ربما يتساءل القراء: كيف يمكن مقارنة أو ربط بلد مثل فنلندا، التي تتربع على عرش أسعد دول العالم للعام السابع على التوالي، وتُعد من أكثر الدول تمتعًا بالشفافية والديمقراطية وفقًا للتقارير والمؤشرات الدولية، بدولة مثل العراق، التي ينخرها الفساد والمحسوبية والطائفية، وتشهد تراجعًا في مستوى الحريات العامة؟.
نعم، كل هذا صحيح من حيث التقييمات الدولية والسياقات السياسية، لكن هناك جانبًا مشتركًا قد لا يكون واضحًا للوهلة الأولى هو شعب السامي، السكان الأصليون في شمال البلاد، الذين كافحوا لعقود من أجل الحفاظ على هويتهم وحقوقهم الثقافية والسياسية وأراضيهم. الأمر نفسه ينطبق على الشعب الاشوري ، الذي عاش في منطقة الشرق الأوسط لآلاف السنين، ويعاني اليوم من التشتيت والتهميش. مثل الساميين الذين يعيشون في دول متعددة ويواجهون تحديات الحفاظ على هويتهم، فإن الآشوريين أيضًا مقسمون بين عدة دول، ويكافحون للحفاظ على حقوقهم الثقافية والدينية والسياسية.
أثار تعديل قانون انتخاب مجلس الساميين، الذي تأسس عام 1996 ويُعنى برعاية اللغة والثقافة السامية (أو اللابية)، جدلًا واسعًا بين مختلف الأطراف المعنية والحكومة الفنلندية. ويستند تأسيس المجلس إلى قانون تم تشريعه في عام 1995. وقد جاء مقترح تعديل القانون من قبل الحكومة الفنلندية استجابةً لانتقادات وجهتها الأمم المتحدة، التي اعتبرت أن القانون القائم يسمح فعليًا لغير الساميين بالمشاركة في انتخابات المجلس، مما يُهدد تمثيل هذا الشعب الأصلي.
وتكمن المشكلة الأساسية في وجود ثغرة قانونية تُشبه تلك الموجودة في قانون الكوتا المسيحية في العراق، حيث يُمنح حق التصويت لجميع المواطنين، دون أن يُحصر في أبناء المكوّن المعني
ويُذكر أن أصل مقترح تعديل القانون قد قُدم من قبل الحكومة في نهاية عام 2017، واستمر الجدل بشأنه لمدة ثماني سنوات، إلى أن تم إقرار التعديلات رسميًا في 27 حزيران 2025.
تشابهات واختلافات بين قانون الساميين والكوتا المسيحية في العراق.
يشترك قانون برلمان السام مع قانون انتخاب الكوتا المسيحية في مسألة حصر الترشح والتصويت ضمن فئة محددة من السكان. غير أن مطالب السام استندت إلى أسس قومية، باعتبارهم مكوّنًا أصليًا، حيث سعوا إلى حصر الحق في الترشح والتصويت على من ينحدرون من أصول سامية. أما مطالب ممثلي المكوّن المسيحي، فقد انطلقت من منطلق ديني، تمثل في المطالبة بحصر التصويت بالمسيحيين فقط، باعتبار أن الكوتا تقوم على أساس ديني، لا قومي
تعديل قانون انتخابات مجلس الساميين: جدل مستمر
أحد أبرز التعديلات المقترحة على قانون مجلس الساميين يتعلق بتحديد من يُعتبر ساميًا. فهل يكفي مجرد تعلم لغة الساميين، أم أن هناك معايير ثقافية واجتماعية أعمق يجب أن تتوافر في الشخص حتى يُعترف بانتمائه إلى هذا المكوّن الأصلي؟ على سبيل المثال، يُطرح تساؤل حول ما إذا كانت ممارسة نشاط مثل تربية الرنّة كافية لإثبات الهوية السامية، رغم أن جماعات غير سامية مارست هذا النشاط أيضًا عبر التاريخ.
ولا تقتصر هذه الإشكالية في تعريف الهوية والانتماء على الحالة السامية في فنلندا، بل نجد لها صدى واضحًا في حالة الكوتا المسيحية في العراق. فحصر التصويت ضمن الكوتا بالمسيحيين فقط لا يحل الإشكال بالكامل، لأن المجتمع المسيحي في العراق يتكوّن من جماعات متعددة، مثل الآشوريين إلى جانب الأرمن وبعض الأكراد المسيحيين. وفي ظل هذا التنوع، يبرز تحدٍّ حقيقي في ضمان تمثيل عادل للشعب الآشوري، باعتباره المكوّن الأصلي الأقدم ضمن هذا الطيف، دون أن تتحول الكوتا إلى تمثيل رمزي لا يعكس الامتداد التاريخي والثقافي العميق لهذا الشعب.
جدل داخلي وخارجي
يرى المعارضون لهذا التعديل أنه سيؤدي إلى استبعاد أفراد يعتبرون أنفسهم ساميين، وبالتالي يُحرمون من حق المشاركة في الانتخابات، نتيجة لتبني تعريف قانوني أكثر تشددًا لمفهوم “السامي”. ويشير هؤلاء إلى أن التهميش الذي تعرض له الساميون عبر التاريخ قد أسفر عن وجود أفراد من أصول سامية لا يجيدون اللغة السامية، في المقابل، يوجد أشخاص يتقنون هذه اللغة دون أن تكون لهم جذور حقيقية في هذا المكوّن. وبهذا، يُخشى أن يُحرم أصحاب الأصول السامية من حقوقهم، بينما تُمنح لمن لا يمتلكون الانتماء الفعلي لهذا الشعب.
أما في العراق، فتُطرح إشكالية من نوع آخر فيما يتعلق بالكوتا المسيحية، حيث تقوم على أساس ديني لا قومي. وهو ما يعوق تمثيل المكوّن الآشوري بشكل عادل، باعتباره قومية أصيلة وتاريخية. من هنا أن ضمان هذا التمثيل لا يتحقق إلا من خلال تعديل القانون ليُبنى على أساس قومي، لا ديني، تجنبًا لذوبان الهوية الآشورية داخل إطار ديني شامل لا يُعبّر بدقة عن الخصوصية القومية والثقافية لهذا الشعب.
الجدل حول هذا التعديل لم يقتصر على الأوساط القانونية والسياسية فحسب، بل امتد إلى داخل المجتمع السامي نفسه في شمال فنلندا، حيث انقسم الساميون بين مؤيد ومعارض. فبينما يرى البعض أن هذا التعديل خطوة ضرورية لتنظيم الانتماء القومي وضمان تمثيل أصيل، يخشى آخرون أن يُقصي القانون الجديد أفرادًا لهم جذور سامية حقيقية، لكن لا تنطبق عليهم المعايير المُعدلة.
وقد أدى هذا الانقسام إلى خلق فجوة واضحة داخل الحكومة الفنلندية وبين مكونات المجتمع السامي، وكان السبب الرئيسي وراء طول أمد مناقشة القانون وتأخر إقراره لما يقارب ثماني سنوات منذ أن تم اقتراحه لأول مرة من قبل الحكومة في نهاية عام 2017.
ومثل هذا الجدل موجود أيضًا داخل المجتمع والأحزاب الآشورية في العراق، حيث تتبنى الأحزاب التي لديها حضور في المجتمع مقترح حصر التصويت بالآشوريين فقط وأن تكون الكوتا على أساس قومي. بينما تسعى الأطراف الأخرى، المدعومة من أحزاب سلطة ، إلى الإبقاء على الوضع كما هو عليه.
إقرار القانون في فنلندا مقابل الواقع العراقي.
في 27 حزيران 2025، صادق رئيس الجمهورية الفنلندية على القانون الجديد المتعلق بحقوق الساميين، وتم نشره رسميًا في الجريدة الرسمية بتاريخ 2 تموز 2025. ويُعد هذا القانون خطوة تاريخية نحو تعزيز الحقوق الثقافية والسياسية للشعب السامي، الذي لطالما طالب باعتراف أوسع بحقوقه كشعب أصيل في شمال فنلندا .
جاء إقرار هذا القانون نتيجة جهود حثيثة بذلتها منظمات سامية وجماعات ضغط محلية ودولية، دعمت القضية عبر الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، ومنظمات حقوقية عالمية.
ورغم التحديات التي واجهت هذه المساعي، فإن التنسيق الفعّال بين مختلف الأطراف الداعمة للحقوق السامية أسهم في نهاية المطاف في إقرار القانون.
في المقابل، لا نزال نحن الآشوريون نطالب بتعديل قانون الكوتا, ورغم رفضنا لبنود القانون بصيغته الراهنة، فانا شاركنا في الانتخابات السابقة، وسوف نشارك أيضًا في الانتخابات القادمة ضمن إطار الكوتا الدينية.
أن تجربة الساميين في فنلندا قد تُشكّل نموذجًا يمكن الاستفادة منه في ملفات أخرى تتعلق بحقوق الأقليات، إذا ما توفرت الإرادة السياسية، والدعم الشعبي والدولي اللازم، لتحقيق العدالة والمساواة بين جميع مكونات المجتمع.
في المقابل، تعيش الأقليات في العراق، وعلى رأسهاالمجتمع الآشوري، واقعًا مختلفًا تمامًا. فبما أن العراق لا يشهد وجود إرادة سياسية حقيقية لتعديل قانون الانتخابات، رغم محاولات بعض نواب الكوتا والأحزاب الآشورية، فإن الخيارات المتاحة أمام الأحزاب والمجتمع الآشوري باتت محدودة.
وفي ظل استمرار تجاهل المطالب الآشورية، لم يبقَ أمام الآشوريين سوى خيار مقاطعة الانتخابات، والعمل على تحشيد دعم دولي، سواء من خلال الأمم المتحدة، أو الاتحاد الأوروبي، أو عبر المنظمات الحقوقية العالمية، بهدف الضغط على الحكومة والبرلمان العراقية لإجراء تعديلات قانونية تضمن تمثيلًا عادلًا ومنصفًا للآشوريين ضمن العملية السياسية، بعيدًا عن الأطر الطائفية أو الدينية التي فُرضت عليهم في السنوات الأخيرة.
وإن كانت فنلندا قدّمت نموذجًا ناجحًا يمكن البناء عليه، فإن الحالة العراقية تُبرز التحديات الكبيرة التي تواجه الأقليات حينما يغيب الدعم السياسي والتشريعي.
