جورجينا بهنام حبابه
لم تكن (صوت الآخر) مجرد دورية أسبوعية دأبت على الصدور لسنوات وسنوات، متحديةً كثيرًا من المتاعب والمصاعب، تقنية ولوجستية ومادية، بقيَت رغمَها كلَّها مساجِلةً نظيراتها من المجلات، بل نجحت على أكثر من صعيد في إثبات وجودها وجدارتها وأهليتها بالأولوية كمجلة ناطقة بالعربية، ليس على صعيد إقليم كوردستان وحسب، بل على مستوى العراق أيضًا، فضلا عن جماهيرية معقولة في المنطقة العربية. قد يُعزى ذلك إلى ما توفـَّر لها من أسباب النجاح والمواصلة، التي ربما تكون بعيدة عن المقومات المعتادة لنجاح أي مطبوع، لعل أبرزها أن العاملين فيها لطالما كانوا أسرة حقيقية، دائبين كخلية نحل، متحدين بقلوبهم ومتجددين بطاقاتهم مع عزم راسخ وتصميم أكيد على إنجاحها والعمل من أجل ديمومة صدورها. رَبُّ هذه الأسرة، أبٌ وأخٌ وصديقٌ للجميع، قبل أن يكون رئيسًا للتحرير، سعى على مدار سنوات من أجل إيصال (صوت الآخر) واجتهد ليبقيه عاليًا ومسموعًا. إنه الكاتب الإعلامي المترجم الخطاط، الأستاذ الكبير، فقيد الثقافة (سعيد يحيى الخطاط).
حينما ترأس الخطاط تحرير مجلة (صوت الآخر) لدورة ثانية، كان حريصًا في مستهلها على إدخال تعديل على اسم المجلة الذي يتصدر غلافها الأول، ربما بدا ذلك التعديل طفيفا في حروفه وغير ذي بال لدى كثيرين، لكنه كبير في معناه، إذ أدى حذف (ال) التعريف من الكلمة الأولى إلى انقلاب في العنوان من (الصوت الآخر) إلى (صوت الآخر) لتكون المجلة بعنوانها وموضوعاتها ومقالاتها بمختلف مضامينها المتنوعة، صوت الآخر، وإن كان مختلفا، صوت من لا صوت له.
قد يواجه بعض العاملين في مضامير أعمالهم المختلفة، إعلامية وسواها، سواء من رؤسائهم أو زملائهم، نوعا من المضايقات أو شيئا من التمييز أو قليلا من العنصرية البغيضة، وربما يعانون تنمّرًا مقيتا لأسباب قومية، دينية، سياسية وغيرها،. لكن حال العاملين في مجلة (صوت الآخر) كان مختلفا تماما، فرئيس التحرير كان مثقفا حقيقيا بلا مباهاة، إعلاميا صادقا بلا مواربة، مناضلا أمينا لمبادئه بلا متاجرة بالشعارات، يعرف مسؤولياته ويحدد للعاملين معه مسؤولياتهم متيقنًا أنهم، مقتدين به، سيؤدونها بتفانٍ وإخلاص. لذا كان العمل في المجلة يسير بسلاسة وانتظام بعيدًا عن الأوامر الصارمة والرعونة الجوفاء، فعندما يعلم كل شخص ما له وما عليه، يكون الجميع مسؤولا، بكل ما تؤديه هذه الكلمة من معانٍ.
كان عملي بالمجلة، فرصة عظيمة للعمل مع مجموعة رائعة من الزملاء الذين كانوا عائلة واحدة مترابطة منتجة، لا يتسًّع المجال لذكر مناقب جميعهم، لكن الجدير بالذكر أن عملي في قسم التصحيح اللغوي أتاح لي فرصة عظيمة لأكون القارئة الأولى للمقال الأسبوعي لرئيس التحرير، الذي يحتل الصفحة الأخيرة من المجلة، وليس الأولى، فالأستاذ سعيد الخطاط لم يعتدَّ خبرته الطويلة وثقافته الواسعة سببًا للاستكبار أو الاستغناء عن مراجعة المصحح اللغوي قبيل النشر، وإذ كان يخصني بهذه المراجعة بثقةٍ طالما احترمتها وشَرُفْتُ بها، لكنه كان في الوقت عينه ينيط بي عملا شاقا، فمِن النادر أن تصطاد للأستاذ خطأً، مطبعيًا ربما، كما أنه من الصعب أن تقتنص غلطة، نحوية أو قواعدية، فكيف بإملائية أو صرفية؟
قبل أن تتوقف مجلتنا الغراء عن الصدور لأسباب قهرية مرجعها الأزمة المالية التي طالت كثيرا من المرافق والمؤسسات، كنت أعمل، بدوام صباحي، في المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية بإدارة الراحل الدكتور (سعدي المالح)، وبدوام مسائي في مجلة صوت الآخر برئاسة تحرير الأستاذ سعيد يحيى الخطاط، وكلا السَّعدَين مثقف كبير وكاتب ذو شأن وباع في مجاله، رحل الأول عام2014 بعدما كرَّس للمديرية العامة للثقافة والفنون السريانية اسمًا ومكانة مشهودين ملء السمع والبصر من خلال النشاطات المتنوعة التي دأبت على تنظيمها، بجهود فريق عمل متفانٍ من الموظفين الكفوئين بقيادة حكيمة. ويجري على ألسنة المصريين مثل يقول: (من جاور السعيد، يسعد).. ومن يعمل مع سعدي وسعيد يتعلّم كثيرا، وكم من السَّعْد في التعلّم وطلب المعرفة!
لطالما أحبَّ الأستاذ سعيد أن يعمل بصمت، كحال المبدعين والمفكرين الكبار، لعله كان يتمثّل قول الإمام الشافعي:
وَجَدتُ سُكوتي مَتجَراً فَلَزِمتُهُ إِذا لَم أَجِد رِبحاً فَلَستُ بِخاسِرِ
وَما الصَمتُ إِلّا في الرِجالِ مُتَاجِرٌ وَتاجِرُهُ يَعلو عَلى كُلِّ تاجِرِ
ومع خواتيم الشهر الأول من عام 2019، رحل، بصمت، كعادته.. فارقد سعيدًا يا سعيد، يا أستاذنا الفاضل، فذكراك عطرة وسيرتك صافية نقية، عنوانها الصدق والرزانة، الثقافة والذوق الرفيع، وسعيد الحظ من حظي بفرصة العمل معك، التعلّم منك، وهو أسعد إن عرف كيف يقتدي بك، فارقد سعيدًا على رجاء الخلود.
*الصور المرفقة لأسرة مجلة صوت الآخر مع رئيس التحرير الراحل الأستاذ سعيد يحيى الخطاط.