هرمز عوديشو ريحانا
الأناقة في المفهوم اللغوي مرتبطة بالهندام أو الزي المُنَسَّق المتجانس الألوان الذي يضفي على من يرتديه الوسامة و الوقار ، ربما يكون تعريفي غير دقيق ، لكنه يفي بالغرض . و على العموم فأن كلمة الأناقة ارتبطت دائما بالمظهر الخارجي للفرد ذكرا كان أو أنثى .
لكن الشعب العراقي أوجد تعريفا جديدا بل تعريفات متعددة لهذه الكلمة ، مؤكدا بأن مدلولها يتعدى المعنى المتداول ليشمل أمورا أخرى غيرها .
لا أعني هنا بأن العراقيين اكتشفوا هذا التعريف الجديد للأناقة بل أنهم أخترعوه ، لأن الاكتشاف يعني ما يعنيه أيجاد شيء كان مخفيا ، أما الأختراع فهو صناعة شيء لم يكن موجودا من قبل .
فالشعب العراقي و أخص بالذكر شريحته الشبابية أثبت بأنه شعب أنيق في كل شيء أنيق في تعامله مع المواقف الصعبة و الظروف القاسية أنيق في فرحه و غمّه في ضحكه و بكائه في هدوئه و غضبه وأنيق بسلمية ثورته و انه يُعَبِّد اليوم طريقه نحو مستقبل يليق بماضيه المتألق و حضارته الأنيقة . بل أثبت بأنه شعب متجدد ، ففي كل عصر و كل ظرف يجدد أناقته بما يلائم ذلك العصر و ذلك الظرف .
و في الثورة التشرينية القائمة حاليا فأن العراقيين أخترعوا أمورا لم تكن مألوفة من ذي قبل في الثورات التي شهدتها البشرية ، فالأنتفاضة غالبا ما تكون غوغائية يصعب التحكم على كل مجرياتها و قد تلعب الأهواء البشرية فيها لعبتها فتتخللها ما لم يكن بحسبان من خطط لها و أدارها . و لكن ما نراه اليوم فأن الشباب العراقي أخترع ثورة أو لنقل أنتفاضة متناغمة الأحداث و كأن الملايين الذين خرجوا إلى ساحات التظاهر ليسوا إلا شخص واحد .
و جدير بالإشارة بأن الثورة التشرينية بدأت (على الأقل) بصورة عفوية اي لم يكن لها من يديرها و يخطط لها كما يحدث في باقي الثورات و جلّ ما كان يدير المتظاهرين و يوحّدهم هو وطنيتهم الواضحة و غيرتهم على شعبهم ، و بعد أن توسعت و امتدت لتشمل باقي المدن العراقية الوسطى و الجنوبية ، و رغم سعة امتدادها مساحة إلا أنها اتسمت جميعها بالأناقة فجعل الثوار منها نموذجا يحتذى بها و لسان حال الثوار أننا شعب فريد ، أبناء الحضارة التي دأبت على نشر المفاهيم الانسانية الراقية كالعلم و الفن و الأدب إلى العالم أجمع . و ها نحن اليوم نُعَلِّم شعوب الأرض كيف تكون الثورة أو الانتفاضة الشعبية السلمية أقوى من نظيرتها المسلحة و العبثية .
و الدرس البليغ الذي يجب أن نسلط الضوء عليه كونه حدث فريد بالفعل و ربما سابقة لم تحدث قط ، ان ما يحدث اليوم في ساحة التحرير ببغداد و المدن العراقية الأخرى قد يغيّر من الحسابات السياسية و ربما ينفع أن يكون درسا يضاف إلى الدراسات الجامعية التي تخص السياسة و الاجتماع ، فالثوار العراقيون الشباب قد جعلوا من ساحة التحرير دولة مصغرة و أنموذجاً للوطن الذي يصبون اليه، فتم تزويدها بكل مستلزمات الحياة الراقية و تُزاول فيها جميع المهن التي تضفي الى ديمومة الثورة مما يحتاجه الثوار كالطعام و الماء و الكهرباء و حتى حلاقة الرأس إلى تنظيف الشوارع مما جعلوا من هذه الساحة دولة أكثر تنظيماً من الدولة التي تحتوي ساحتهم ببرلمانييها و سياسييها و أحزابها و حكومتها ….الخ .
و هذا الأمر يسري على جميع سوح التظاهر في باقي المدن العراقية التي جعل منها الشباب العراقي دولة أنيقة أرقى من الدولة التي يقودها السياسيون و تسودها الأحزاب .
شكرا للشباب العراقي هذا الجيل الرائع الذي حقق لنا حلما طالما تمنيناه و لكنه كان بعيد المنال في خضم حالة اليأس التي انتابت الشعب العراقي آنذاك ، فآثر العديد منهم الرحيل تاركين عظام آبائهم و أجدادهم كدليل على انتمائهم لهذا الوطن .
شكرا للشباب الواعي الذي أوقد فينا الروح الوطنية و التي كادت أن تخفت رويدا رويدا بعد أن جعلتنا الظروف القاهرة التي مرت علينا في العراق أن نفطم عن النهد الذي كنا نستقي منه حليب الوطنية مهاجرين من البلد الأم إلى بلدان زوجة الأب بالرغم من أعتزازنا بها و اعترافنا بجميلها لأنها تحملتنا بكل ما حملنا معنا من عقدنا المتأصلة التي رافقتنا من أوطاننا .
شكرا للشعب العراقي بكل فئاته و أطيافه و تنوعاته الدينية و العرقية نساءا و رجالا لأنكم أثبتم بأن الحضارة في العراق لم تكن لحظة عابرة مرت خلسة في جنح الليل و هربت بعد أنبلاج الصباح ، بل أنكم أقنعتم العالم بأن الحضارة العراقية متجذرة في صميم روح الشعب العراقي و إن جفت أغصانها إلا أنها أينعت ثانية بُعَيد أول غيث من المطر .
شكرا لكم أيها العراقيون الذين أثبتم بأن الأناقة ليست مظهرا خارجيا فحسبْ كما كان شائعا ، فقد بدوتم بكامل أناقتكم حتى مع الملابس الرثة و الأجساد الدامية ، فالأناقة نبعت من قلوبكم و عقولكم و ضمائركم و انعكست من دواخلكم فطغت على مظهركم و بذلك فرضتم هيبتكم على الجميع.