يعكوب أبونا
بعد وفاة مار شمعون أوراهام 1861 ، ترأس السدة البطريركية شمعون السادس عشر روئيل، والسادس بسلسلة بطاركة قوجانس ، حسب قانون الوراثة المتبع في الكنيسة .
يذكر المطران إيليا أبونا في كتابه تاريخ بطاركة البيت الابوي ، ص 131 ، البطريرك شمعون روئيل هو ابن بنيامين اخي البطريرك اوراهام ، وكان ولي عهد الكرسي البطريركي ، وكان لبنيامين ابن اخ اسمه إيشاي وبنت اسمها سولطي ، وكانت هي الاخرى منذورة كشقيقها البطريرك ، ولم تتزوج، وحافظت على بتوليتها، الكل كان يمتدح حصافتها وعقلها ووداعتها وسلوكها واخلاقها الحميدة لما تمتاز به من فضائل وايمانها الحي وحبها الكبير للناس جميعا ، وقد عاشت عمرا طويلا امضته بالاعمال الصالحة متصفة بكل السجايا الحسنة ، حتى وفاتها ، وقد بكى لها كل أبناء الامة، فذكراها بفضائلها وبصفاتها واخلاقها الحميدة ظلت حية في اذهانهم ،.
كان شقيقها إيشاي هو الاخر معروف عنه تمتعه بخصائص حميدة وفضائلها وحصافتها ، كان قد تربى على الوداعة ومخافة الله ، وعلى الايمان الحي ، وكان بارا امام الله ، صبورا قويا في ايمانه محبا لبني امته وكنيسته.
ارسل في مهام كنسية وهو بعز شبابه الى مدينة اورميا، هناك تمرض ورغم الجهود الطبية التي بذلت الا انها لم تجدي نفعا، فاشتد مرضه فأسلم نفسه لربه في اورميا ، ودفن في احتفال كبير مهيب حضره اعضاء الاكليروس ، بمشاركة حاكم مدينة اورميا نيابة عن الشاه الايراني ، وبمشاركة اجواق الموسيقى الملكية الايرانية ، الى جانب أجواق ومرتلين الصلوات الخاصة من ابناء الكنيسة.
في سنة 1868 أمر البابا بيوس التاسع بعقد مجمع مسكوني ، فوجه الرسائل الى كل البطاركة والاساقفة في العالم ودعاهم لحضور المجمع المذكور ، وكان ضمن المدعويين مار شمعون روئيل ،لحضور المجمع ، كما ان البطريرك يوسف أودو هو الآخر وجه رسالة باسمه الى البطريرك شمعون وطلب منه التوجه الى روما والرسالتان هاتان ارسلتا بأيدي ساعيين خاصين فحمل رسالة البابا الباتري بطرس أحد اعضاء الإرسالية الدومينيكانية. اما رسالة البطريرك يوسف اودو فقد حملها الى مار شمعون القس منصور بولس ملسابو الألقوشي ، وتوجه الاثنان سوية الى قودشانوس ففرح مار شمعون البطريرك وسر بهما واستقبلهما بوقار واحترام بالغين، ووعدهم بالسفر معهم الا أن المرحوم بنيامين والده منعه من السفر كما افاد المرسلان المذكوران .. ” المصدر رحلة سكماني 1869- 1871 تحقيق بنيامين حداد ص 26 و27″.
كان الناس يمتدحون قداسة البطريرك مار شمعون ويصفونه بالرجل الفاضل والغني بالمعرفة. كان مسيحيا حقيقيا يمتاز بلطف في خطابه وبقلبه الطاهر وبسلوكه الحميد وكان رجل سلام غيورا، يعمل من أجل استتباب الأمن والطمأنينة، كان الكل يشهد له بهذه الخصائل ، وحتى الغرباء منهم شهدوا له واعترفوا بامتلاكه لمثل هذه السجايا الحميدة.
عندما تيتم ابناء عمّي البطريرك ،اسحق وناثان ، هم ابيشالوم وشموئيل ونمرود وشليمون واوراهام ابناء اسحق، وهم صغار ، وكذلك يوحنان واونا وقيصر أبناء ناثان فتكفلهم مار شمعون روئيل وشملهم بعطفه وحنانه، واعالهم ويسر لهم كل احتياجاتهم ، ولم يكن يفرق بينهم وبين ابناء أخيه شيء سواء كان ذلك في اورميا او في قودشانوس حتى سن البلوغ وكمال رجولتهم، فلقد طعمواعلى مائدته كأبناء اخيه .
اما هم فكانوا لا ينفكون عن الكلام في موضوع البطريركية وعن توجيه اللوم والمذمة الى الذات البطريركية ويسيئون الى سمعته محاولة منهم لنقل البطريركية الى بيتهم، لذلك نذروا اوراهام ابن اسحق كالعادة المتبعة في الاسرة ، وطلبوا من البطريرك أن يضع يده عليه ويمنحه الرتبة الميرافوليطية . فاتوا باورهام ومنحه البطريرك الرتبه المذكورة على ابرشية ” سرى “.
كانت هذه الابرشية افضل واجمل كل الابرشيات، اذ كانت تمتاز بوفرة محاصيلها الزراعية، وبغنى اهلها .
ويتحدث عنها المطران ايليا ابونا في ص 135 من كتابه اعلاه يقول ، انني قد اطلعت بنفسي على هذه الأبرشية ومكثت فيها لفترة ثلاث سنوات قبل طوفان الحرب العالمية سنة 1914م التي دمرتها تماما ،.
لقد كانت هذه الابرشية غنية جدا في الفترة التي تسلمها مار اوراهام، كانت اكثر غنى من الفترة التي مكثت انا فيها ومع ذلك فقد غادرها مار اوراهام ولم يمكث فيها سوى فترة قصيرة عاد بعدها الى بيت ابيه في قودشانوس، ويعلل المطران ايليا أبونا، سبب ترك مار اوراها ابرشيته ، بان كانت له وعائلته نية سلخ البطريركية من بيت عمه والحاقها بكنيسة روما، وشيئا فشيئا بدأت تظهره تلك النية من خلال اعتراضاتهم على ارادة البطريرك وبخاصة نمرود الذي وقف بوجه البطريرك بشكل سافر وراح يخالفه معترضا على كل اجراءاته علانية، .
كان نمرود يعتبر الأذكى في بيت أبيه فقد ترأس ادارة هذا البيت ولم يتوقف عن توجيه اللوم والمذمة الى ذات البطريرك،
كان نمرود معروفا لدى زعماء الاكراد ولدى كبار المسؤولين العسكريين والحكام في المملكة التركية، لان البيت البطريركي كان بمثابة دار ضيافة لكل عابري السبيل من بلاد ” عيلام” وحتى مدينة “وان” وكان نمرود هذا يجالس الضيوف الذين يحلون في بيتهم البطريركي دائما ،.
يذهب الكاتبان ، ل .ك. ومار يوحنا . في تاريخ الآثوريين جـ ١
ترجمة اسامة نعمان ص ۲۹ – ۳۲
” بالإمكان تقسيم الآثوريين القاطنين في منطقة حكاري والمنطقة المسماة بيث نهرين جنوب شرق الأناضول – شمال “العراق الى ثلاثة مجاميع.
الآثوريون المستقلون وشبه المستقلين ، وغير المستقلين. وكانت مجموعة المستقلين تتصل بالباب العالي في استنبول عن طريق البطريرك في قودشانوس لعدم وجود ادارة عثمانية في مناطقهم، حيث كان هؤلاء يتمتعون باستقلال ذاتي .
والآثوريون شبه المستقلين فقد عاشوا مجاميع تطبق عليهم بعض القوانين العثمانية. أما غير المستقلين فكانوا يخضعون لقوانين الدولة العثمانية مباشرة .كان المستقلون من الآثوريين يعيشون في ممالك خاصة مستقلة منها ،ديز، جيلو، باز، تخوما ، وتباري العليا، وتياري السفلى”.
أما الآثوريون شبه المستقلين فقد عاشوا في شمال العراق وفي جنوب شرق الأناضول فى مقاطعات و مدن مثل “ماردين، اورفا “الرها”، نصيبين، ديار بكر ، سرا غاور شمدينان…
ويقدر مجموع الأثوريبن الجبليين القاطنين ضمن مملكة العثمانية 750 – 941 الف اثوري .
أما في ايران فقد كان مجمل عدد الآثوريين في منطقة “اورميا” وغيرها حوالى 74 الف اثوري .”..انتهى الاقتباس.
في عام 1885 شكل السلطان عبد الحميد الثاني كتائب شبه نظامية من العشائر الكردية ، لتقف بوجه الجيش الروسي ، الا انها استخدمت في القضاء على الثورة الارمنية التي اندلعت عام 1894 – 1896 م في قضاء زيتون التابع للواء الموصل ، فارتكبت هذه الكتائب ابشع الجرائم بحق الارمن ،فقتل منهم ما بين 200 – 300 الف شخص ، لتمتد جرائم الكتائب في القتل والدمار والخراب ، لتتحول الى حرب عرقية ضد المسيحيين عموما وبحق شعبنا الاشوري ليقتل اكثر من ( 55 ) الف شهيد في ماردين والرها وتشريد آلاف العوائل.
من نتائج هذه الحروب والمذابح التي عرفت بالمجازر الحميدية ، ولما كان يعانيه شعبنا من الظروف القهرية ، وما تعرضوا له من اذلال بسبب انتمائهم الديني والقومي ، وبسبب فرض الضرائب المرتفعة التي انهكتهم ، وجد البعض بأنه قد يكون من الممكن التخلص من هذه الظروف الصعبة بانتمائهم للكنيسة الارثوذكسية الروسية ، فانضم بحدود تسعة آلاف شخص الى الكنيسة المذكوره في عام 1898م .
كان نجاح الروس في كسب الاشوريين ، خساره للانكليز والامريكان فسبب لهم حرجا ، فوحدوا خطابهم ، فأخذوا يهددون مار شمعون عن حقيقة ما جرى ، كما تم تهديده من محافظ ( وان ) والسلطات الايرانية كذلك ، وكما يظهر لاحقا بأن اعمال الإرساليات الروسية لم تكن احسن من الارساليات والمبشرين الامريكان والانكليز ، فكان وضع الاشوريين قبل الحرب العالمية الاولى منقسما على مذاهب مختلفة ،
لذا نجد ان المذابح التي ارتكبت بحق الاشوريين في ديار بكر وماردين واورفه وغيرها عام 1895 – 1896 لم يقم احد من الاشوريين في المناطق الاخرى بمساعتهم او نجدتهم ، بسبب تلك الخلافات المذهبية التي ادت الى صراعات بين السريان والنساطرة واليعاقبة والكلدان .
وادت الى ضعفهم جميعا في المقاومة واستحصال حقوقهم كغيرهم ، ولا زالت تلك الصراعات للاسف قائمة بشكل او باخر ليومنا هذا.
كان نمرود رجلا لبقاً يجيد معاملة كل أصناف الضيوف، والضيوف الذين كانوا يحلون في هذا البيت كانوا بدورهم يحبونه ويحترمونه احترامهم لمكانة هذا البيت ويعطونه اذنا صاغية لكل ما يقوله وما يحدثهم به كان شجاعاً جريئا يتكلم بلا خوف ولا وجل مع كل الناس .
ذاع صيته بين ابناء الأمة وزاد احترامه وارتفعت منزلته أكثر من كل إخوته وبني بيته .
يقول المطران ايليا ابونا لكي لا نطيل نقول: ان ابناء هذا البيت خرجوا عن وقارهم واغتروا بأنفسهم وطفقوا يعملون ضد البطريرك وضد كنيسته، وراحوا يمزقون وحدة الشعب وينشئون تكتلات مضادة للبطريرك في قودشانوس وبين ابناء العشائر الأخرى، وعملوا جهدهم لشق وحدة الكنيسة والأمة.
ويقول: هكذا دفع الطمع بهؤلاء الشباب للارتماء في أحضان أم غريبة وتركوا امهم الحقيقية الحنونة العطوفة، وراحوا يكاتبون رؤساء الكنيسة الجديدة ويحثوهم على فتح مراكز ارساليات بين ظهرانيهم وبواسطتهم.
وكان موقف البطريرك ببراءته واستقامته ونقاوة سريرته وصفاء نيته لم يمنع دخول الارساليات بين ابناء شعب كنيسته، وانما ساعدهم وتوسط لهم لدى المسؤول الرسمي للمملك في المحكمة الخاصة بذلك إذ أيد ووقع بختمه الخاص،
ولقد شهد واعترف بهذا المرسلون انفسهم، وامتدحوا وداعته ومحبته لكل المسيحيين دون تمييز.
السؤال: الرجل الذي هذه صفاته، وخصائله واخلاقه ، هل يمكن ان يكون قاسيا ومتزمتا لبني جنسه؟ ، بل محبا لهم.
لكنهم بيت نمرود قابلوا كل ذلك بنية خبيثة وأفكار ماكرة وبسبل ملتوية واهداف شريرة وبالغش والخداع، فاغتروا بانفسهم وبقوتهم، وتباهوا وزرعوا بذور الانشقاقات والانقسامات في صفوف ابناء الكنيسة والأمة ، وتصوروا أنهم ينجحون، بأن يتبوأوا رئاسة الكنيسة ولم ينتظروها لتأتيهم في أوانها، ولم يتذكروا كلام النبي القائل: اذا الرب لم يبني البيت عبنا يتعب البناؤون.. مزمور 126 :1.
لقد امعنوا في تنغيص حياة البطريرك واغاظوه بمكرهم وخداعهم، وجزاء خيره قابلوه بالشر، وبالبغضاء والأذى وتنكروا لحبه لهم ولشفقته عليهم ولكل ما فعله من أجلهم، فسعوا جاهدين لإزاحته عن كرسيه ليعتلوه هم، وإذ علم نمرود واخوته ومار اوراهام ورفاقه، أن الدنانير الذهبية ستنهال عليهم، بادروا مسرعين بالتوجه الى الموصل والفرح يملؤهم، وهناك انحنوا وسجدوا امام كرسي البطريرك ” الكلداني “طالبين منحهم بركاته المقدسة، فاحتضنهم ومنحهم قبلاته الأبوية .
وراحوا يروون له ما عانوه من تعب الطريق، وعن المسافات الطويلة التي قطعوها، يدفعهم شوقهم الشديد وحبهم وتوقهم الكبيران للكنيسة المقدسة كنيسة روما وايمانها المستقيم الممجد وافصحوا له قائلين: هذا هو السبب الذي جعلنا نخلف آباءنا واخوتنا وابناءنا واقاربنا وراءنا ونشد الرحال اليك وكان الآخرون يردون عليهم قائلين: أجل ايها الأبناء الأحبة، هذه هي الكنيسة الكاثوليكية الحقة، هذه هي الكنيسة التي أبواب جهنم لا تغلبها .
لقد أعمت كثرة المال بصيرة نمرود ورفاقه، وطربوا لصوته الرنان، وأخذهم الحماس وراحوا يقرأون في آذان البطريرك قائلين: بإذن الله ومشيئته، ستقبل جموع الجبليين اجواقا لاجئين اليكم ومقدمين طاعتهم امام عرش سيادتكم بعد فترة وجيزة .
بعد ذلك ارسل المبشرون الى القرى للتبشير، واعتلى الوعاظ منابر الكنائس. وارسلت البرقيات الى بابا روما تبشره بأن عشرات الآلاف من الهراطقة ، دخلوا حظيرة كنيستك وتقبلوا ايمانك واعترفوا بتعاليمك، وكفروا بكنيستهم وبإيمانهم، وتركوا الضلال، وتنكروا لتقليد ابائهم وآمنوا واعترفوا بأن كنيسة روما هي ام كنائس العالم..
وكان اهل بيت نمرود يتغامزون لبعضهم البعض، ويقولون: عما قليل يقبل مبشرو الغرب وايديهم مليئة بالهبات والهدايا الذهبية فضلا عن سعادتهم وسرورهم بانتصارهم على خصومهم، وتيقنهم من أن البطريركية قد غدت من نصيبهم. فكانوا يتنعمون بلذائذ الطعام والشراب، ويملؤهم الفرح والسرور، وتعمر نفوسهم السعادة..
في هذا الوقت الحرج من تاريخ الكنيسة توفي البطريرك شمعون روئيل على إثر سقوطه من على ظهر فرسه في شهر تشرين الثاني 1902. وأصابه الشلل النصفي نتيجة النزف الدموي الذي أصابه. وقد اشرف على علاجه الدكتور المعروف آنذاك أوشانا الذي قدم من أورميا إلى قوشانوس لمعالجته. لكن البطريرك مار روئيل شمعون توفي متأثراً بإصابته يوم 29 آذار 1903.
إلا أن البطريرك كان في يوم 15 آذار 1903 قد قام برسامة بنيامين إلى درجة المطران ، الذي كان منذورا للكرسي البطريركي، و ناطر كرسي ،كما كان مار أوراها إلا أن الأخير كان منشغلا في الموصل مع بقية أفراد آل نمرود ومار يهبالاها أسقف برواري لبحث إمكانية الاتحاد مع الكنيسة الكلدانية ، وليكون هو ممثل كنيسة روما.
انتشر خبر وفاة البطريرك بين ابناء الأمة كلها، فتسربلوا بلباس الأسى والحزن، واجتمع ابناؤه من كل القبائل ، وشيعوه بالصلوات والتراتيل والترانيم الشجية الحزينة ،ووضع تابوته في الجانب الغربي من كنيسة مار شليطا الى جانب البطاركة أسلافه.
في الحلقة القادمة نتحدث عن ما حققه نمرود وجماعته بتعاونهم مع الكنيسة الكاثوليكية، ولله في خلقه شؤون.