صباح توما مركايا
في السابع من آب كل عام، يتوقّف الزمن عند حدود الوجع، وتغدو الذكرى نارًا في القلوب، لا لتأجيج الكراهية، بل لإحياء الضمير في أمة نُكِلت مرارًا وتكرارًا، وذُبِحت لا لشيء، إلا لأنها تمسّكت بهويتها، بلغتها، بإيمانها، وبحضورها التاريخي في أرض نينوى وما بين النهرين.
يوم الشهيد الآشوري ليس مناسبة عابرة، ولا مجرد وقفة حزينة في زوايا الكنائس أو مداخل القرى، بل هو صرخة وعي… شهادة حية على أن من لا يحفظ دماء شهدائه، سيفقد ملامحه، تاريخه، ومستقبله.
لماذا السابع من آب؟
في عام 1970، أقرّ التحالف الآشوري العالمي (Assyrian Universal Alliance) يوم 7 آب يومًا رسميًا لإحياء ذكرى الشهداء الآشوريين/السريان/الكلدان، بعد دراسة عميقة للتاريخ الدموي الذي عاشه شعبنا، وتمييزًا لمجزرة سميل كأحد أعنف الفصول.
لكن الحقيقة أن هذا اليوم لا يخصّ فقط شهداء سميل، بل هو امتداد لكل الدماء التي سُفكت ظلماً:
- في مذابح سيفو (1915) على يد الدولة العثمانية.
- في مجزرة صوريا (1969).
- في هجمات داعش على سهل نينوى (2014).
- في التهجير القسري، والتطهير الديموغرافي، والاستهداف المنهجي للهوية.
يوم الشهيد هو شهادة على شعبٍ، كل جيل فيه قدّم قربانًا جديدًا على مذبح الإيمان والهوية.
مجزرة سميل 1933… الجرح الذي أسّس الذاكرة
في صيف 1933، وبعد رفض الحكومة العراقية لطلب الحماية الدولية للآشوريين، تحرّك الجيش بقيادة بكر صدقي ونفّذ واحدة من أبشع المجازر في التاريخ الحديث.
أكثر من 60 قرية دُمّرت، الآلاف ذُبحوا بلا رحمة، وأُجبر من تبقّى على الهرب أو الخضوع.
المذبحة لم تكن فورة غضب، بل قرارًا سياسيًا بدعم بريطاني وصمت عربي وعالمي. وقد كانت هذه المجزرة هي التي ألهمت المفكر القانوني رافائيل لمكين لصياغة مصطلح “Genocide – إبادة جماعية”، والذي أصبح لاحقًا جزءًا من القانون الدولي.
ومع ذلك، لم تعتذر الدولة العراقية رسميًا حتى اليوم، ولم يتم تضمين الجريمة في كتب التاريخ، وكأن الشهداء لا أسماء لهم، وكأن الموت الذي حصدهم كان خطأً في التقويم.
من التاريخ إلى الحاضر… شهادات لم تمت
لم تنتهِ حكايتنا مع سميل، بل تواصلت بأشكالٍ جديدة:
- في بعشيقة وبحزاني، حيث عاش المسيحيون والإيزيديون التهجير والاضطهاد بعد اجتياح داعش.
- في سهل نينوى، حيث تعرّضت قرانا للحرق والتدمير، وواجهت عملية خنق بطيء للهوية، بحجّة الأمن والواقع السياسي.
- في المهجر، حيث تحول الشتات إلى نزيف دائم من القدرات والعقول واللغة والانتماء.
نحن لم نمُت جسديًا فقط، بل نُحرق روحيًا كل مرة نُعامل فيها كمواطنين من الدرجة الثانية في وطنٍ نحن أصله وأساسه.
من أنا لأكتب؟ أنا صوتٌ لا يسكت عن الحق!!
أنا لا أكتب لأجل البكاء على الأطلال، ولا لأجل نحت تمثال لرمز جديد.
أنا أكتب كي لا تموت الحقيقة…
كي لا يُمحى اسم شهيدنا من التاريخ…
كي لا يقول أحفادنا غدًا: “لماذا سكت آباؤنا؟”
أنا أكتب لأُطالب بـ:
- اعتراف رسمي من الدولة العراقية بمجزرة سميل كمجزرة إبادة جماعية، مع تعويض مادي ومعنوي لأهلها ولشعبنا.
- إدراج المذبحة في مناهج التاريخ الوطنية، تمامًا كما تُدرّس ثورات وتضحيات شعوب أخرى.
- حماية الوجود المسيحي في سهل نينوى ودعمه قانونيًا، لا تحويله إلى ملف تفاوض بين القوى المتنازعة.
- مأسسة يوم الشهيد في الوجدان العالمي، ودعوة الأمم المتحدة للاعتراف بـ 7 آب كيوم عالمي لإحياء ذكرى الشهداء الآشوريين السريان الكلدان.
رسالتي للعالم:
لا تتحدثوا عن “وحدة العراق” ما لم تعترفوا أولًا بمن قُطّعت أوصاله باسمها.
ولا تتغنوا بـ”التعددية”، وأنتم تمحون الذاكرة وتطمسون الشواهد وتحرمون الأجيال من رؤية الحقائق.
نحن لسنا “جالية” في أرضنا. نحن الأصل، وأنتم الضيوف.
دمنا في نينوى… ترابنا في أورهي… لغتنا في قلب يسوع… وشهادتنا باقية ما بقيت الحياة.
وختامًا…
يوم الشهيد ليس لحظة بكاء، بل قرار وفاء.
هو وعدٌ بألا ننسى.
هو عهدٌ بأننا سنُقاوم النسيان، بالكلمة، بالفن، بالصلاة، وبالإيمان.
هو تجديدٌ للميثاق مع تراب الآباء الذين ماتوا ليبقى لنا وطن نعتز به لا نستجديه.
فليرتفع اسم الشهداء في علياء الذاكرة…
ولتعلم الأرض أن دماءنا ليست ماءً… بل نارًا تُنير الطريق، وماءً يُغسل به ضمير الأمم.
المجد لشهدائنا… والخلود لأسمائهم… والنور لدربنا نحو الحق.
