زوعا اورغ/ وكالات
فجأة بدا العراق زاهيا بالألوان.. براقا.. جميلا.. يغني ويرقص. فجأة صمتت أصوات صواريخ ميليشيات إيران.. فجأة بدا العراق.. سعيدا، لا صور لشهداء أمس، ولا لشهداء غد، ولا احتفالات بالموت، بل أمل بحياة أفضل مع زيارة بابا السلام، فرنسيس، ولقائه علي السيستاني، سيد الشيعة بدون ميليشيات، ولا صواريخ، ولا نووي. ودع البابا العراقيين قائلا “العراق سيبقى دائما معي وفي قلبي”، وودع العراقيون البابا قائلين إنه سيبقى دائما معهم وفي قلبهم. ابتسم العراقيون. تمنوا لو أن كل أيامهم زيارات وسلام ورقص وغناء. لكن الواقع مرير، لأسباب.
في الأسباب الخارجية لعنة الثورة الإيرانية القائمة على الحروب ونشرها وتصديرها. لم يأت الراحل روح الله الخميني “لتخفيض سعر البطيخ”، على حسب تعبيره، ولم تأت الثورة الإيرانية لتقدم حكما رشيدا للإيرانيين ولا لدول الجوار، بل جاءت لتتوسع، ولتتمدد، ولتقنع الإيرانيين أن عظمتهم تكمن في اتساع رقعتهم، حتى لو كانت رقعة من الفقر والبؤس والدمار.
في العراق، بعد عقود من الحكم البعثي العبثي، الذي أدى إلى خواء مؤسساتي وثقافي وفكري، انهار هذا الحكم أمام القوة الأميركية، التي كانت تأمل استبداله بالديمقراطية. لكن الديمقراطية تحتاج إلى ديمقراطيين يفهمون معنى الدستور والمواطنة والعدل والمساواة، وفي العراق، لم يكن ديمقراطيين، فبنى غالبية العراقيين وطنهم الجديد على الثأر، الذي خالوه عدالة. والثأر لا يولد إلا الثأر المضاد، فكانت دوامة عنف ودماء وحزن، ولم يتأخر نظام إيران عن تغذية الثأر والعنف، والإفادة منهما.
في العراق، قلّة قليلة كانت تعي معنى المواطنة الفردية التي تربط كل مواطن بالدولة مباشرة، فيما تمسكت الغالبية بالمواطنة الجماعية التي تربط المواطن بالدولة بشكل غير مباشر، إن عبر المذهب أو عبر العشيرة. هكذا صار العراق موطنا لجماعات متناحرة، بدلا من وطن لأفراد متساوين، وهكذا راح العراقيون ينادون بالتعايش بين المذاهب، بدلا من العيش في عراق بدون مذاهب ولا انقسامات.
وأجج الجهل الأميركي أزمة بناء العراق الجديد. أميركا كانت نواياها صادقة، وكانت تسعى لبناء ديمقراطية مزدهرة حليفة تستبدل بها الدولة الفاشلة التي كانت تصدر الإرهاب للعالم. لم تكن محاولة أميركا في العراق الأولى في المنطقة. في زمن شاه إيران محمد رضا بهلوي، حاولت الولايات المتحدة مساعدة الشاه الشاب — الذي كان ورث الحكم عن أبيه المنفي — في بناء إيران حديثة، فقدم الخبراء الأميركيون للإيرانيين نموذجا كانوا استوحوه من “العقد الجديد”، الذي أرساه الرئيس الراحل فرانكلين روزفلت كمخرج للولايات المتحدة من أسوأ كساد مالي عرفته في تاريخها.
لكن إيران الأربعينات لم تكن تحتاج لشبكات رعاية اجتماعية، فالتكافل الاجتماعي في المجتمعات الشرقية كان يكفي للأمان المجتمعي، وهكذا، تخلصت طهران من الخبراء الأميركيين، وبدلا من أن تبني ديمقراطية، أعادت بناء ديكتاتورية الشاه التي كان أبرز أركانها والمدافعين عنها المرجعية الدينية في قُمّ.
كررت أميركا خطأها بمحاولة نسخها النموذج الأميركي بدون فهم الواقع المحلي، واعتقدت إدارة الرئيس السابق جورج بوش أن خلاص العراق هو الرأسمالية الليبرالية المطلقة، في بلد يعيش على عطاءات الحاكم منذ زمن سرجون الأكادي، الذي عاش قبل الميلاد بألفيتين.
لكن المحاولة الأميركية ولدت ميتة، فاستعانت أميركا بدبلوماسييها المستعربين، الذين استمعوا للمعارضين العراقيين الفاسدين، فنقلوا نموذج لبنان التعايشي إلى العراق، وقدموا لطغاة إيران أرضا عراقية خصبة لتكرار تجربة نشر الحروب والفقر والبؤس كما في لبنان، وهكذا كان.
منذ انهيار البعث، انقلبت حروب العراق الإقليمية حروبا أهلية، وتحول العراقيون إلى طوائف متناحرة تتسلط على بعضها البعض، وصار المسيحيون أقليات تحت رحمة العصابات الحاكمة، وصاروا ضحية الحروب الأهلية المتكررة، فراحوا يرحلون، وراحت أعدادهم تتناقص بشكل أخاف بابا الفاتيكان، فزار العراق ليؤازرهم، وأوحى للكنيسة المارونية اللبنانية، المتحدة مع كاثوليكية روما، بالدفع في الاتجاه نفسه، وتبني سياسة مفادها أن لا خلاص لمسيحي المشرق، ولا لغير المسيحيين، بدون بناء دولة حقيقية حاكمة، لا دول صوري كالحالية تحركها وتحكم من خلفها الميليشيات العراقية واللبنانية الموالية لنظام إيران.
نموذج إيران السائد في العراق أنزل بالعراقيين البلاء. حتى الماضي القريب، كان سهل نينوى الأكثر تنوعا عرقيا ولغويا ودينيا ومذهبيا في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا، وهو تنوع سببه التاريخ الطويل لمناطق وسكان هذا السهل، وهو ثاني أقدم حضارة تاريخيا بعد حضارة الجنوب العراقي، الذي قامت فيه قبل 7422 عاما أول مدينة، وكان اسمها عروق — ومنها اسم العراق — وأسماها العرب الوركاء، تعريبا لاسمها اليوناني اوروك.
كيف أصبحت أقدم حضارة في التاريخ خليطا من الركام والقمامة والذوق المقيت؟ كيف أصاب مخترعي الكتابة والعجلة والفلك الهوس بخرافات معارك الأزمان الغابرة والمفاهيم البالية للموت والشهادة؟ أي دين يحث مناصريه على الموت بدلا من الحياة؟ أو هل كان العراقيون بحاجة لزيارة بابا الفاتيكان ليتذكروا عراقة بلادهم، وجمال تراثهم، وقباحة الفكر الظلامي الذي تنشره الجمهورية الإسلامية اليوم؟
حان وقت نهوض العراق والعراقيين، وحان وقت إعادة تأسيس بدلا من الأعرج الذي أعقب انهيار البعث البائس، وإعادة صياغة الدستور لينص على أن العراق بلد لكل مواطنيه، دينه الرسمي كل ديانات ابنائه وعرقه الرسمي كل أعراقهم. حان وقت التخلص من عبارة “مكوّن” واستبدالها بـ”مواطن“”، وحان وقت حذف عبارة “الله أكبر” عن العلم لأن في العراقيين من يؤمنون بإله، ومن لا يؤمنون، فلا أكثريات ولا أقليات، بل عراقيين فحسب.
في العراق، حان وقت سلام دائم كالذي جاء به البابا فرنسيس لأيام، وحان وقت العودة إلى الرقص والغناء والطرب وحب الحياة الذي عاشه العراقيون منذ زمن شاعر العباسيين أبو نؤاس، إلى يوم صعود الأنظمة الثورية الظلامية، بعثية كانت أم ولائية.