عبد الخالق حسين
بين حين وآخر، وخاصة عندما تمر ذكرى تأسيس الجيش العراقي في 6 كانون الثاني/ يناير من كل عام، نقرأ بعض الدعوات تطالب بإعادة التجنيد الإجباري الذي انتهى بعد سقوط النظام البعثي في 9 نيسان/أبريل 2003. لا شك أن أغلب هذه الدعوات تصدر من عراقيين لا يُشك بوطنيتهم، وحسن نواياهم. وحجتهم في ذلك أن الخدمة العسكرية الإلزامية هي مدرسة للوطنية، يتعلم فيها العراقيون على حب الوطن، وتغرس فيهم الاستعداد للتضحية دفاعاً عن بلادهم، وعن حدودها من الأعداء، وتنمي فيهم الشعور بالمسؤولية ازاء الشعب والوطن، كما و تعوِّدهم على الانضباط.
أما التجنيد الطوعي وبراتب مغري كمصدر رزق للجندي يعتمد عليه في معيشته، ومعيشة عائلته، فهذا قريب من الارتزاق في رأيهم. ولتأكيد هذا الرأي، يستشهدون بما حصل في يوم 10 حزيران/يونيو عام 2014 عندما امتنع الجيش العراقي عن حماية الموصل والمحافظات الغربية الأخرى من الاحتلال الداعشي، رغم أن القوات الأمنية العراقية (الجيش والشرطة) المرابطة هناك كانت تفوق الدواعش بمئات المرات في العدة والعدد. وعليه يستنتجون أن التجنيد الإجباري كما كان قبل عام 2003، هو الحل الصحيح لمنع تكرار ما حصل من احتلال داعشي. ورداً على هذا الموقف أعلاه، كتب لي صديق قائلاً: “بمناسبة الذكرى البهيجة لتأسيس الجيش الذي ذاق على يده أبناء الشعب المر والهوان ،،،، طلع علينا تنظيم سياسي بالدعوة للعودة الى نظام التجنيد الإلزامي سيء الصيت والذكر ،،،،، متناسيا ان التجنيد الإلزامي هو استعباد حقيقي أذاق أبناء الشعب انواع الذل والقهر” وأضاف: “طبعا أبناء المسؤلين يعيشون في الخارج حفظهم الله، وهم غير مشمولين بالتجنيد الإلزامي الذي يدعو اليه ذلك التنظيم وفقه الله!!). انتهى
وأنا إذ أؤيد بقوة كل ما جاء في رسالة الصديق،اضيف أن الحكومات السابقة، كانت تستخدم الخدمة العسكرية الإجبارية كذريعة لعدم توفير فرص عمل مأجور لآلاف من خريجي المدارس والجامعات لمدة سنتين على الأقل. و لم يكن الأمر فقط العمل بدون أجر، ولكن أيضا وسيلة للسيطرة على المعارضة السياسية التي كان الشباب يشكلون غالبيتها. كذلك من نافلة القول، أن التجنيد الطوعي ليس السبب في سقوط المحافظات الغربية بيد داعش، ولا التجنيد الإجباري يعطي الضمانة والحصانة ضد تكرار الاحتلال الداعشي، إذ لا يمكن إلقاء اللوم على الجنود فيما حصل، فالجنود مأمورون بتنفيذ أوامر الضباط، سواءً كان التجنيد طوعياً أو إجبارياً. وغني عن القول أن الضباط في جميع العهود من تاريخ العراق، هم متطوعون اختاروا الخدمة العسكرية كمهنة لهم بعد دخولهم وتخرجهم في الكليات و المعاهد العسكرية، وانضموا إلى الجيش كعسكريين محترفين بإرادتهم الحرة، سواء كان قبل عام 2003 أو بعده. وهم الذين يعطون الأوامر للجنود (المتطوعين أو الإجباريين)، ويتحملون النتائج. فالجندي ملزم على تنفيذ أوامر الضابط ، وبخلافه يعاقب وفق القوانين العسكرية الصارمة قد تصل العقوبة إلى الاعدام رمياً بالرصاص.
أما احتلال المحافظات الغربية من قبل الدواعش عام 2014، فقد تم بالتواطؤ بين بعض القيادات السياسية المشاركة في العملية السياسية، وبين الضباط من أبناء تلك المناطق بحجة الإقصاء والتهميش، ودون إطلاق رصاصة واحدة كما بات معروفاً لدى القاصي والداني، ولا علاقة له بكون الجنود كانوا متطوعين. و قد كتبنا عن ذلك عدة مقالات، وعلى سبيل المثال نشير إلى مقالنا الموسوم: (تسليم الموصل لداعش بالتواطؤ)*، أكدنا فيه أن سقوط هذه المناطق بيد (داعش)، كان بسبب مؤامرة محلية و دولية، شارك فيها ضباط قياديون في الجيش بدوافع طائفية وعنصرية، كان ولاءهم لقياداتهم السياسية، وليس للقائد العام للقوات المسلحة الذي هو رئيس الوزراء في العراق الديمقراطي كما نصَّ الدستور. وهؤلاء الضباط هم الذين أمروا الجنود بالذهاب إلى بيوتهم في إجازة مفتوحة، أما هم (الضباط)، فإما ذهبوا إلى بيوتهم أو لجأوا إلى أربيل، أو انضموا إلى تنظيم “داعش” الذين سموهم بالثوار. ليس هذا فحسب، بل ارتكب هؤلاء الطائفيون الدواعش مجزرة بشعة ضد طلبة الطيران في القاعدة الجوية في تكريت، عُرِفت بمجزرة سبايكر، راح ضحيتها نحو 1700 شهيد بدوافع طائفية انتقامية لا لشيء إلا لأنهم من الطائفة الشيعية. ولنفس السبب قتل الدواعش نحو 670 سجيناً في سجن بادوش في الموصل على خلفيات طائفية.
ومن جانب آخر، أبلت فصائل الحشد الشعبي، بلاءاً حسناً مضحين بأرواحهم، في سبيل تحرير الأرض والعرض من دنس داعش، وهم متطوعون استجابوا للفتوى الجهاد الكفائي، مع بقية القوات الأمنية المسلحة الباسلة التي تم تطهيرها من الضباط المتخاذلين، والمتواطئين. كذلك نرى معظم الدول الديمقراطية العريقة في العالم تخلصت من التجنيد الإجباري، وأسست قواتها المسلحة من المتطوعين، وبذلك بنت قوات عسكرية قوية محترفة للفنون القتالية بجميع الصنوف و المراتب.
وبهذه الجيوش المحترفة حققت هذه الدول انتصارات ساحقة في الحروب. أما في العراق، وفي جميع العهود ما قبل 2003، كان الجندي الإجباري أول ما يتم تجنيده ينذر الذبائح لتسريحه سالماً، ويكون يوم تسريحه عيداً سعيداً له ولأهله لما كان يعانيه من الإذلال في الجيش ويعتبر من أسعد أيام حياته. ومن كل ما تقدم نستنتج أن سبب انتصار، أو هزائم الجيوش في الحروب ليس بسبب كون التجنيد فيها على أساس إجباري أو طوعي، بل على مدى إيمان الضباط برسالتهم الوطنية، وبالقضية التي يدافعون عنها، وإخلاصهم للشعب والوطن، وانضباطهم العسكري وما تلقوه من تدريب. لذلك ، نهيب بالمسؤولين في الدولة العراقية، وعلى رأسها الرئاسات الثلاثة والبرلمان بعدم الاستجابة للدعوات المطالبة بعودة التجنيد الإلزامي، لأنه مضيعة للوقت والجهد، بينما الجيش المبني على التطوع يكون أكثر مهنياً وإنضباطاً، والتزاماً برسالته الوطنية، وهذا واضح مما حققته قواتنا الباسلة من انتصارات ساحقة على الإرهاب الداعشي بعد أن توفرت لها القيادات المخلصة.