شوكت توسا
لم يكذب صدام حسين حين قال: يجب ان تكون لكل عراقي قصة في القادسية , وقصة الاستاذ بولص آدم “شاي اسود ثقيل” حفزتني على وعد مشاركته بقصة ستطول بعض الشيء , لذا ارجو المعذرة .
في ايلول 1982, تم سوقي لخدمه الاحتياط سهواً, شُرّعَ في حينها نظاما يلزم كل ّعسكري بقضاء شهر في جبهات القتال, فتم في نيسان 1984 سوقي من بغداد الى البصرة حيث مقر الفيلق الثالث ,أمضيت رحلة البصرة مع بنفسجيات ياس خضر و ابوذيات حسين نعمه , بينما كُتبَ عليّ قضاء الساعات التاليات بين الترجل من عجلة ايفا و الانبطاح ارضا تحت دوي شتى مصادر وأصناف القصف, وبين الرواح والاياب متنقلا ما بين جوال( قوات المهلب) وبين مقر فرقتها الرئيسي, الى ان حلّ الفرج بتحرير كتاب تنسيبي للفوج 48 / السرية الثالثة الرابضة في حجابات يفصلها عن الايرانيين مسطح مائي مصطنع لا يتجاوز عرضه ال 150 مترا.
وصلت ليلا مواضع خاويه الامن نائب ضابط احتياط خريج ,اسمه مهدي, سلمني له المأمور واقفل راجعا, لم استطع رؤية وجه مهدي , لكن نبرة صوته و اسلوبه اوحيا لي عن طيبه, إصطحبني الرجل لنيل قسط من الراحة في ملجأ اشبه بقبر ينيره فانوس دلني ضياؤه الى وداعة وجه مهدي والى عقارب ساعتي المشيرة الى منتصف الليل , فسألته: اين هي السريه؟ علت وجهه ابتسامه وديعه ثم أجابني, نحن حاليا في احد مواضعها , ومراتبها على وشك الوصول فهو آخر ايام تدريبات التهيؤ للقيام بصولة خطف اسير ايراني , بطريقه ذكيه حاول تخفيف القلق الباديه ملامحه في وجهي, واعدا اياي بتدبر أمري مع أمر السرية .
على وقع بساطيل جنود السرية العائدين, نهض مهدي ونهضت معه ثم خرجنا من الملجأ سوية للاستطلاع. في هذه الاثناء توقفت امتارا قليله عنا عجله نزل سائقها يتمشى ,سلّم عليه مهدي بعبارة (هلو كوركيس شلونك؟), فتبعته انا ايضا بذات العبارة ,اجابنا كوركيس هلا بيكم احبابي,”انه العريف احتياط كوركيس سائق امر اللواء” قال ن.ض مهدي . دناني فضولي قليلا من كوركيس وسألته بالسورث, من اين انت كوركيس؟ اجابني وي بشينا من الدورة .عاد وسالني نفس السؤال فأجبته من القوش جئت اليوم من بغداد معايشه في السرية الثالثة لا ادري مالذي ينتظرني, هنا علّق مهدي بطريقه ظريفه قائلا : لا ربطت , طلعتوا كرايب؟ رد كوركيس : عيوني مهدي , عينكم على الخال الظاهر حظه ماراهم جاي بهاي الليلة السودة لسريتكم ! رد عليه مهدي شنو اللي بيدي كوركيس؟ التفت كوركيس لناحيتي وقال لي: ابقى هنا ساعود حالا, عاد كوركيس ليخبرني بانه شرح امري لامر السرية وسوف يراعى وضعي, ثم همس باذني عينك على امر السرية عساها تشفعك في قضاء بقية ايامك, جمله مفيدة تطلبت مني سرعة الاستجابة, فسألته كيف ؟ امسك بيدي وسحبني معه مشيا ً باتجاه مكان امر السرية ,اثناء مشيتنا همس ثانية : هل بامكانك ان تضع اي مبلغ بكفك اليمين اثناء مصافحته؟ اجبته نعم رغم خوفي من السالفة ,لكنه طمأنني وشجعني ففعلتها شاكرا اياه ووعدني بلقاء اخر .
مع اقتراب الثالثة والنصف فجرا, تجمع افراد السريه ال 62 وانا معهم بسلاحي الذي ما زال قطعة حديد وخشب كما اتيت به من بغداد دون عتاد , اقترب ن.ض مهدي وتمتم مع امر السرية, فوصلني التبليغ باني ساقوم بحراسة مدخل الشق بعد تزويدي بالعتاد .انطلقت السرية راجلة عبر الشق المؤدي الى حقل الغام يمتد الى موقع العدو المراد اقتحامه, لم تستغرق عملية الكر والفر اكثر من ساعه ونصف تم فيها جلب عريف ايراني مكتوفا بالحبال, مقابل ثلاثة شهداء و27 اصابه معظمها بالاطراف والاقدام جراء انفجار الالغام اثناء الانسحاب .
بعد 6 او 7 ايام , تفاجأنا عند مغيب الشمس بارتال دبابات عراقية تتراصف في مواضع تم حفرها خلف موقعنا بمسافه مئات قليله من الامتار, إذن هناك هجوما يتم الاعداد له لاستعادة مواقع سيطر عليها الايرانيون في معارك سابقه ,(هكذا كان حديث الجنود), مكثت الدبابات رابضه في متاريسها خمسة ايام , وفي صباح يوم بغيض , عجّت سماءنا بمقاتلات جويه معاديه بطيران منخفض جدا تناوبت 12 مقاتله على تدمير معظم الدبابات وتوجيه ضربات مؤذيه على بقية المواقع دون ان تؤدي المقاومات الارضيه 57 ملم واجبها عدا اطلاقات منفرده ثم سرعان ما خرست , لتقصي حقيقة هذا الخلل جيء فيما بعد بنائب ضابط خبير مدافع من اهالي بغديدي , أفتى البغديدي بعد اجراء الفحص بان العطل الجماعي في مدفعيات البطريه كان نتيجة حشو منظومة اغلاق المدافع بكميات كريس اكثر من المطلوب .
بعد نصف ساعه من انجلاء الموقف, راح كل موقع يلملم خسائره, فنادى امر سريتي :جيبولي جندي المعايشة ( طبعا ماكو غيري), اصابني الخوف اول وهله, ولكن حين بُلغت باصطحاب ثمانية شهداء و اثنا عشر جريحا لتسليمهم لوحدة الطبابة العاشرة الكائنة في استراحة قوات محمد القاسم على الطريق المؤدي الى جسر الخالد, ادركت لحظتها بان كف المصافحة ما زال محتفظا بدفئه, تم نقلنا انا والشهداء والمجاريح بعجلة ايفا, في اقل من الساعة بدقائق وصلنا الطبابة , وبعد ان سلمنا الأمانة أبلغني السائق بان العودة ستكون بعد ساعتين او ثلاثة , فوجدتها فرصه لاسكات حوصلتي الخاوية بتناول شيء في مطعم صغير ظننت ان فيه مأكلا شهيا, لكني لم احظى سوى بسوب معجون طماطة بارد (بايت) وقطعة خبز يابسه أحتاج منشار لتقطيعها , تدبرت أمر حوصلتي على مضض, ثم توجهت الى احد التلفونات العمومية الموجودة لطمأنة شقيقتي في بغداد لتنقل بدورها اخباري المفرحة لأهلي في القوش , كذبت عليها حين سألتني كيف حالك ,اذ اجبتها اطمئنوا انا بخير ومكاني امين جدا كلها ايام قليله واعود ثم ودعتها. ولكن هل سأكذب على نفسي وأكذّب شغل فكري الشاغل بما رأته عيناي في ايام قلائل؟ هل لدي الشجاعة التي ستعيدني الى محطة انتظار الموت؟ اسئلة عديده حامت حول افكاري واربكتني, لكن فكرة الهروب الى القوش ظلت هي المتصدرة , والا ما انساقت قدماي باتجاه حافة الشارع المؤدي الى البصرة علّني احظى بواسطه تنقلني الى البصره, مرت دقائق قليله وانا ازفر دخاخين جكارتي كالمجنون بانتظار الواسطة, واذا بجندي عشريني اشقر اللون يتراصف على يساري بعد ان القى التحية ب سلام عليكم عمي ممكن جكاره بلا زحمه؟ رديت تحيته و قدمت له واحده, شكرني وحاول مجاملتي بالسؤال, عمي وين رايح ؟ أجبته للبصرة. وسألته انت وين رايح ؟ اجابني رايح مجاز للموصل! للحظات خطفتني صفنه لعينه تخيلت فيها الويل الذي يلحق باهل العسكري لو هرب, مع ازدياد حدة اضطرابي عاد الشاب الموصللي وسألني : عمي انت بصراوي؟ اجبته كلا, من القوش شمال الموصل, جئت هنا معايشه, وبعد الذي شاهدته عيناي منحت لنفسي اجازه مفتوحه ,راح يتمتم مع نفسه, الاخ يريد يدخل هروب وما عندو نموذج ! عمي انت عندك نموذج؟ اجبته طبعا لا, لكني لا اريد العودة الى مكان جلبت منه للتو شهداء ومجاريح, بدت ملامحه تترنح بين الشفقة والاستغراب لدرجه جعلتني اشعر و كأني اغرد مع سرب المسّفهين لأسراب الاكرمين منا جميعا. ثم سألني: كم يوم قضيت ؟ اجبته 13 يوما والباقي 17.ثم راح مسترسلا بابتهاج في الحديث عن عشيرته ( سيد توحي) التي تشفي المرضى وتجبر الكسور وتقرا الكف وتفتح الفال وتفكك العُقد, فجأة علت نبرة صوته قائلا: دحّق بي زين عمي: احساسي يقوللي بانك ستموت بالطريق, اقسم بالله سأتكفل بايصال جثمانك لاهلك وابلغهم بان المرحوم وليس الشهيد رفض نصيحتي! نصيحتي لك ان تبقى لان حدسي ذاته يقوللي بانك ستقضي ايامك بحيطه وحذر وتعود سالما الى اطفالك, كنت استمع اليه بينما عيناي ساهيه بعيدا في امتداد الشارع واذا بتكسي تباطأت سرعتها حال اقترابها , نظر الشاب اليّ محتار بين ان يمد يده لتوديعي ام اننا سنسافر سويه!! إندهش عندما مددتُ يداي كي احضنه على صدري لأودعه, ودعني الموصللي الاشقر بعبارة سادعو لك بالسلامة , هكذا تحركت قدماي من حافة شارع الهروب باتجاه حافة انتظار سائق الايفا للعودة الى السرية, قضيت المتبقي من ايام معايشتي مع كل ما تخللها من مخاطر وخوف يومي ,الى ان حانت ساعة فرج التهيؤ للعودة !
هناك تفاصيل أخرى كثيره في ذلك الشهر , لكني فضلت تأجيل سردها.
تقبلوا تحياتي