دانيال سليفو
في قسم الأحكام الخاصة، وضِعنا في قاعة كانت تُسمى المطعم الثاني، وعند دخولنا لأول مرّة، ساد صمت مطبق على السجناء، وقف الجميع عن الحركة، وأخذوا يُحدقون بنا، بعيون متساءلة تُدقق في تفاصيل وجوهنا وأجسادنا لعلهم أرادوا معرفة قضيتنا.! تنفسنا الصعداء، أخيراً إنتهت ملحمة الكوميديا السوداء في محكمة التهريج الثورة مع الثنائي عواد وعبود، مع خسائر لا بد منها لمن لا يريد أن يعيش أبد الدهر بين الحفر. وبدأت ساعة الشروع للإنطلاقة الجديدة لملحمة شعب تواق للتحرر والعيش بأمان في الثُلث الأخير من القرن العشرين. وتفرّغ الجميع للمراجعة والتقييم ونقد الأخطاء لتوفرالوقت وعدم الإنشغال بمسؤوليات الحياة اليومية المُلحة. وكانت أحلامنا وأمانينا تكبر وتجتاز جدران المعتقل الى فضاءات أرحب. وبسبب ملابسات إختلاف الدين وإشكالية المعتقد مع الأغلبية الشيعية، تم تخصيص موقع منعزل في نهاية القاعة، ولكنه كان الأفضل ما فيها، ويتكون من أرضية خشبية مرتفعة بمتر تقريباً عن الأرضية الكونكريتية للقاعة، وتجري تحته الجرذان والصراصير بحرية وينتعش فوقه القمل وأُرُضة الخشب وحشرات الأِسِرة والبطانيات، وكان هدفنا في الشهورالأولى التعريف بقضيتنا لزملائنا السجناء من الشيعة وأغلبهم من حزب الدعوة الإسلامية والحزب الإسلامي ( الإخواني ) وللشيوعيين وللأكراد من جميع قاعات وأقسام السجن ( الأحكام الخاصة ). كانت المواجهة الأولى, من قبل الأهل والأقارب والأصدقاء، بمثابة مهرجان مملوء أجواءه بالعواطف والمشاعر النقيّة الأصيلة غمرت الجميع. وأغلبهم من المساندين والعاملين والداعمين للحركة، وسميتهم حينذاك ( العاملون في الخطوط والخنادق الخلفية ) لأنهم أوصلوا لنا آخر أخبار الحركة والمواقف الإيجابية للعديد من النشطاء القوميين وحتى العاديين الذين يعيشون حياتهم بنمطية وروتين، وحينما فارقونا في المواجهة الأولى بقلوب تتنهد من الحزن، رجعنا الى أماكنا مخذولين من الم الإفتراق .. جلستُ وأغلقت عيوني، ووجدت نفسي مُعيداً صور وتفاصيل اللقاء بالأهل والأصدقاء ومتساءلاً عن الغائبين عن المواجهة، ومع ألأخبار الإيجابية للحركة الديمقراطية الآشورية التي وصلتنا أخيراً ، ووجدت نفسي مُحلقاً ومستعيراً لحظات من زمن الحرية، عشتُ لحن بيتهوفن بسمفونيته التاسعة الرائعة إنشودة الفرح والتي معناها :
يا أصدقاء .. ليلحق بنا كل من لديه روح البهجة للحن جديد
من أي مكان حول الأرض
وليخسأ كل من حاد عن الطريق، ليبتعد مذموماً عن تجمعنا.
بعودة الروح، والشعور بنبض الحياة من جديد
بعد ما يقارب الشهر إلتحق بنا ( نابليون وأبلحد وروبرت ) وهم رفاق حملوا السلاح لحماية قرانا من الأعمال المنفلتة. وتم إطلاقهم من زنازين الإعدام نحو المؤبد، ونقلوا تفاصيل مثيرة عن ما كان يجري هناك. وكانت أخبار المآسي والكوارث والضحايا المرتبطة بالمعارك مع إيران تطغى دوماً على الإهتمامات الأُخرى، وكنا نسمع الكثير من التفاصيل الكارثية المعاشة من الزوار، ونتبادل المعلومات والأخبار مع السجناء الآخرين، وكثيراً ما قيل لنا : أنتم محظوظون لبقائكم في السجن في هذه الظروف الصعبة، لأنكم بعيدون عن خطر المعارك !. ولكن لم يكن هذا ما نبحث عنه، لان الحرية أثمن من أي شئ آخر. وفي مناسبة أخرى، تحدث مدير السجن الذي شاهدناه لأول مرة عن حزنه وحنقه من بقاءنا أحياءاً متنعمين بينما الطيبين البعثين ! والمخلصين يموتون في جبهات القتال مع إيران. وبعدها تبين إن صدام ( لم يُكذب الخبر)!، إذ أصدر قراراً بالعفو العام عن المسجونين من السياسيين، وذلك وسط غمرة الإحتفالات بعيد ميلاده في نيسان 1986، وتم إخراج الوجبات تباعاً. وبعد خروجي، واخذت إجازة لثلاث أيام قبل الإلتحاق الى أفواج مهمات خاصة بالمسجونين، وبعد أقل من شهر من التدريبات العسكرية المُركزة، سُيقت الى الخطوط الأمامية الساقطة عسكرياً وسط الألغام شمال نهر جاسم، وهذا القاطع كان مُستهدفاً من قبل الجيشين العراقي والإيراني على حد سواء. وقُتل العديد من السجناء من الفوج الذي كنت أنتمي اليه خلال المعارك التي أُشُركت فيها مرغماً ومنهم من كانوا زملاء في السجن. وبالنتيجة لم يكن أمامي من سبيل سوى محاولة الإلتحاق بمقرات الزوعا في قرانا شمال العراق. ولكن المراقبة المستمرة للعائلة، والزيارات الغير مُرحب من عناصر الأمن حالت دون ذلك، مع مراجعات مستمرة لهم في كل إجازة، وتم وضع أسماءنا في السيطرات على طول الطريق نحو كركوك والموصل مما جعل الأمر صعباً. لذا وضعت ملابس مدنية في حقيبتي محاولاً الإلتحاق بالمعارضة والحركة الديمقراطية الآشورية في أورمية في ايران. ( سيتم تفصيل ذلك لاحقاً ).
مسح الغبار عن الصور والذكريات من الحياة اليومية في المعتقل
بعد أن تفرقنا الى غرفتين من زنزانات الأمن العامة، إكتشفنا طريقة مبتكرة للتواصل بعضنا مع البعض عبر الجدار الفاصل. كتبنا بالحفر الأبجدية السوريانية ܐ ܒ ܓ ܕ ܗ ܘ ܙ على صابونة الرقي المكعبة، ووضعنا أمام كل حرف رمز محدد له, ܐ : خط واحد و ܒ : خطين ، ثم ثلاثة وبعدها نقطة واحدة ونقطتين وهكذا .. وكنا نُسمع رفاق الغرفة المجاورة بالخط على الجدار أو الدق بحسب الحرف لتتكون الكلمات، ثم تأتينا الإجابة بالمثل. الا أن صوت الحك والدق على الحائط كان يخترق هدوء الليل، وكشفَنا ضابط الخفر بمتابعة الصوت الذي يخرج من غرفتنا في ويشق صمت الزنزانات والممرات، مد الضابط رأسه من المنفذ الصغير للغرفة ورآني ( بالجرم المشهود ) وبيدي الصابونة، وسأل عن مصدرالصوت، وأجبناه : صحيح نحن أيضاً سمعنا أصواتاً ولا نستطيع أن ننام، لا ندري ليس من عندنا، وتظاهرت بالنهوض قائلاً : أقوم أدخل أسبح !.
بعد المحاكمة ووصولنا الى سجن ابو غريب، أدخلونا الى المحجر قبل أن يهيئوا لنا موقعاً في القاعة، وهي غرفة صغيرة فيها عدد كبير من السجناء. وجلسنا جميعاً مُنهكين من صدمة قرارات المحكمة مع شعورعام بألم في الركبة، وحينما جاءت الوجبة الغذائية ووقفنا في الدور، جاء أحد المسجونين وبصلافة حاول تجاوز دوري. سحبته بقوة من قميصه الى الوراء فسقط على ظهره وهو يصيح : انا محكوم سبع سنوات، ويجب أن أكون الأول في الدور !. مسكته من يده وأمرته ان يجلس قرب الباب لأنه سيخرج غداً !. ( گوم أُگعد يم الباب إنت باچر طالع، لأن إحنا محكومين بالمؤبد يا أبن !.).. هذه كانت رسالة للحاضرين من جهة، ومؤشرعلى ما قد نعانيه من مصاعب مستقبلاً من هكذا نماذج من جهة أخرى.
بعد أن استقر الوضع بنا في قاعة ( المطعم الثاني )، أستلمنا ملابس السجن الجديدة الجوزية اللون، وجمعنا ملابسنا الوسخة للغسل، وفي فترة الخروج اليومي، لاحظت ملابسنا مكوّمَة بعيداً عن ملابس السجناء الآخريين، أقتربت من الشخص الذي سيقوم بالغسل والجالس أمام طشت كبير، وخاطبتهُ قائلاً: أخي أرجوك إغسل ملابسنا على حدة ولا تخلطها مع الملابس الأخرى، لأننا نريدها طاهرة بحسب ديننا !. وبدا لي إنه فهم رسالتي بإبتسامة ساخرة مخفيّة.
إضافة الى الأهل والأقارب، زارنا العديد من الناشطين القوميين والمثقفين وكان بينهم رابي منصور روئيل، وهو مثقف وناشط في النادي الثقافي الآثوري، ونقل لنا رسالة أبوية من قيادات كنسية تعهدت بالدفاع عنّا وإخراجنا بشرط البراءة من الحركة ( إن وافقنا على ذلك ). وكانت إجابتنا : وماذا عن المحكومين بالإعدام ؟. ثم إن دخولنا الى السجن من أجل حقوق قومية ووطنية مشروعة، ولن نخرج حتى لو فتحوا لنا أبواب السجن دون ذلك !.
عايشنا الألم والمعاناة ولكن مع مظاهر الإباء والعزيمة المبدأية الواضحة عند الرفيق روميل بنيامين بعد فقدانه لشقيقه يوبرت، وكذلك الرفيق رعد إيشايا وشقيقته السيدة مي إسحاق لفقدانها زوجها ورفيقها، ولمست المبدأية العميقة والشجاعة لشقيقة الشهيد يوسف توما زميلة الدراسة والوعي القومي السيدة أميرة، وما سمعناه عنهم لاحقاً من مواقف صلبة بعد تنفيذ الحكم، ومصيبتهم كانت مزدوجة بسبب أولاد الخالة الشهيدين يوسف ويوخنا. ( يُتبع )
لقراءة الجزء الأول من سرديات أليمة من داخل أسوار ابوغريب … مسيرة وأحداث 1984 لشعبنا وللحركة الديمقراطية الآشورية إنقر على الرابط ادناه:
ولقراءة الجزء الثاني من سرديات / ايام القسوة والقلق والتحدي في الأمن العامة مسيرة وأحداث 1984 لشعبنا وللحركة الديمقراطية الآشورية إنقر الرابط ادناه :