1776 مع 17 ولاية وصار حتى عام 1959 يتكون من (50 ولاية – دولة) تشترك كلها في جيش واحد وعملة واحدة وعلم مركزي وبرلمان مركزي بمجلسي النواب والشيوخ ومحكمة قضائية عليا واحدة وضرائب مركزية، لكن لكل ولاية مؤسساتها اللامركزية الخاصة بها.
– نظام الكونفدرالية السويسرية التي عاشت بين 1291/1798 وتحولت منذ عام 1815الى (اتحاد سويسري) يتكون من 26 كانتون وفيه 3 لغات.. الالمانية بنسبة /80 الفرنسية بنسبة /15 والايطالية بنسبة /5.
– نظام جمهورية المانيا الاتحادية لمقاطعاتها ال (20).