فواد الكنجي
المفهوم الفلسفي لتطور المفاهيم الأخلاقية للمجتمعات تتجه باعتبار من المواضيع الهامة التي يثار حولها الكثير من الجدل والمناقشات الفلسفية والاجتماعية وبين مختلف الاتجاهات الفكرية الإنسانية والتي من خلالها يمكن للإفراد تبني رؤيتهم الفكرية لتواكب تطور المجتمعات التي تتبني مفاهيمها وفق التراث الاجتماعي من العادات والتقاليد والأعراف لتترجم وفق رؤية معاصرة لتطور المجتمعات وحداثتهم إلى وسائل وطرق ومعارف تواكب العصرنه؛ فالمدلول الاجتماعي لـ(التراث) في الحياة الإنسان التي هي سلوك الإنسان في الحياة لا يمكن أن تبقى كما هي منذ آلاف ومئات السنين دون إن لا يحدث عليها تغيير وقراءة وفق معطيات العصر؛ لان المجتمعات باحتكاكها مع بعضهم البعض في الأخذ والعطاء يحدث نوع من اقتباس وتقليد لما يجدونه مناسبا مع تصوراتهم وأساليب حياتهم من الآخر؛ فيتم على ضوء ذلك استحداث ظواهر جديدة لتصبح بعد مرور الوقت جزء من عناصرهم المستحدثة لحاضرهم؛ لتتداخل مع بعضها البعض؛ وان اختلاط الشعوب قد جعل من التراث ميزة مرنة تنتقل من واقع الغريزة المتأصلة والعادات الدارجة إلى سلوك يكتسب من خلال الاختلاط وبالتعلم وبالتجربة؛ فيتجاوب الحكم على الشيء من نطاق الفرد إلى نطاق المجتمع؛ وينتقل من حدود العرف إلى حدود القانون والأخلاق؛ كما ينتقل من ذات الإنسان إلى أفكار اجتماعية مرنه وتصبح لها مقبولة نافذة في حياة الناس والمجتمع .
فطبيعة المصالح لشعوب العالم في عصر العولمة تداخلت فيما بينها بما جعل صلاتهم مع بعضهم البعض تقوم وفق العلاقات الدولية التي تحكمها الأنظمة الدولية بالقوانين وقراراتها؛ وهذا ما يجعل المجتمعات تتبني فلسفة الحياة بمعطيات العقل.. والأخلاق.. والحرية.. وحرية الاعتقاد.. وقبول الآخر؛ لان إنسان في أي موقع كان إنما يعيش في عالم معولم تحت سقف الكرة الأرضية؛ رغم ما فيه من تنوع الشعوب والأمم واختلاف أنماط الحياة البشرية؛ الأمر الذي ساهم في تطور تصورات فلسفية.. أخلاقية.. مجتمعية متطورة تواكب معطيات العصر ومتقبله من قبل الجميع؛ مع حرية الاحتفاظ بما تم توريثه من العادات والتقاليد مع إبقاء قيمه ومعانيه الأخلاقية قائمة وبما لا يفرض للأخر الالتزام بها، وهذا بحد ذاته يعتبر تطور في مفاهيم الأخلاق المعاصرة بعد إن أصبح إيمان الفرد المعاصر بـ(الحرية) حدود تنتهي بحدود حرية الأخر ولا يلزم الآخر بتقيد بما هو يعتقد ويؤمن به؛ لان التحول الذي طرأ على المجتمعات البشرية في عصر العولمة جعل الترابط الإنساني بعيد عن الأنانية والمصلحة الآنية وتزداد رويدا – رويدا بين البشر رغم أن الجميع يحافظ على خصائصه المحلية والإقليمية وبموروثه.
الاغتراب و فلسفة الأخلاق وإشكالية حرية في العمل السياسي
فحضارة الأمس هي يقينا ليست كحضارة اليوم؛ ولكن هناك فيما بينهما عملية إخصاب وتلاقح معرفي وفكري وعلى كل المستويات، فالحضارة أية امة مهما كانت خصائصها وصفاتها.. إيجابياتها أو سلبياتها؛ فإنها لا تبقى محصورة في نطاقها الجغرافي الضيق؛ لان الحياة هي متحركة؛ لأنك لن تنزل البحر مرتين – كما تقول الفلسفة – وان الحياة لا تتوقف؛ بل هي في دوامة التقدم والتطور؛ وان الإنسان بطبعه يحتك مع الأخر المختلف يأخذ ويعطي مع الحضارات الأخرى، لأن الإنسان المعاصر ولد متسلحا (بمعارف اﻷقدمين وخبرة المعاصرين)؛ وهذا ما يجعل الإنسان أن يصبح نمطا واحدا بقيمته الأخلاقية في مختلف الأمكنة واﻷزمنه؛ ينطلق من حدود معينة إلى حدود أبعد منها في التعبير عن أفكاره وشعوره الإنساني، والأفكار والمشاعر لا يمكن أن تتطور وتنهض إلا من خلال ما تسمح له ملكاته ومواهبه الفطرية لتجعل منه صورة العصر الذي يعيش فيه، وبهوية علمانية ووفق هويته الثقافية.
لان الفكر والمعارف هي أساسا مكتسبه عند كل شعوب العالم وحضاراتهم وثقافاتهم وتنقلها الذاكرة الجماعية عبر اللغة؛ فـ(اللغة) لها دورا أساسيا في (التآلف) و(التوحيد) و(التقارب) بين مجاميع من إفراد يتكلمون لغة واحدة، وهذا ما يؤدي إلى تقارب في المشاعر والعواطف وتبادل الأفكار بما يحقق بينهم الألفة.. والتوحيد.. والتقارب؛ بفعل العواطف المتقاربة التي توحدهم؛ وهذا ما ينمي في الذات الإنسان حب تبادل الأفكار البناءة؛ وبنائها لكي يستطيع بمعطياتها العيش بأمن وسلام وطمأنينة ينطلق وهو في غاية الاستقرار النفسي والعاطفي يجاهد ويناضل لبناء أفق رحب بالدراسات والتحليل والتفلسف وكل وفق فلسفته الحياتية الايجابية ليتشكل وفق هذا المعطي الفكر البشري.. فلسفة.. وآداب.. وعلوم.. وفنون.. ومختلف المعارف الفكر واتجاهاتها ومدارسها؛ ليولد الإنسان وهو متسلحا بهذه المعرفة ولغاية إسعاد الإنسان وتجنب الآلام التي هي أساسا تنطلق من (الذاتية) إلى (الموضوعية)؛ بمعنى إن (الفرد) الذي يسعى لتطور ذاته بالمفاهيم الأخلاقية العالية هي لن تبقى محصورة في ذاته بفعل تواجده واختلاطه بالأخر؛ وبالتالي فان هذا النطاق سيتسع من نطاق ذاتية الفرد إلى نطاق المجتمع المحيط حوله ومن ثم إلى نطاق المجتمع الإنساني، لان وسائل الاتصال اليوم من الانترنيت.. والحاسوب.. واللابتوب.. والموبايل.. والايباد.. وغيرها من تقنيات الآلة الالكترونية المعاصرة؛ وهي من سعة في تبادل الأفكار التي من خلالها يجد (الفرد) المناخ المناسب لتوسيع أنشطة الفكر بعد إن تجد لها قواسم مشتركة عند (الآخرين)؛ وهذا يأتي بفعل شعور الإنسان وعواطفه التي امتلكها وبناها بشكل سليم وهي التي كسبته المعرفة الإنسانية وزرعت في ذاته حب تطويرها والاحتكاك بالآخرين والحماس في تنميتها؛ وهذا التبادل وتقارب المشاعر هي حالات من الشعور الطبيعي في ذات كل إنسان وتكمن في أعماقه لينطلق منها لتعبير في مختلف المواقف وفي كل الأمكنة واﻷزمنه؛ لان الفرد أو الإنسان بصورة عامة ينطلق دوما من الذات إلى الموضوع – كما قلنا سابقا – بمعنى انه ينطلق من حدود محددة إلى ابعد منها لتعبير عن القيم الإنسانية التي تتطور عبر العلم.. والمعارف.. والآداب.. والفنون؛ والفرد ينطلق منها وفق ملكاته الذاتية وموهبته وهويته الثقافية التي نجعل منها صورة العصر الذي يعيش فيه مجتمعه وهذه الغايات الذاتية للإفراد هي التي تصبح موضوعية في المجتمع والتي تفلسف في أنظمة الدول سياسيا ليعطى لها شتى أنواع من تفسيرات فضفاضة والتي تؤول بوسائل سفسطائية لشتى الغايات، لان (الأخلاق) هي أولا وأخير رؤية الإنسان الذاتية التي تحدد له مواقفه الاجتماعية أو السياسية، لذلك لا يمكن فصل بين معايير الأخلاق وقيمها عن مؤسسات السياسة والمجتمع، لذلك فان كل أنشطة نظام الحكم وأنشطة السياسية للأحزاب أو المنظمات تخضع لتقييم ووفق معايير (الأخلاق) التي من خلالها يستطيع الفرد أن يحد من سلوك المتطرف وحل التناقضات بين سلوك الفرد والمجتمع ولتقريب الصور؛ فان العلاقات القائمة في مجتمعات البداوة ما ينظمها يأتي وفق معايير العادات والتقاليد ومؤسسة الأسرة؛ ومع تطور المجتمعات وظهور (العولمة) بتكنولوجية وثقافة الليبرالية الرأسمالية؛ ضعفت الرقابة الاجتماعية بشكل ملحوظ في المجتمعات المعاصرة؛ لتقوم مؤسسة السياسة دورها في تنظيم هذه العلاقات السلطوية التي يؤثر ويحدد مسار تنفيذها قيم (الأخلاق)، وهنا تبرز إشكالية في حرية العمل السياسي؛ لان (الأخلاق) تضبط مسار عملها؛ ولهذا تعمل السياسية إلى تحرر منها؛ ولكن وفق ضوابط؛ لان السياسة والأخلاق عالمان ينطلق فهمها بالأساس من اجل تنظيم الحياة الاجتماعية وتضمنان سلوك الفرد؛ ولكن الفرق بينهما يكمن بان (السياسة) تلجئ لتنفيذ لما هو مطلوب تنفيذه وفق قواعد وانضباط قسري، بينما (الأخلاق) تعمل وفق نظام تأنيب الضمير؛ لذلك يتحتم إلى تحقيق العدالة والعدالة الاجتماعية و ما هو لصالح العام دون أن تنتهك قيم الخلاق من النزاهة.. والإخلاص.. والعدالة.. والمصداقية؛ التي هي وسائل أخلاقية يجب تمسك بها تحت كل الظروف لتحقيق أهداف السياسة والأخلاق معا؛ بمعنى إن يكون هناك نوع من التوازن بين الصالح العام و حقوق الإنسان.
لذلك فان الدول مهما كان شكل نظامها السياسي لابد إن تتعامل وفق قيم (الأخلاق)؛ لان من واجب الدولة المحافظة على الإنسان كانسان بإنسانيته والتكافل بين الأفراد وفق مبادئ وأسس أخلاقية؛ لان الدولة من واجباتها وأهدافها الحفاظ على حرية الإنسان واستقراره وأمنه وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية؛ لان توجه لهذه المعاملات لا يتم تحقيقه إلا بفضل القيم الأخلاقية وان أي إهمال أو تقصير في أداء هذه الرسالة سادت في المجتمع مظاهر الانحطاط الأخلاقي من الفسق.. والفجور.. والخيانة.. والكذب.. والغش.. والسرقة.. وسفك الدماء بين أفراده.. والتعدي على الحرمات والحقوق من قبل الدولة ونظامها السياسي والتي لا محال ستتحول الحياة في الدولة إلى جحيم لا يطاق؛ وهو نطاق الذي يفجر (الاغتراب) في أعماق الإنسان؛ ليعش مغتربا مع ذاته ومحيط أسرته ومجتمعه، ومن هذه الحقيقة تكمن أهمية (الأخلاق) ومدى حاجة المجتمع إليها؛ وان أي تراجع لدور الدولة ونظامها السياسي سيكون على حساب الإنسان وشعوره بـ(الاغتراب).
المجتمعات المعاصرة سحقت الإنسان وأسقطته في ثقافة التشيؤ والاغتراب
فالصورة الإنسانية للحضارة الجديدة وفي خضم ما يشهده عالمنا من تحول وتقدم في مختلف أصعدة الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتغيرات والتحولات الفائقة أفقيا وعموديا في معاني ومعالم الحياة سواء بعولمة العالم أو بتطور تكنولوجيا ووسائل الاتصال والتواصل والتي فرضت نفسها على الإنسان والمجتمع في ظل واقع شديد التعقيد والغرابة سحقت (الإنسان المعاصر) ودمرت كل معاني الأخلاقية لدرجة التي أسقطته في (التشيؤ) و(الاغتراب)، لان دائرة الأخلاق والنظام السياسي لدول طغت عليها (المال) و(الرأسمال) والقوى المهيمنة التي تمسك زمام الأمور الرأسمالية للمنافسة وللسيطرة على أسواق العالم والمجتمعات في آن واحد؛ لان الغاية الأساسية التي تدور فيها عجلة الحياة؛ انحصرت من اجل غاية واحدة لا غيرها وهي تحقيق الإرباح المادية مهما كان الثمن حتى وان كان ثمنه (الإنسان ذاته)؛ ليتحول (الإنسان المعاصر) إلى أداة من أدوات (الرأسمالية) و(الليبرالية) بعناصر قوتها وهيمنتها الطاغية في عالم (العولمة) التي فيه ارتفعت قيمة كل الأشياء ولم تنخفض فيه إلا قيمة الإنسان؛ بعد غياب قيمة الثقافة والأخلاق في ظل (الرأسمالية) و(الليبرالية) و(النيوليبرالية) ليعيش الإنسان في دائرة واسعة من الاستلاب الثقافي والروحي والأخلاقي تغرق ملامح وجه في (التشيؤ)، فلا تبقى الثقافة عند (الإنسان المتشيء) قيمة لكون الثقافة هي حرية الإنسان تتحقق في ذاته بصورة تلقائية رغبة منه لسمو أخلاقه؛ ولكن حين تجعله (المادة) أداة من أدواتها فإنها – لا محال – تشيئه؛ ليفقد الكثير من قيمه ويضحي بكل شيء من اجل (المادة) والحصول على مقتنيتها الحسية؛ على عكس ما كان علية قبل (التشيؤ) أي انه كان يضحي بكل شيء من اجل تطوير ذاته ثقافيا.. وأدبيا.. ومعرفيا.. وعلميا؛ لسمو إنسانيته بتطوير تصوراته العقلية والعاطفية والوجدانية ولكي يتفاعل مع وجوده ومع الآخرين؛ لان تفاعله مع الثقافة لم يتم إلا بأنشطة العقل.. والحرية.. والمعرفة الإنسانية البناءة، ولكن (الإنسان) في الحضارة المادية المعاصرة خسر كل شيء بعد إن فقد قيمه الثقافية الأخلاقية؛ ليفقد في العالم أهم مقومات الإنسانية؛ ليسقط في دائرة (التشيؤ) و(الاغتراب)، لان (الثقافة) و(ثقافة الأخلاق) هي ميزة (العقلنه الإنسانية) تواكب العلم والمعرفة لسمو وللرفعة ذات الإنسان بالمشاعر والقيم الأخلاقية والجمال، وعند غياب هذا الجانب الايجابي من ذات الإنسان فان ذاته – لا محال – ستسقط في اشد حالات (التشيؤ) و(الاغتراب)؛ بعد إن طغت ثقافة الاستهلاك.. والحداثة التكنولوجية.. وتقنية المادة في عصر الآلة؛ التي جردت الثقافة من ذات (الإنسان) التي هي أساسا مسار الحياة والوجود لتشيئه في الآلة؛ وهي التي جرفته في سيول (العولمة) بعد إن هيمنت فيها مظاهر السوشيال ميديا والاتصال وتقنيات الصورة لتشيؤ الإنسان بشكل من إشكال التكيف الاداتي لثقافة أداتيه؛ لتجعل من الإنسان أداة للثقافة الاستهلاكية وكيان هزيل بلا قيم فاقد الإرادة والمعنى والدلالة؛ بعد إن حولته المادة الاستهلاكية إلى مجرد شيء من الأشياء المادة يخضع لقوانين الأشياء والى هي قوانين (العرض) و(الطلب) .
الإنسان ما قبل العولمة وما بعد العولمة
ومن هذه الصورة للإنسان المعاصر الذي وجد نفسه بين ليلة وضحاها محاصرا بالجوانب الوجدانية في ثقافة وثقافة الأخلاق في ذاته وبين مستهلكا في المادة وفي نشوة التسويق الرأسمالي، الأمر الذي يجعل من الأول إنسان له شأنا غائيا بينما الآخر يجعله يسقط في دائرة التشيؤ والاستهلاك، الأول له هدف وطموح يخاطب ويحاور يأخذ ويعطي من العقل.. والروح.. والقلب.. والضمير.. والوجدان، والثاني ضاع في النزوة واللذة.. والاستسلام.. والمخادعة.. والضياع.. وتائه في (الاغتراب).
ومن هنا نجد كيف كان الإنسان (ما قبل العولمة) يمتلك الوعي ويسعى إلى توسيع معلوماته بالثقافة الفلسفية واخذ المعرفة والعلم ليحظى بكل أنواع معارف الحياة الإنسان الأساسية حول الدين.. والحق.. والعدل.. والخير.. والسلام ..والأمن.. والجمال.. ويتقبل ثقافة الأخر.. وان يكون منفتحا على أعمالهم الفكرية والفنية، ولكن للأسف هذا الحضور للإنسان الواعي المتقبل للأخر مهذب ومتسامح أصبح حضوره نادرا وقليلا وغائبا (ما بعد العولمة) في حياتنا المعاصرة.
إن تراجع الثقافة والمفاهيم الأخلاقية للمجتمعات في عالمنا المعاصر يعود مسبباته إلى إن عالم العولمة والثقافة الرأسمالية والليبرالية واللنيوليبرلية عملوا على اغتصاب الثقافة والمفاهيم الأخلاقية للمجتمعات لينالوا من كرامة الإنسان والإنسانية؛ لغاية تنشيط وسيطرة وجني إرباح السوق للرأسمالية؛ وذلك من اجل بناء الروح الاستهلاكية عند الإنسان.. وتدمير وعيه.. وتنميطه وفق أنماط ذوقية تحددها مطالب السوق الرأسمالية؛ ليتم سحق الإنسان سحقا لا تقوم عليه القائمة بسطوة الآلة والرأسمال وصناعاتها الحديثة؛ لكي تبقى هي وحدها في دائرة الضوء في عقل الإنسان لتسحق القيم الإنسانية والأخلاقية وثقافة الأخلاق؛ ليتم غسل أدمغة البشرية جمعاء بمنطق الربح والفردية وامتلاك البضائع المصنعة الحديثة التي تغزو الأسواق ليكون البقاء لمن يملك من خلال تجارة السوق والاستهلاك ليكون مقياس الثقافة في هذه المعاصرة يقاس بمقدار الامتلاك والاستهلاك؛ لان القيمة العليا في أخلاق المجتمعات المعاصرة تتمحور في (قيمة الاقتصاد) ومن خلالها يتم تقيم قيمة (الإنسان المعاصر) التي تحسب بمعايير الاستهلاك وبالقدرة على الامتلاك والاستهلاك.
لان دائرة ثقافة (العولمة) و(الراسمالية) و(الليبرالية) و(اللنيوليبرلي) تدور وفق ما يسعوا جاهدين لتحول الإنسان إلى كيان مجرد من المشاعر والأحاسيس؛ كيان للمتعة الصناعية والدعاية والإعلان – ليس إلا – لان الحياة في ظل هذه البيئة الصناعية لم تعد لها مفهوم أكثر مما تعنيه كلمة (الاستفادة والربح وتأكيد الذات من خلالهما)؛ لان شكل الحياة أصبحت قائمة على الربح.. والإثارة.. والاستهلاك؛ وان نموذج المعايير لنمط الحياة الثقافية المعاصرة أصبحت محصورة بين اللهو.. واللذة.. والمتعة الصناعية والمصطنعة فحسب؛ وهذا المعيار يؤخذ على مختلف المظاهر الحياة المعاصرة لان أي شي لن يكون له قيمة تذكر لا في المشاعر ولا في الأخلاق الإنسانية إلا إذ كان موازيا وفق معايير الإنتاج.. والاستهلاك.. والربح؛ والتي تكون قائمة وفق ما تتركه في النفس من اللذة والمتعة العابرة، لتصبح وفق هذا القياس كل أنشطة الإنسان لا ترتبط باللذة.. والاستهلاك.. والربح؛ مدعاة للسخرية والرفض والازدراء؛ وهو ما أدى إلى انحسار قيم العليا للأخلاق.. والتربية.. والثقافة.. ومعاني النبيلة للقيم الإنسانية .
ثقافة العولمة الليبرالية والرأسمالية عطلت ميول الإنسان العقلانية والحسية
ووفق هذا السياق لثقافة العولمة والرأسمالية والليبرالية اجبروا المجتمعات البشرية جمعاء إلى تكيف حياتهم وفق بعد واحد ونمط واحد؛ ذوقا واستهلاكا، لان العولمة وثقافة الرأسمال والليبرالية عملت وفق إنتاجها الصناعي إلى إغراء الإنسان بشكل لا يستطيع المقاومة ما تطرحه في الأسواق من الحواسب.. والبرامج.. واللعاب الكترونية.. وتأثيرات الانترنيت بشتى برامج التسلية واللهو.. وبما جلبته التكنولوجيا من إبداعات سلبت من الإنسان قدراته العقلية في التفكير والتخيل والإبداع في مجالات الأدب.. والفنون.. والثقافة الإنسانية.. وعلوم الفلسفة.. والتربية؛ لدرجة التي استطاعت ثقافة العولمة الرأسمالية تعطيل كل ميول الإنسان العقلانية والحس الأدبي والفني للنقد والإبداع؛ لتجرده من تاريخه وحضارته وواقعه عبر عملية (الإنتاج) و(الربح) و(الاستهلاك) حيث عمل الإعلام المعولم بثقافة الليبرالية والرأسمالية إلى تمجيد هذه البناءات لتشكل بوابة لدخول إلى روح ثقافة العولمة والانتماء إليها؛ بعد إن واكبت هذه الثقافة واتسعت أفاقها في المجتمعات المعولمه لتشمل مؤسسات (التربية) و(التعليم) بعد إن غابت عنها برامج التعليم والتربية الحقيقية وتحفيز الطلبة إلى البحث والتقصي الحقائق ولاكتشاف لتطوير قدراتهم العقلية من اجل تأصيل الثقافة الأصيلة التي تغني العقل والروح وتنهض بالإنسان؛ ولكن للأسف هذه المعطيات الايجابية لقيم ثقافة الأخلاق البشرية تحولت في زمن (العولمة) إلى قيم سلبية وغير مجدية بل وتفاهة في كثير من تصورات الإنسان المعولم في ثقافة العولمة ولليبرالية والرأسمالية، ولهذا فان سمة هذا العصر عصر ثقافة العولمة الرأسمالية فقد العقل الإنساني الكثير من دلالته الفكرية وقيمته الأخلاقية بعد إن أصبحت هذه القيم بلا جدوى وبلا قيمة؛ بل اعتبرت في ثقافة العولمة بكونها بضاعة رخيصة لا قيمة لها ولا تساوي قيمة حاوية النفايات التي ترمى فيها؛ لان سياسة الرأسمالية في نشر ثقافة العولمة عملت بكل ما يملكه العقل البشري من ملكات الإبداع وإحساس بالجمال والتخيل والإبداع وثقافة الأخلاق إلى إخضاعها لقيم (التشيؤ) ليس أكثر من ذلك؛ لان مرحلة ثقافة العولمة الرأسمالية ما بعد الحداثة المعاصرة عملت على تشيؤ الإنسان بإبعاد اللهو والعبث وتحصيل اللذة وإيهامه وخداعة باعتبار لا شي في الوجود اسمه (مقدس) في ثقافة العولمة وبكل وسائل الإنتاج والصناعية وإعلاناتها التي تتجرد من كل معاني الأخلاق العامة ودلالاتها الإنسانية، لان (العولمة) تبني ثقافتها الاستهلاك وفق مصلحتها القائمة سواء على مستوى الفرد أو المجتمع الذي يطيع ويستسلم لمعطيات الاستهلاك؛ بعد إن عززت ثقافة العولمة في (ذات الفرد) عبر عملية الاندماج السلبي في حياة افتراضية؛ لينقطع عنهم معنى الحياة الحقيقية والتواصل الحقيقي بين الإفراد والمجتمعات، لان العالم الذي نعيشه اليوم تم تحويله إلى عالم افتراضي بالصوت والصورة واللون وبخطوط الوهم والخداع؛ وفي ظل هذه البيئة المحبطة لا يبقى للوعي فعل في عقل الإنسان إلا لقلة من الإفراد والنخب المثقفة تثقيفا عالي المستوى وعلى مستوى الثقافة والتربية؛ الذين يواجهون هذه الوضعية المدمرة لثقافة الإنسان الحقيقية اللا افتراضية وفق قيم الوهم والخيال.
لان الحياة الحقيقية ليست حياة صور.. وخيال.. وإعلانات.. وربح.. وامتلاك.. والسيطرة.. وهيمنة الاقتصاد.. وثقافة السوق.. وألاعيب العرض والطلب؛ لان الثقافة وثقافة الأخلاق الحقيقية للإنسان السوي ووفق لهذا التصور لا يمكن اختزالها من الأبعاد المعرفية بهذا الشكل المعولم في ثقافة الرأسمالية والليبرالية؛ لان الثقافة الحقيقية تتجلَى في كل أبعاد الذات الوجدانية وتحولاتها الداخلية لكل فرد في المجتمع في وعيه.. وإدراكه.. وتحليله؛ لان الثقافة هي عطاء ذاتي للحياة؛ وان العصر الذي يعطل هذه الحقيقة ما هي إلا محاولة لتغيب الرؤية الشمولية للحياة وتجزيئه وتفكيكه وعلى كل المستويات الحياة ولا سيما في مجال المعرفة والتفكير؛ لان ثقافة العولمة عملت على تفكيك كل قيم الإنسانية لتخلق فوضى خلاقة في كل مجالات الثقافة الإنسانية؛ لأنها تعمل ضد تنمية الذكاء والتفكير؛ لكونها تسعى إلى نشر ثقافة الأفعال والأعمال العبثية الغير المجدية في الحياة الاجتماعية؛ لتخلق مجتمعات تستهدفها بثقافة (التشيؤ) و(الاغتراب)، ليجد الإنسان نفسه محاصرا بالتشيؤ.. والضياع.. والقهر.. والجمود الثقافي والوجداني؛ بعد إن عملت ثقافة العولمة على مصادرة الوعي.. والحرية.. والكرامة الإنسانية؛ لتجعله خاضع تحت ثقافة الاستسلام.. والاتكال.. والطاعة.. والانصياع؛ لان (صنمية التشيؤ) في النظام الرأسمالي والليبرالي القائم في عولمة العالم جعلت من الإنسان منغلق على ذاته غير قادر على العطاء والتضحية والتعاون مع الأخريين؛ يعاني الاستلاب والاغتراب؛ وهذا الأمر هو الذي وسع من مساحة الخلل وعدم التوازن النفسي للإفراد في المجتمع، لان ثقافة العولمة الليبرالية والرأسمالية هيمنت على العالم بآلية الإنتاج والاستهلاك وجردته من آلية التفكير والوعي والإبداع والرؤية الخلاقة في تعزيز قيم الوطنية والمواطنة والأخلاق؛ لأنها سعت إلى بناء إيديولوجيات سلبية تجرد الإنسان من التفكير وإبداء الرأي ليبقى أسير العبث والتخلف واللامبالاة ليسقط في دائرة (التشيؤ) و(الاغتراب) من حيث يدري ولا يدري؛ لان هذه الثقافة المعولمة للرأسمالية والليبرالية دمرت قيم الأخلاقية للمجتمعات والحضارات وحولت المجتمعات إلى رقم من أرقام القيمة الاستهلاكية لصناعة والإنتاج والإرباح الرأسمالية؛ لدرجة التي أخذت هذه الثقافة تزحف لتأكل الأخضر واليابس من المنظومة الفكرية التقليدية للمجتمعات لدرجة التي تمكنت من إسقاط مفهوم (الهوية الوطنية) عند كل المجتمعات سواء الشرقية منها أو الغربية؛ بل أنها استهدفتها بشكل مباشر؛ لان (هوية المواطن) تبنى بواسطة الثوابت الثقافية التي يعتمدها الإنسان لبناء شخصيته الوطنية؛ لذلك عملت ثقافة العولمة إلى غسل أدمغة البشر بثقافة الانفراد.. والمادة.. والاستهلاك؛ لتقلع جذور الإنسان من أعماق التحضر والأخلاق النبيلة بثقافة السوق الرأسمالي الخاضعة لقيمة العرض والطلب؛ ليحاصر الإنسان بما يرسم له وبما يخطط له في أسلوب الذي يجب علية إتباعه وبطريقة تفكيره؛ وحتى تتدخل في شكل ملابسة واكله وشربه ليصبح الإنسان أسير هذه الدوائر المتخلفة يفيض بمشاعر الاغتراب والانسلاخ من واقع تفكيره الحر.
ما هو مفهوم الحرية التي تصدرها ثقافة العولمة الليبرالية الرأسمالية لشعوب العالم
لان ثقافة العولمة الليبرالية والرأسمالية أقنعت الإنسان بأنه يعيش عالم حر وانفتاح بعولمة العالم؛ ولأكن دون إن توضح له ما هي هذه (الحرية)، أنها حرية اقتناء السلع واللهو والعبث والفردية وحرية الاستهلاك وقضاء الوقت بكل ما هو يضيع تفكير الإنسان بحيث يصبح أسير محيطه لا يستطيع أبداء الرأي أو النقد أو الاعتراض لان ثقافة العولمة بمنطلقاتها الرأسمالية والليبرالية النيوليبرالية لا تحجم (الحرية) فحسب بل تهددها؛ لأنها وفق هذا النظام هي تقوم بحد حرية البعض على حساب حرية البعض الأخر، لتفرز في المجتمع بعض من مظاهر العنصرية بهذا الشكل أو ذاك؛ لان بعض من جوانب التي تدعمها العولمة قد لا يتفق مع رؤية الأخريين، لان (الحرية) في أي مجتمع هو إن يكون المجتمع حرا في استقلاله وسيادته وإرادته غير مستعبد للقوى أجنبية مستعمرة مهما كان نوعها أو شكلها، لان (الحرية) الحقيقية هي إن يكون الإنسان أو المجتمع سيد نفسه؛ يعطون إدارة شؤون الحياة لنخب أحرار المجتمع هم يختارونهم بمحض إرادتهم، وهذه (الحرية) التي يمتلكونها بالمفهوم السياسي تسمى (الديمقراطية) التي تعبر عن طموحات الإفراد والتي تشمل ضمننا حرية التعبير.. والنقد.. والتحرر.. وامتلاك.. ولكن هذا المفهوم الذي توارثته الشعوب عبر حضاراتهم الإنسانية باعتبار إن (الديمقراطية) هي أهم أعمدة لتحقيق (حرية الإنسان)؛ ولكن أمر هذا المفهوم لم يعد كما هو في مفهوم (العولمة) لتصبح الديمقراطية وسيلة لقمع الشعوب والدول ولفرض أساليب خاصة لتحكم بالدول؛ فأية دولة لا تسير وفق مسالكها تضع إمامهم ألاف عراقيل لتعطيل مسيرة الحياة فيها تحت هذه الذريعة أو تلك؛ لأنها ليس لها مقاييس ولا رؤية محددة للديمقراطية في عالم (العولمة)، فما هو ديمقراطي هنا قد لا يكون ديمقراطي هناك؛ لان (ديمقراطية العولمة) يغيب فيها مبدأ تكافئ الفرص في كل ميادين الحياة؛ فالمناضل الذي يسعى تحرير وطنه يعتبرونه إرهابيا؛ والمحتل والمغتصب أراضي الشعوب الساعية للحرية يعتبرون فعله انجازا ديمقراطيا، وبهذه السفسطة اتخذوا من (الحرية) ذريعة للهيمنة والاستعمار بلغة عصرنه؛ وتكون أدواتهم للهيمنة والقمع والتضييق بقوة المال.. والاقتصاد.. والسلاح أو العسكرة، ووفق هذه آلية المشيطنة في ثقافة العولمة الليبرالية والرأسمالية تريد أتابع (الحرية) التي ترسمها لك الرأسمالية وفق قيمها (الأمريكية) التي تغزوا العالم وشعوبها بثقافة العولمة الليبرالية، فاللون الاقتصادي لها تريده طاغيا على كل ألوان الشعوب في العالم؛ لتطال ثقافة الشعوب وخصوصيتهم ومصالحهم وهويتهم القومية والدينية وذلك من اجل تعميم النموذج (الأمريكي) سلوكا وتفكيرا وفرض قيم وأنماط من التفكير والرؤى من اجل أهداف تعمل في خدمتها ليس إلا؛ ليتم غزو ثقافة الشعوب وهويتهم القومية وبتوجيه استعماري لاحتلال العقل وإرادة الشعوب الحرة؛ ليتم مصادرة الضمائر وإنهاكه وانتزاع حضورها وتأثيرها لدرجة التي يصابوا بالشلل في التفكير.. والوعي.. والإرادة؛ ليتم وضعهم في قالب محدد بحدود ثقافة العولمة الليبرالية الرأسمالية؛ وليتم فرض التبعية على الشعوب وإذابتهم في القيم وأنماط العيش والسلوك (الأمريكي)؛ وعبر تنميط العادات والقيم والهويات القومية ومقوماتها الرئيسة من (اللغة) و(الدين) و(التاريخ)؛ لان (عولمة أمريكا للعالم) يأتي في أيطار جعل العالَم عالما واحدا وموجها في إطار حضارة واحدة اقتصاديا.. وتربويا.. ودينيا.. واجتماعيا.. وثقافيا.. وصحيا.. ولغة؛ حيث تفرض (اللغة الانكليزية) فرضا في التعاملات الرسمية ليتم نزع الخصوصية الشخصية من أية امة أو شعب في ظل (الحضارة المعولمة) التي هي (الحضارة الأمريكية) في العالم اجمع .
وهذه هي العولمة وثقافة الليبرالية الرأسمالية وسيلة) الاستعمار الجديد)؛ أبشع من الاستعمار الذي عرفته شعوب عالمنا خلال عشرين قرن الماضية، لأنها ثقافة تسعى إلى صياغة العالم على نمط واحد، ولتحقيق هذا الهدف فإنها ستبيد ثقافات جميع الشعوب؛ وستبيد هويتهم.. وإرادتهم.. وعقولهم.. ونضالهم.. وخصوصيتهم التراثية.. والثقافية.. وعاداتهم.. وتقاليدهم.. وأعرافهم.. ودياناتهم.. وقومياتهم؛ ليصبحوا مجرد شعوب تقطن في مستعمرات معولمة بـ(الرأسمالية الأمريكية) وبشكل ومضمون مصاغ وفق المعايير للثقافية العولمة الليبرالية الرأسمالية وبقوة (أمريكية) التي هي قوة الاستعمارية الجديدة .
التكنولوجيا سحقت الإنسان المعاصر وجردته من قيمه الأخلاقية وجعلته عبدا للمادة بعد تشيؤه
ووفق هذه (الحرية) التي تصدرها ثقافة العولمة الرأسمالية لشعوب العالم وبعد إن استطاعت (تشيؤ) الإنسان؛ فان مفهوم (الحرية) و(الإنسان الحر) و حسب مفهوم (التشيؤ الامريكي) هو أن يتحول الإنسان إلى (شيء) تتمركز أحلامه حول (الأشياء) فحسب؛ فلا يتجاوز السطح المادي وعالم الأشياء التي هي بدا وانتهاء حريته ويكون لها عبيدا ؛ لان (الحرية) الحقيقية للإنسان الحر هو إن يكون سيد الأشياء الذي يتحكم قبضته عليها وعلى حركة الحياة؛ (لا) إن تكون (سلطة الشيء) فوق سلطة الإنسان، ولكن (ثقافة العولمة) جعلت هذا (السيد) عبدا للمادة بعد (تشيؤه)؛ ليتحول إلى رقم مجرد من الأحاسيس والميول الإبداعية والقيم الأخلاقية؛ بعد إن تعمقت بذاته (الفردانية) التي تفرز عنده؛ بأنه أصبح حرا فينطلق لتحقيق المتعة واللذة باعتبارهما عنوان الحياة المعاصرة المعولمة بالرأسمالية والليبرالية؛ وهو (لا) يشعر بأنه أسير التشيؤ؛ فشعوره بهذه (الحرية) ما هو إلا (وهم) يطغي على تفكيره الذي جرد بثقافة العولمة في ظل الثورة التكنولوجية.. والانترنيت.. والموبايل الذي أصبح الصديق الوحيد للإنسان المعاصر يتواصل افتراضيا مع الآخرين في وقت الذي لا يستطيع تواصل مع أفراد أسرته؛ هذه هي مفارقة (الحرية) في عصر العولمة؛ عصر الذي تتسع فيه التكنولوجيا وثورتها المتطورة في كل المجالات الحياة يوما بعد أخر؛ لنجد ثورة السوشيال ميديا.. وثورة الاتصال.. والثورة الرقمية.. وثورة الجينات.. وثورة المعرفة.. وغيرها؛ التي أذهلت الإنسان وفي نفس وقت أرعبته بكونها اليوم هي التي تقوم بهندسة العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمعات ليصبح الإنسان وفق معطيات (الموبايل) الذي يأخذ كل أوقات الإنسان؛ غير قادر على التواصل مع الآخرين في وقت ذاته لا يستطيع الاختلاط واخذ والعطاء معهم وجها لوجه؛ وهذا التناقض في ثقافة العولمة هي من تدمر العلاقات الإنسانية .
وإزاء هذه التطورات والتغييرات الهائلة والفائقة في معاني الحياة ومعالمها يطرح السؤال نفسه:
– هل هذا التطور في خضم هذه الصورة المعاصرة للحضارة الإنسانية خدم قيم الإنسان الأخلاقية وساهم في انتشاله من الضياع……….؟
أم أنه فأقم من تدهور وضع الإنسان وأشعرته بالضياع والاغتراب وهذا ما نلتمسه على ارض الواقع ومن خلال صور واقعية ومشاهدات يومية………!
لنقول إن آليات هذا التقدم التكنولوجي سحقت (الإنسان المعاصر) وحطمته وجردته من قيمه الأخلاقية؛ لان المادة وثقافة العولمة الرأسمالية والليبرالية عملت بكل وسائل إنتاجها إلى تحقيق اكبر قدر من الربح واستثمار المال والسيطرة بوسائل القوة والهيمنة العسكرية والمنافسة اقتصاديات الدول الناشئة لكي لا تقوم عليهم القائمة وليبقوا سوقا لهم لتصريف إنتاجهم، وهذا الجبروت للقوى الرأسمالية وبالنزعة الهمجية عملت (ثقافة العولمة الأمريكية) بكل الوسائل إلى (تشيؤ) و(اغتراب) الإنسان وتدمر معاني الأخلاقية والإنسانية؛ لكي لا يفكر المواطن ابعد من مسافة التي حددته ثقافة العولمة الليبرالية الرأسمالية لكل المجتمعات في هذا العالم؛ وليس لمجتمع ما محدد بذاته؛ وفي هذا المحيط والبيئة – لا محال – فان المواطن يتحول إلى آلة من آليات الماكينة الرأسمالية والليبرالية يدار وفق ما تدار هذه الماكينة، وهذا الوصف يمثل قمة البؤس للمواطن الإنسان الضائع في متاهة العولمة الرأسمالية وثقافته العولمة المزيفة؛ ليعاني الإنسان القهر والضياع الذي فرضه الواقع المعولم على الأوضاع الاجتماعية بضياع الوعي واستلاب الاغتراب الذي أوقعه مجتمعة الصناعي المعاصر فيه؛ لينتزع منه ذاته المستقلة ليعيش فيه كشيء غريب لدرجة التي يحس ويشعر بأنه أصبح غريبا عن نفسه، ولهذا فإنه يصبح شانه شأن الآخرين ويتطابق بكل معطياته وتفكيره وأحلامه إلى حد كبير مع رؤية الآخرين؛ وهذا هو (الاغتراب في الوعي) الذي يعتبر اخطر ظاهرة أفرزتها الثقافة الليبرالية والعولمة الرأسمالية؛ لان تغيب الذات في الإنسان هو الأمر الذي يدفع بالإنسان إلى (الاغتراب) و(التشيؤ)؛ لأنه وفق هذا البناء لثقافة المعولمة بقيم أمريكية والليبرالية يصبح الفرد كائن هامد فاقد المعنى والإرادة والدلالة؛ لأنه كحاصل تحصيل يتحول إلى كيان مادي مجرد؛ أي انه يصبح شيء ككل الأشياء المادية التي تخضع لقوانين المادة الرأسمالية التي تدخل في ثقافة السوق والتسوق والاستهلاك، لتأتي (ثقافة الأمريكية المعولمة للعالم بالليبرالية) تجرد من ذاته قيم الأخلاق والمشاعر الإنسانية وتبدلها وتغيرها بقيم الاستسلام.. والمخادعة.. والعنف.. والجنس.. والرغبة.. واللذة.. والشهوة؛ التي هي عناوين لمفهوم (الثقافة المعولمة) بالليبرالية.. والرأسمالية.. والإنتاج.. والصناعة.. والربح.. والمال.. والإقناع.. والاستهلاك؛ التي جلها دلالات معاصرة في ثقافة التشيؤ والاغتراب والعولمة والليبرالية والرأسمالية المتوحشة، وهذه الدلالات في عالمنا المعاصر هي صورة للإنسان المتشيؤ في قيم الليبرالية والعولمة والتي أصبحت صورة المجتمعات الرأسمالية المعولمة للعالم اجمع بامتياز والتي غيبت بشكل واضح معاني الحياة التي كانت ما قبل العولمة الليبرالي التي اتسمت فيها الإنسانية بثقافة الوعي.. والعقل.. والإدراك.. والمشاعر.. والأخلاق.. والفلسفة.. والتربية الفنية.. والأدبية.. وامتلاك المعارف الفكرية والعلمية الأساسية حول الدين.. والخير.. والحق.. والعدل.. والجمال.. والانفتاح على ثقافة الآخرين .
ولهذا لابد للمجتمعات المعاصرة إعادة النظر في مقومات الإنسانية لكي لا تضيع قيم الأخلاق وان نضع حد لزحف ثقافة العولمة الأمريكية الليبرالية في مجتمعات العالم؛ لكي (لا) تتراجع دور الإنسانية في بناء الأمن والسلم المجتمعي؛ وذلك بقيم تقبل الآخر.. ونشر الوعي.. والتربية.. والأخلاق.. والعدل.. والعلم.. والمعرفة في مؤسسات المجتمع التربوية والتعليمة منها تحديدا، لان القيم المادية وثقافة العولمة والليبرالية تدفع الإنسان إلى (الاغتراب) والى جحيم (التشيؤ) التي تحاول تجفيف منابع الوعي والأخلاق من ذات الإنسان لإحياء قيم غريبة عن قيم الأصالة الإنسانية الحقيقية بنوازع اللذة والشهوة الآنية.
لأننا إذ تركنا اتجاهات الحياة تسقط في رغبات ومطالب السوق الرأسمالية (الأمريكية) وثقافة العولمة التي تسعى إلى بناء قيم الاستهلاك وتنميطه الإنسان بقيم السوق الرأسمالية التي تعمل على سحق الإنسان بسطوة الآلة و رأس المال من اجل البقاء للأقوى؛ ومن خلال تجارة السوق والية المعلوماتية؛ فان (ثقافة العولمة الأمريكية) لا محال ستنال من كرامة الإنسان ولإنسانيته؛ لان الأيديولوجيات التي تتبناها وتصدرها ثقافة (العولمة الليبرالية والرأسمالية الأمريكية) تعمل إلى تحويل المجتمعات إلى مجرد كائنات مشيئة للمتعة الصناعية في عصر ليس فيه سوى الدعاية والإعلان الرأسمالية وقيمة للعرض والطلب؛ وهي تريد وتسعى بكل بوسائلها القذرة إلى (تنشئة الأجيال) منذ نعومة أظافرهم تحت هذه الإيديولوجية؛ فتعمل ثقافة العولمة الليبرالية الرأسمالية في نشر ثقافة السلعة والتسويق والربح لغسل أدمغة الشباب في كل المجتمعات وترويضهم على قيم الاستهلاك.. واللذة.. والمتعة.. وتكنولوجيا الانترنيت.. والموبايل.. والإثارة والتشويق في معاملات التسوق؛ ليعش ضائعا في عالم افتراضي لا حياة له؛ لكي تمحي من عقل الإنسان أي اعتراض أو ممانعة .
وهذه الثقافة التي تسعى العولمة الليبرالية الرأسمالية نشرها في المجتمعات غايتها تعطل ملكة التفكير عند الإنسان وتحديدا الشباب منهم ليفقدوا الدلالة المعرفية اليقينية؛ لتكون حياتهم محض تصور خيالي وافتراضي لا يتفاعلون إلا بالصور استعراضية.. والحركة.. واللون.. وبتشكيلات خداع البصر؛ ليتم تعظيم الأحداث عبر هذه الآلية التكنولوجية في أذهانهم وتخيلاتهم لينفصلوا كليا عن العالم الحقيقي الواقعي وعن المواضيع الفكرية الهادفة؛ لان الحياة الحقيقية ليست أبدا صور وافتراضات؛ بل هي علاقات اجتماعية بين الإنسان والحياة الواقعية، ولكن للأسف غيرت (ثقافة العولمة) هذه المعايير لتهيمن (المادة) على العلاقات الاجتماعية لتحول الفرد إلى كائن تهيمن عليه ثقافة السوق.. والتسوق.. والاستهلاك.. والامتلاك.. والربح.. والخسارة؛ لان ثقافة العولمة لليبرالية والرأسمالية اختزلت المعرفة بالإبعاد التكنولوجية وعالم الافتراضي والرقمي، فيأخذ منها المعلومات وهي معارف غير حقيقية تفتقر إلى الموضوعية والذاتية الواعية؛ لتطبع هويته بهذه العناصر والتي تكون جزء من شخصية الفرد؛ وهذه الثقافة التي تأخذ بهذا الشكل (الافتراضي) هي لا محال تؤدي إلى تدمير القدرات الذهنية والإحساس والذكاء لأنها ثقافة منفصلة عن الواقع الحياة لا تحمل الدلالات المعرفية؛ لتكون الثقافة بعيدة عن قيم الإنسانية وأخلاق العامة للمجتمعات؛ وهي بالتالي ثقافة تفتقد إلى الرؤية الشمولية؛ لأنها ثقافة منشطرة ومجزئة في كل مجالات التي تتبناها وتطرحها وخاصة في مجالات (المعرفة الإنسانية)؛ لان ثقافة العولمة الليبرالية الرأسمالية هي ثقافة الفوضى الفكرية بلا دلالة.. وبلا ذكاء.. وبلا فهم.. وبلا قيم؛ وبالتالي فإن كل الصيغ التي توظفها هذه الثقافة غايتها هو (التحرر) التي تنطلق بها ثقافة العولمة الليبرالية؛ ولكن هذا (التحرر) هو (تحرر شكلي) خالي من أي مضمون أنساني أخلاقي ولا ينتج عنه إبداع فكري ولا يولد عنه إنتاج طاقة إبداعية حيوية يملئه قيم ومشاعر وأحاسيس، انه مفهوم مجرد بلا معنى وهدفه هو التحرر من الالتزام الأخلاقي ومن كل القيم الإنسانية من الحرية.. والإخلاص.. والتعاون.. والتضحية.. وتقبل الآخرين ومساعدتهم؛ ولهذا فان هذا (التحرر) في ثقافة العولمة الليبرالية التي تدعوا إليه ثقافة العولمة الليبرالية الرأسمالية الأمريكية ما هو إلا ثقافة تؤدي إلى ولادة صيغ من الثقافة لتدمير الذاتي للفرد في داخل بنية المجتمع؛ لنجد كيف تعاني المجتمعات الإنسانية المعاصرة من ثقافة التشيؤ.. والاغتراب.. والاستلاب المدمرة.. ومن حصار القهر.. والجمود الوجداني.. والضياع.. والاستسلام.. والانصياع.. والغيبية.. والابتذال.. والانحدار.. والانتحار، بعد إن استطاعت ثقافة الحداثة المعولمة من مصادرة الوعي.. والحرية.. والكرامة.. وتغييب كل القيم الأخلاقية النبيلة والإنسانية ومفاهيم الديمقراطية الحقيقية؛ لان ثقافة العولمة الليبرالية الرأسمالية عملت على تحويل الإنسان إلى قيمة استهلاكية منسلخ عن واقعة الإنساني؛ ليعيش وحيدا.. طريدا.. ضائعا.. غريبا في عالم غريب تفيض مشاعره وأحاسيسه بشعور الغربة.. والاغتراب. والتشيؤ.. والاستلاب.. والضياع؛ منسلخ من وعن جذوره الإنسانية .