زوعا اورغ/ وكالات
كان المشهد قاسيا على العالم والعراق حين ظهر عناصر من تنظيم داعش ينبشون آثار الموصل ويحيلون تاريخ المدينة العريقة إلى أطلال.
إلا أنه كان أشد وطأة على النحات العراقي ميخائيل ومجسماته الموزعة بين الأديرة والكنائس المعتقة بالقدم وهي تتساقط واحدة تلو الأخرى.
ثابت ميخائيل نحات عراقي مسيحي من الطائفة الآشورية، انشغل طوال السنوات الماضية التي أعقبت تحرير نينوى من قبضة داعش، بمحو آثار ما خلفه التنظيم الإرهابي من لافتات وعبارات التطرف التي كتبت على الجدران والمرافق العامة.
وعقب جهود بذلها مع فريق تطوعي تحت مظلة منظمة فرنسية تعنى بإعمار المحافظة، كان ميخائيل يتحضر لوضع النصب التذكارية وإعادة المجسمات التي لاحقها الاندثار جراء سيطرة تنظيم داعش على الموصل.
استطاع النحات الموصلي أن يجسد نصباً للسيدة العذراء عند برج الكنيسة “الطاهرة”، في قراقوش، التي زارها بابا الفاتيكان الأحد الماضي وأدى مع جموع عديدة “صلاة التبشير”.
يتحدث ثابت ميخائيل الذي يعيش هو وآباؤه منذ زمن طويل في مناطق سهل نينوى، عن البدايات الأولى لسقوط مناطق الموصل بيد عناصر داعش.
خلال حديث لـ”العين الإخبارية”، يستذكر النحات الخمسيني انهيار أول نصب وهو تمثال “سيدة دجلة”، الذي يقع عند أعلى كاتدرائية الكلدان في الموصل القديمة إبان أحداث يونيو/حزيران 2014.
يقول ثابت ميخائيل وهو أحد تلامذة النحات العراقي الشهير محمد غني حكمت: “الهجمات الإرهابية استهدفت طمس الهوية وتغييب المكونات الاجتماعية، ولذا أنا اليوم أمام مهمة ليست بالسهلة”.
استطاع ثابت ميخائيل أن ينجز عدداً من الاعمال المهمة التي توزعت ما بين كنائس الموصل وبغداد وبعض من النصب التعبيرية في المرافق العامة بمحافظة نينوى.
مع الإعلان عن زيارة قداسة البابا الى العراق قبل أشهر ، كان النحات ميخائيل قد أكمل نصب برج الكنيسة الطاهرة في منطقة “بغديدا” أو ما تسمى بقراقوش الواقعة عند قضاء الحمدانية (32 كم جنوب شرق الموصل) مركز محافظة نينوى.
تبلغ أبعاد نصب “السيدة العذراء” 4 امتار، وهو من البوستر المسلح، المهيأ لمقاومة التقلبات الجوية في العراق، رغم أن هناك معادن أخرى أكثر فاعلية مثل النحاس والبرونز ولكن تتطلب كلفة مادية عالية غير متوفرة، بحسب ميخائيل.
كان قداسة البابا فرانسيس وخلال التحليق في أجواء نينوى عبر طائرة عمودية قادمة من أربيل، قد لفت انتباهه تمثال السيدة العذراء المنسدل من برج الكنيسة الطاهرة، والذي بدى يعانق السماء.
ويؤكد ميخائيل أنه الشخص المسؤول عن تصميم وتنفيذ مجسم الكنيسة الذي يبلغ ارتفاعه بدءاً من القاعدة الأرضية للبرج نحو 36 متراً، واستغرق العمل فيه نحو 4 أشهر.
ويستدرك بالقول “كان البرج مهدما وهناك آثار حروق داخل الكنيسة، وقد قدمت مقترحاً لإعادة بناء البرج ورفع مجسم للسيدة العذراء فوقه وحصلت على الموافقة من قبل مطران الكاتدرائية”.
وبشأن حديث قداسة البابا عن مجسم برج الكنيسة الطاهرة، يقول النحات الأشوري إن “إشادة الحبر الأعظم بذلك أسعدتني كثيرا وأزالت مني متاعب وهموم حملتها لسنوات”.
في ذلك التجسيم الذي اعتلى برج الكنيسة، كان تمثال السيدة شاخصا ودليلاً يحاكي المارة من بعيد بأن المسيح ما زال هنا وأن الإرهاب زالت دولته رغم الدماء التي أراقها من اجل البقاء.
عندما رأى البابا التمثال يجثو فوق برج الكنيسة من أعلى الجو قال: “جذبني ذلك المظهر.. سيعطي للرائيين قداسة وطهرانية واضحة للعذراء”، كما يخبرنا ثابت ميخائيل.
وكان من المأمول أن يلتقي الفنان ميخائيل قداسة البابا خلال زيارته للكنيسة الطاهرة في سهل نينوى، لكن أجندة اعمال الحبر الأعظم تزاحمت وحال دون تحقق ذلك.
وتعد “الطاهرة الكبرى” التابعة للمسيحيين الكاثوليك من السريان، واحدة من أكبر الكنائس في العراق والتي أعيد إعمارها بتمويل من دولة الإمارات، وبإشراف منظمة اليونسكو.
عند باب الطوب في الموصل القديمة، يعيد ميخائيل عمل نصب كان قد وضعه النحات الموصلي فوزي إسماعيل لفتاة أحبها ورأى في جمالها رمزاً للمدينة قبل عقود طويلة من الزمن.
فتاة أم الربيعين كما يطلق عليها البعض كان تمثالها هدفاً لفتاوى داعش وفؤوس الهدم التي حملوها معهم.
وتمكن ثابت ميخائيل من ترميم ذلك النصب الذي لم يتبق منه سوى أطلال من قاعدة مهدمة.
وتنتصب الفتاة الربيعية بشموخ عند ساحة المدينة التي كانت مسرحاً لعمليات الإعدام التي نفذها داعش بحق المخالفين لقوانينه وتعليماته المتطرفة إبان احتلاله لعدد من المحافظات قبل سنوات.
يقول ميخائيل: “الجمال سيطغى أولا وأخيراً على مدن القبح والقتل.. من خلال ذلك التمثال لفتاة الموصل وهي تظهر بتحد ومن ورائها آثار الرصاص والقنابل على الجدران”.
وفي “بغديدا”، عند قضاء الحمدانية، حيث يسكن ميخائيل وعائلته، يستعد الفنان الأشوري لإسدال الستار بعد أيام عدة عن تمثال امرأة ترتدي زياً فلكلورياً عند مدخل المدينة وعلى ارتفاع نحو 3.5م.
ضمّن ميخائيل النصب حركات ولقطات تمثيلية أراد من خلالها التعبير عن أشياء قصدها وسعى إلى أن تكون علامات أيقونية للمدينة التي تنتظر عودة العديد من أبنائها النازحين قسراً.
يقول الفنان الأشوري إنه وضع المفتاح في يد المرأة التمثال وجعل الأخرى مكشوفة باطن الكف كإشارة إلى الترحيب واستقبال الوافدين إلى المدينة وأن البيوت والأهالي بانتظارهم”.
ومن أعماله الكبيرة أيضا، التي أنجزها قبل عامين، نصب تذكاري يخلد ضحايا هجوم إرهابي استهدف كنيسة سيدة النجاة للسريان الكاثوليك عام 2010 ، في منطقة الكرادة وسط بغداد.
ويقوم النصب بتجسيد السيدة العذراء وهي تقف على كرة أرضية تحمل نقوشاً لصلوات وأدعية وأسماء شهداء باللغة السريانية والمسمارية القديمة.
ويوضح النحات ثابت ميخائيل أن “الفكرة مستوحاة من الحضارة السومرية ومدة العمل فيه استغرقت 3 أشهر، وهو يتشكل من كرة مكتوب حولها الصلاة الربانية باللغة السريانية والمسمارية القديمة، فضلا عن تمثال السيدة مريم العذراء الذي يعتلي الكرة، وهي تحمل إكليل الشهادة رمزًا لشهدائنا الذين سقطوا في تلك الحادثة الأليمة”.
وأشار إلى أن “الجدران التي تستند إليها الكرة تحمل أسماء شهداء المجزرة، إضافة إلى أن النصب يمثل تخليدًا لشهداء الكنيسة وشهداء جميع الأديان والطوائف عامة ، موضحًا أنه “اختزل تاريخ العراق في تلك الكرة، عبر نقش الرموز على غلافها الخارجي”.
ويشير النحات إلى أن الموسيقار العراقي نصير شمة قد أشاد بذلك النصب وقد كانت هناك بادرة تعاون في إحياء عدد من النصب ببغداد ولكن لم يستكمل ذلك الأمر لغاية الأن.