دانيال سليفو
بعد نقلي مُكبل اليدين الى الأمن العامة في بغداد، تم ربط قيودي بانابيب مقامة أفقياً على طول الجدران في ممرات الدائرة مع رفاق آخرين من الحركة الديمقراطية الآشورية، ممن أُلقي القبض عليهم من مختلف المدن والمحافظات العراقية. وخلال التحقيق من قبل نقيب الأمن إدوار تم الضرب بالقابلوات الكهربائية والعصى واللكمات والصفع على الرقبة من الخلف والصعقات بشرارة قوية بيضاء بالعصا الكهربائية والتي تصيب الجهاز العصبي بأكملة وتؤدي الى دوار وخمول وفقدان عن الوعي لثوان، وكان منحى الأساليب الوحشية يتصاعد طردياً مع كل صمود ومجابهة و زوغان والإنفلات عن الأجابة التي يبغونها. وأنكر الشهيد يوبرت معرفته بأي إسم لعضو من أعضاء منظمة الأنبار وكان مُحقاً في ذلك . وأكثر ما أفقد أعصاب المحقق النقيب إدوار هو عدم إعترافي بأسماء منظمة الأنبار، وحتى الأسماء الأربعة الذين ذكرتهم بعد معاناة كانت من البعثين والمتعاونين مع دائرة الأمن والذين يستطيعون من الخروج من التهمة ببساطة، وأحدهم كان عربياً مسلماً والآخر مقتول في حرب العراق وإيران دون أن أعلم, وحينما جابهني المحقق بالمعلومات المغلوطة بعد أيام، وأخبرته بأنه هو من طلب أسماء أصدقائي، وهولاء الذين ذكرت هم أصدقائي وأنكرت معرفتي بوجود منظمة للحركة، ولست مسؤولاً عنها، سحبني من القيد المحيط بيدي اليسرى بمساعدة أحد العناصر الذي أخذ يصيح بهستيرية مع مسبات وسخة تدل على تربيته الراقية!. وسحبني من يدي نحو الأعلى ليربطها بأعمدة مقامة متحركة مقامة على سقف الغرفة، مؤدياُ بذلك الى جرح ودماء على رسغ يدي اليسرى. حينها أدركتُ في داخلي بأن المحقق لا يبحث عن إجابات كما يدعّي، بل مجرد التنفيس عن الساديّة والولع بالتعذيب. لأن الإسلوب الوحشي القمعي والبذاءة ستؤدي الى مردورعكسي تماماً وصعوبة عملية التحقيق، فالعناد والإصرار على الموقف سيزداد حتماً، وهذا ما حصل، وقلت له بتعبير آخر: إنت تريد الإنتقام والسلام. فجرّني من إذني نحو المقعد مع صفعة من الخلف. وبادرته بالحديث عن تهمة قراءة البهرا بانها لا تعني الإنتماء، فالعشرات قرأوا جريدة بهرا ولست وحدي لأنها توزع كمنشورات أمام باحات البيوت والحدائق الخلفية كما سمعت!. صرخ : إسكت انا الذي أسأل. ولم يكن الوجِع والألم والقليل من الدماء يحز في نفسي، بل الإهانه والتسقيط والألم النفسي هو الأشد تأثيراً وضرراً. ولكن ورغم عدم وجود أدلة مادية ولا إعترافات ولا مستمسكات ضدي، الا إنه تم زجي في غرفة لا تزيد عن ثلاثة أمتار في أربعة، مع مجموعة من رفاق الحركة المُنهكيَن من الأساليب الوضيعة هذه من تنظيمات بغداد وكركوك والموصل الذين أنهوا التحقيقات أيضاً، وكانت الغرفة تشمل على مرافق مفتوحة وبعرض 80 سم، وبسبب الإزدحام، تم تقسيم الموجودين الى وجبتين، الوجبة الأولى تظل واقفة عدة ساعات الى أن تنهض الوجبة الثانية من النوم أو من الجلوس! وهكذا .. وكانت أجساد النائمين تلامس بعضها البعض والرؤوس تستخدم أقدام الآخرين كوسادات للنوم بسبب ضيق مساحة الغرفة. وبسبب الحرارة والرطوبة, ظل الجميع مجردينَ من ملابسهم والبقاء بالملابس الداخلية، وإستنشاق الهواء النقي على الدور من المنفذ الصغير على الباب الحديدي، وأحياناً كانت تُشغّل أجهزة التبريد المركزي ويضطر الجميع الى التغطي بأوراق صحيفة الثورة خصوصاً في الشهرين العاشر والحادي عشر، والأحساس بالبرد القارص إزداد سوءاً وشدةً بسبب الجوع وقلة المناعة، حيث كانت الوجبات الغذائية تتكون من صحن بلاستيكي من شوربة العدس وقطعة صغيرة من الخبز تُقدم مرتين في اليوم. وهذا لمدة تقارب الاسبوع، وبعد إنتهاء التحقيقات تم تقسيمنا الى غرفتين متجاورتين وبذلك حصلنا مساحات أكبر للجلوس ومد وإطلاق أرجلنا عند الجلوس والنوم .
أمام محكمة الثورة وعواد البندر.. أمام من كان الخصمُ والحكمُ
تم إرسالنا الى محكمة الثورة سيئة الصيت بداية الثلث الآخير من تشرين الثاني ( نوفمبر ). ودخلنا قاعتها المغطاة جدرانها والأثاث بخشب الصاج العازل، ووقفنا أمام هيئة المحكمة بملابسهم الزيتونية بصفين، وجلس القاضي (الحاكم) عواد البندرفي الوسط وعلى جانبيه بمسافة المدعي العام وكاتب المحضر، وقرأ المدعي العام لائحة الإتهام بصورة جماعية ضد الموجودين من أعضاء الحركة الديمقراطية الآشورية، وشرح رجعية الحركة وعمالتها للأجنبي وللعصاة والخارجين عن القانون وخيانتها للوطن!. وطالب بأقصى العقوبات. ودخل المحامي عبود الموّكل من قبل المحكمة بعد إنتهاء قراءة الإتهام مسرعاً ومقتحماً القاعة، مرتدياً عبائته السوداء بطريقة عبثية. ورغم إننا لم نكن قد إلتقينا بهذا العبود، إلا إنه وافق فحوى الإتهام المنسوب إلينا مع إضافة بسيطة وهي إن الثورة والقائد قلبهم كبير ورجاء إعطائنا فرصة أخيرة للعودة الى الصف الوطني والرجوع والتوبة لاننا ( مُغرّر بنا )!.
بدأ الحاكم بسؤال الأعضاء وبحسب الدور وبالترتيب, فالحُكم كان جاهزاً وليس على الحاكم سوى قرائته. :هل أنت مذنب أم برئ ؟ وكانت الإجابات متفقة على محور مشترك، وهو من حقنا المساعدة والدفاع عن وجودنا وصمود وبقاء شعبنا في قراه بسبب الظروف العسكرية والخسائر في الأرواح وكذلك النزوح بسبب الدمار وهدم البيوت وأماكن العبادة التاريخية نتيجة الخوف والجوع وتحطيم المنازل، وبما لا يتناقض من سياسة الدولة في إستتباب الأمن، وليست هذه الاعمال مناوئة بأي شكل أو آخر ضد السلطة الحاكمة. وحينما جاء دوري, سألني الحاكم عواد : وأنت الهارب من العسكرية، هل أنت مذنب أم برئ ؟ أجبتهُ : أنا برئ ولست هارباً بل العكس فقد أُعُتقلت خلال إدائي خدمتي العسكرية، ونحن نقوم في خدمة أبناء شعبنا في الشمال وإنقاذهم من الأعمال المنفلته عن القانون ودعمهم للصمود والبقاء، وهذه الإجابة أزعجته فصرخ بعصبية وبصوت عالٍ : أُسكت!.
الـدم أقسى شاهد على المبادئ والحقوق
كانت المحاكمة سريعة، وتم تلاوة قرارالحكم والمتضمن الحكم بالإعدام شنقاً غيابياً على من أسمتهم بالمتهميَن الهاربيَن ( يونادم كنا و كيوركيس رشو )، وبعدها قرار الإعدام على مسؤولي تنظيمات بغداد وكركوك ونينوى، والمؤبد ومصادرة الأموال المنقولة والغير المنقولة على أغلبية الأعضاء، وبعض ألاحكام الأقل على البعض الآخر. وكان لسماعنا قرار الإعدام بحق رفاقنا ( يوبرت بنيامين ويوسف توما ويوخنا أيشو ) صدمة شديدة أصمّت آذاننا عن سماع بقية الأحكام التي صدرت ضدنا حينذاك. وبعدها تم نقلنا بمركبة للأمن على شكل حاوية مغلقة، بإتجاه سجن أبو غريب، حيث تم فصل الرفاق يوبرت ويوسف ويوخنا عن البقية، وأقتيدوا الى زنزانات الإعدام، حيث أودعناهم بنظرات الموآساة والحزن بكلمات وأصوات مكتومة وضعيفة تُعبّرعن أملنا ورجاءنا بأن لا يتم تطبيق الحكم، وتجسدت أمامنا سخرية الأقدار، تلك الأقدار التي تجعل الجلاوزة وأولاد حارات بغداد وعصابات ( حُنين ) تحكم بالموت على أبرياء لم يكن ذنبهم سوى المطالبة بحقوق آشورية وعراقية مشروعة. تم بعدها نُقلنا نحو سجن ابو غريب قسم الأحكام الخاصة. ولم تنقطع أخبار الرفاق من زنزانات الأعدام، إذ كنا على تواصل مع أخبارهم من خلال السجناء الذين كانوا يُرسلون لتنظيف الأقسام الثقيلة والإعدامات. ولكن وفي الأيام العشرة قبل تنفيذ الجريمة ضدهم، لم نكن قد سمعنا شيئاً عنهم لعدم تواجد سجناء من قسمنا ( الأحكام الخاصة في تلك الفترة ) للتنظيف في زنزانات الإعدامات, ولكننا سمعنا من قبل الأقارب الزوار الذين جاءوا للمواجهة. وحينذاك غلب الغضب على الحزن، ووصلنا الى طريق اللا رجعة تماماً. وأعتبرناها خسارة جولة، ولن تكون الأخيرة.. موضوع الشهداء الخوالد اصبح تاريخاً وكفاحاً مدوّناً بسطور ملهمة بطعم التضحية والكفاح ونكران الذات، وتصاعد مستوى الشعور بالألم من مجرد رفاق عايشناهم وعرفناهم في حياتنا الى ما هو أكبر، وهو قمع الأصوات وأنتهاك الأعراض وتدمير المجتمعات، والمطالبات بحياة حرة كريمة، وبالنتيجة تجسيد لمكابدات الأنسان العراقي إبن سومر وبابل وآشور. كما يرتبط الموضوع بقضية متصلة بشكل أو بآخر بأقوى الحضارات المستقلة الأصيلة التي حكمت أرض بلاد ما بين النهرين، الا وهي الامبراطورية الآشورية. وعندها أدركنا بان قضيتنا كبيرة جداً، وينبغي أن نكون بحجم المسؤولية. كان الشهيد يوسف في هدوءه يحمل الكثير من الحكمة والوعي بقصص الشهداء وحركة الشعوب نحو الانعتاق، وكان ينصح بتأجيل الحديث عن الشهادة الى أن تتوفر مستلزمات الشهادة وتتكامل عن وعي وايمان واستعداد وتضحية لان الشهادة تأتي في المراتب العليا من الوعي القومي والسياسي، وإنها ستأتي بعد نضوج ومعايشة المفردات التنظيمية والثقافية. وكان الشهيد يوخنا يعيش معاني الشهادة في التفاصيل اليومية لحياته، ويدرك تماما همجية النظام وإسلوبه القمعي، ولكنه كان يتمنى أن تتاح له فترة أطول ليقدم المزيد من العمل لصالح القضية.. شهداءنا ساروا بخطى واثقة في طريق التضحية، مدركين تماماً مقدار الثمن المطلوب دفعه، وكانوا يعلمون بأن ذكراهم ستظل حية في القلوب وبأنها ستظل ذخراً هادياً وخميراً حيّاً لرفاقهم وشعبهم، وكانوا على حق، إذ ظلت المسيرة قائمة وساروا أخرون على خطاهم . وكانت دماءهم ومعاناة المعتقلين أحد أهم القوى الوجدانية المُغذية الدافعة لقضيتنا نحو حقوقها، وذلك بإندفاع رفاقهم وإصرارهم على المداومة في العمل القومي والإخلاص ونكران الذات، وكان إلتحاق عشرات الشباب الشهداء بمسيرة الألم خير مصداق على ذلك، ونعتبر هذا واجباً لا يُناقش وهو أيمان ذاتي نجد أنفسنا فيه ونجدها فينا, وليس فضل ولا منّة على أحد، الا إذا أراد معاداتنا، وهذا لم يحصل الا من أشباح ضعيفة تسبح في أفق الفنتازيا، سقطت سهامهم عند أقدام المُخلصين وذابت، بل التراجع والإنكفاء والقفز من القافلة في وسط الطريق هو الشاذ في حساباتنا. ( يُتبع).
لقراءة الجزء الأول من سرديات أليمة من داخل أسوار ابوغريب … مسيرة وأحداث 1984 لشعبنا وللحركة الديمقراطية الآشورية إنقر على الرابط ادناه: