عامر عبد الرزاق
ونحن ننتظر عام جديد لنودع عام آخر، عام أضيق من عام، (في تلك اللحظات الضيقة جدا) يسألوني فتية آمنوا بربهم وهم يجلسون بمكتبة النافذة المطلة على نهر الغراف، يا أيها السومري هل هناك طقوس لدى سكان العراق القديم للاحتفال بيوم رأس السنة لنمارسه نحن الآن.
فعادت بي الذكريات البعيدة إلى أكثر من أربعة آلاف عام بتلك الأطياف الجميلة وأنا أشاهدها أمام عيني في شوارع لكش وأوما وعلى زقورة أور والوركاء، ومعابد أريدو ونفر، وفي ساحات كيش وبابل، وفي أزقة شروباك ونينوى، وفي بيوت إيسن ولارسا، احتفالات لا تنقطع ليوم لا يغيب عن الذاكرة، تبدأ في أول أيام رأس السنة ليستمر أيام أخرى، وهم سعداء لأنهم قدموا شيئا جميلا هذا العام وعيونهم تنظر لعام جديد يتطلعون به لبناء آخر وسفر من أسفار بلاد وادي الرافدين، عيدا أصبح مقدسا لسكان تلك الأرض، يمارسون طقوسهم بكل عفوية وجماعية رجالا ونساء أطفال وكهول.
وتبدأ تلك الأعياد في أول يوم للاعتدال الربيعي أو مايسمى بالانقلاب الربيعي، وكان الشهر الأول لأشهر السنة العراقية القديمة هو الشهر الرابع (نيسان)، حيث كانوا يعتقدون بأن ذلك اليوم هو يوم خروج (تموز : إله الخصب والذكورة) إلى الأرض بعد صراعه مع الإلهة الشريرة ثم انتصاره عليها وزواجه من الآلهة (عشتار: إلهة الأنوثة والخصب)، وكانت هذه الحالة الدرامية تجرى بطقوس تمثيلية ومسرحية في وادي الرافدين .
إن انبعاث الحياة المتمثلة ببداية الربيع، وقد سمي هذا العيد بالسومرية (خجيتو زيغوركو ـ الحجة الصغيرة) أي (العيد الصغير)، أما في الاكدية فكان يسمى (أكيتو)، ويعتبر اليوم شهر نيسان البداية الحقيقية لدورة الحياة الطبيعية على الأرض كونه في نيسان تبدأ الطبيعة بالتجدد والانبعاث وليس في كانون الثاني.
وكانت احتفالات رأس السنة في وادي الرافدين ( اكيتو ــ حجتو) تقام بدءا من أول ليلة الاعتدال الربيعي، وتتخللها الصلوات والتمثيليات الدينية الضخمة على شكل مهرجانات سنوية يشارك فيها الشعب من كافة الطبقات بالغناء والموسيقى، والتمثيل والشعر، وقد عثر المنقبون الاثاريون على بيوت الاكيتو التي تجرى بها احتفالات رأس السنة في مدينتي الوركاء وبابل، وهو بناء يقع خارج المناطق السكنية محاط بالحقول والمزارع، وكانت الاحتفالات تجرى في الهواء الطلق ببناء دون سقف.
ومن الأعمال المهمة التي تجرى في عيد رأس السنة (طقوس الزواج المقدس) التي كانت تقام في أهم معابد بلاد سومر، وطقوس الزواج المقدس تتمثل بقيام الملك بتمثيل دور الآلة الرئيس للمدينة وقيام خطيبته التي تزف إلية بدور الإلهة، والطفل الذي ينجب من تلك الطريقة يسمى بمولود الإله، أو ابن الإله وهذا العمل هو من الأعمال الاحتفالية التي تصاحب أعياد رأس السنة الجديدة، ومن أهم الذين ولدوا بتلك الطريقة (كلكامش ـ كوديا).
ومن الطقوس الأخرى لهذا اليوم يقوم الأهالي بتوزيع الحلوى للمحتفلين بوجوه تملأها البسمة والفرح والبهجة، وتستمر تلك الاحتفالات حتى وقت متأخر من الليل.
ومن الطقوس التي تبدأ من أول أيام رأس السنة وتستمر لأيام عديدة، وهو ما ذكره الدكتور فوزي رشيد، بقيام نساء سومر من القدوم من كافة أراضي بلاد سومر، تلك النساء الغير متزوجات يأتين إلى مدينة (كرسو) (إطلالها تسمى الآن تلو، شمال الشطرة ب15كم)، وهن يسيرن في شارع الموكب، الشارع الرئيس للمدينة، متزينات بالوشاح الأحمر والأزرق بشكل متقاطع على صدورهن، والشباب يقفون على جانبي الشارع، وكل من ينعجب بفتاة يمسك بيدها ويسير معها إلى نهاية الشارع، ومن ثم يذهبان إلى المعبد لعقد قرانهم وزواجهم، وذهابهم إلى مدينتهم، انه طقس يملأه الحب والتفاؤل، واحترام الآخرين، ويستمر طيلة فصل الربيع.
وفي أول يوم من أيام رأس السنة في العراق القديم يصب القالب، وهو ما يسمى بيوم صب القالب أي (آجر البناء)) ويعدونه بكميات كبيرة جدا وتستمر لأيام وربما لأكثر من شهر في كل مدينة، ومن ثم يبدأ بعدها العمل للبناء وتشييد الدور، والقصور، والمعابد، والزقورات.
أما الأهالي في أول أيام رأس السنة فيلبسون الملابس الجديدة التي تصنعها معامل النسيج من القطن والصوف والحرير والكتان وبعض أنواع الجلود بموديلات جديدة كل عام.
ويجتمعون على مائدة واحدة، ويأكلون ألذ الأطعمة، ومختلف المأكولات، ويشعلون البخور في كافة أنحاء المدينة، لتعم الرائحة الطيبة المكان، وتطرد الشياطين ويعم السلام.
ومن مراسيم الاحتفال بهذا اليوم السعيد تقديم القرابين، وأكل الناس من تلك القرابين الذين سوف تشاركهم الآلهة بهذا العمل، ففي عيد رأس السنة وفي اليوم الخامس، وعند حلول الظلام يشارك الملك في شعائر دينية في الساحة المخصصة للاحتفال، حيث يحفر خندق وتوضع فيه حزمة من القصب مكونة من أربعين قصبة غير مكسورة تربط بحبل من جريد النخل، وبعدها يربط ثور أبيض بجانب الحفرة، ثم توقد النار بالقصب أمام أنظار الملك والكهنة والشعب المحتفل.
ومن الطقوس الأخرى التي تجرى في أول أيام رأس السنة هو زراعة الأشجار مثل (النخيل، والزيتون، والياس، والسدر، والصفصاف) في الساحات والمزارع، وعلى جانبي الشوارع، وعلى الجميع أن يزرع فسيلة ويسقيها كل يوم، وهذا يعني إن زراعة الحياة تبدأ من هذا اليوم، حتى يبدأ الإنسان أول أيام السنة الجديدة وهو يخلق للحياة جيل من الوجود، ويبدأ إعطاءه منذ أول لحظة للسنة، حتى ينعكس كل هذا على فلسفته في الحياة بأنه إنسان عامل يعطي ويزرع، ويبني ويفكر ويحب، حتى يكون الإنسان محط لبركات الإله ومخلوق تنضر له السماء بنضرة لطف، واحترام وتسديد.
أما الآن.. علينا أن نتعلم من طقوس رأس السنة في العراق القديم لنعيدها بوجه آخر، وطرق أخرى لكن يبقى الهدف واحد هو إشعال حب جديد في عراق اليوم، وإطفاء الحقد والكراهية التي ما عرفها عراق الأمس، وأن نعيد للعراق بهجته التي كانت عليه، وحبه للعمل والنشاط، وإحياء ذلك اليوم المقدس ليكون يوم وقفة احتفالية استذكارية لما قدمناه خلال عام، ومنطلق حي لعام جديد بكل تفاءل.
وأدعوا جميع الذين يعشقون العراق، أن يكون العام الجديد عام بناء العراق، وحل جميع الخلافات، وأن يتصافح الجميع بكل القوميات والأديان والمذاهب، لأن العراق عاش بهذه التركيبة المختلفة لآلاف السنين، عيشة رغيدة، احتفالاتهم واحدة، وأعيادهم واحدة وساحاتهم واحدة، ومعابدهم ومساجدهم واحدة، وربهم واحد، وهدفهم واحد وبلدهم واحد، وتربتهم واحدة، ودمعتهم تسقط في إناء واحد، وأياديهم تحضن بعضهم بعضا، أسماءهم مرتبطة ووجوههم متشابهة، وبيوتهم متشابكة، وآثارهم تربطهم بها الذكريات والأماني وألق الماضي التليد الذي يجمعهم إلى أجدادهم القدماء ففي الشمال نينوى وخرسباد وقلعة أربيل وكركوك، وفي الوسط ملوية سامراء وبابل والمدرسة المستنصرية وتل حرمل وأشنونا، وفي الجنوب أور والوركاء ونيبور.
مدن تحكي قصة الإبداع وتصور أحلى السنين في أجمل يومها الأول بطقوس لا تنسى وحكايات تبقى تتذكرها الأجيال في أول يوم من أيام السنة.