لقد كان مفهوم الدين لدى المجتمع العراقي هو التحزب والتعصب والهرولة وراء الغيبيات ، التحزب للمذهب والطائفة والتعصب لكل عُرف متشدد ، وظل الفخر بالثأر وغسل العار هو أشد ما يتمسك به المسلم العربي وتكرس ذلك الكثير من القوانين في الدول العربية ومنها قانون العقوبات وقوانين الأحوال الشخصية ، سوى دولة تونس التي أبلت بلاءً حسناً في هذا المجال .
حينما خرج الشباب والشابات في الربيع العربي ضربوا مثلاً على وحدوية الأصول والمصير ، وعمت فكرة الصوت الواحد والمساواة بين الرجال والنساء قبل أن تُستلب مقاليد الثورة . ما فعله الشباب العراقي الآن هو ليس الخروج عن تعاليم الدين بل عن أُطره التقليدية فكانت الطبيبات والممرضات والرسامات والطباخات ومنظفات الشوارع متواجدات ليلاً ونهاراً في شارع واحد وفي خيمة واحدة ولم تُسجل أية ظاهرة للتحرش ، وعند نقطة الشهادة كنا أيضاً متساويات مع الرجال حيث قُتل منهن الكثير من الطبيبات والممرضات والناشطات ، ومن قام بفعل التحرش والإغتصاب هم مدعي الدين وأفراد الميليشيات ، وهم أيضاً من قاموا بتعذيب المراهقات سواءً بسواء كألذكور ، ورغم خسة هذا الفعل فهم لم يفرقوا بين الرجال والنساء وهو إعتراف لا يُحسب لهم .
لم تعد الطائفة والقومية ظاهرة محسوسة بين الثوار ، فقد تعايش السنة والشيعة والأكراد الفيلية مع المسيحيين والصابئة والأيزيديين في خيمة واحدة يتقاسمون الخبز والمصير ، وكان النشيد الأعظم والذي أسقط الدموع من أعين الجميع هو ( موطني ) . ولم يتوفر لدى هؤلاء أسباب القتل على الهوية بعد الإحتلال أو فرض المساحات لهذا أو لذاك أو نقل هذا من مسكنه ليحل محله ذاك . كانت الأرض والسماء لهم جميعاً . ولم يُكفر السني أخيه الشيعي ، ولم يستعل العربي على الكردي ، ويُنظر إلى المسيحي والصابئي والإيزيدي بود وإعتزاز ، ولم تفرق الرصاصة القادمة بين هذا وذاك ، وكان الدخان السام موفوراً للجميع .
لقد تربى المتعصبون للطوائف وللدين الإسلامي على النظرة الفوقية ، فهم لم ينظروا يوماً إلى ما فوق الأرض لكائنات بشرية أو حتى نباتية أو حيوانية ، فإمتد بصرهم القصير إلى باطن الأرض ، فأخذوا ما ليس بحقهم وهو حق الأجيال القادمة ، وبعد أن كان العراق يُدعى بأرض السواد وبلاد ما بين النهرين ، أصبح الآن لا هذا ولا ذاك .
لقد حاولوا أن يجففوا الجلد العراقي بل والقلب العراقي ، وإستطاعوا أن يحولوا العراق إلى صحراء رملية تشتد بها العواصف صيفاً وشتاءً ، فلا غطاء نباتي ، ولا حقول للحنطة أو مزارع للنخيل ، وبعد أن كان العراق مُصدراً للمحاصيل أصبح أهل البصرة يستوردون تمورهم كما يستوردون مياه الشرب . وحينما يصرخ أبناء البلد نحن عطشى أو جوعى ، وحينما يعيش الآلاف من الأطفال والمراهقين والخريجين على جمع القمامة أو مهنة حمل البضائع ، وحينما تقف آلاف الأمهات من أمهات الشهداء الذين قتلوا في حرب داعش بعد الإحتلال يدير أهل التدين الكاذب لكل هؤلاء ظهورهم ، وإحتوى الثوار مصائب كل هؤلاء . وفي هذه الحالة من هو يا تُرى الرافع الحقيقي لراية الدين ، وكل من قرأ بتمعن كتاب ( نهج البلاغة ) للإمام علي يرى أن سلوك الثوار هو ما دعى إليه الفقه الشيعي والسني ، ولم يكن يوماً سرقة المال العام هو في أوليات هذا الفقه ، بل كان العكس تماماً . لقد أصبح للأحزاب والميليشيات أوطاناً عدة ، وأصبح الجيش العراقي جيوشاً متفرقة ، وأصبح الولاء للميليشيا وليس للطائفة فهو يعمل ما بوسعه ضد طائفته ، فالفقراء هم من السنة والشيعة ، لكن القادة بنوا لأنفسهم قلاع وإقطاعيات تخصهم وحدهم ولا يدرون عن الوطن شيئاً ، فالشعب لديهم هو ليس مصدر السلطات بل مصدر الثروات ، وقد حاروا بين توفير تكاليف مصالحهم الشخصية ومصالح الموالين لهم ، فهم يدفعون للمسلحين ويدفعون للجيران الذين يدعمون المسلحين ، ويدفعون للأعداء لكي يكمموا أفواههم ، ويدفعون للأصدقاء لكي يقدمون الحماية لهم ، ويجملون وجوههم أمام الرأي العام العالمي وفي النهاية ينسون أن كل هذا هو لأبناء الوطن الذين هم وحدهم القادرون على حماية الوطن . وفي المحصلة يغرق العراق بالديون ولن يستطيع أصدقاؤهم أو أعداؤهم أن يكونوا ذوي تأثير على مصير الوطن أو حتى على مصائرهم ، بل تبقى الكلمة الأولى والأخيرة للشعب . وليس هناك في هذا الوطن مفهوم للنخبة ، فكل المواطنين نخبة ، وللعراق جيش واحد هم الشعب نفسه ، والأرض لا تقبل القسمة ، ولا تقبل المحاصصة ، فالمالك واحد يمتلك عدة ألوان وأديان لا نستطيع أن نقتطع منه جزءً فيصبح جسداً معوقاً ، وما يحملونه على ظهورهم من براميل النفط ستقصم ظهورهم في منتصف الطريق ، فيسقطون من الإعياء ومن كثر ما حملوا ، ولن يكون هناك لهم منقذ لا بالأرض ولا في السماء .