زوعا اورغ/ متابعات
وحيدا يعيش مجدي النقاش، ذو الخمسين عاما، بمنزله الذي ورثه عن جده في المدينة القديمة بالموصل، والذي عاد اليه عقب نحو اربعة سنوات من تركه مضطراً صيف عام 2014 عقب سيطرة تنظيم الدولة الاسلامية “داعش” على الموصل. هو المسيحي الوحيد الذي عاد الى الحي الذي يضم كنيسة قديمة شهيرة وعشرات من بيوت المسيحيين التي اضحت فارغة بعد أن هجرها أهلها.
بيته الشرقي المبني على الطراز الموصلي القديم، نجا من الحرب التي اتت على عشرات المنازل القريبة. لكن جدرانه التي طالتها التصدعات، تحكي قصص المعارك الدامية التي دارت هناك ومآسي العوائل التي دفنت كاملة تحت ركام صواريخ التحالف الدولي وقنابر هاون تنظيم داعش.
يقول مجدي وهو يجر كرسيا الى الجانب المشمس من باحة المنزل: ” ذكريات الطفولة وجلسة العصرية التي كنا نجتمع فيها مع العائلة في الحوش هي من تسليني في وحدتي.. لم يعد هناك أحد غيري هنا لقد رحل الجميع”.
عيناه الشاحبتان عكستا الالم الذي تخفيانه، وهو يقول ” تعلقي بالمدينة القديمة حيث ولدت منعني من الإقدام على الهجرة”، مضيفا “هاجر جميع اهلي غير اني وجدت الأهل في جيراني المسلمين”.
لم يعد الغالبية الساحقة من المسيحيين الذي تركوا مدينة الموصل خلال السنوات الأخيرة خاصة اولئك الذين غادروها سريعا في الساعات التي اعقبت سيطرة داعش على الموصل، فالأوضاع الاقتصادية السيئة وغياب الخدمات وعدم بدء حملات الاعمار وضبابية المستقبل، عوامل متداخلة لم تشجع المسيحيين على العودة لمدينتهم التي تكاد تخلو تماما منهم بعد قرون من الوجود القوي والمؤثر فيها، بحسب نشطاء مدنيين ومثقفين.
في بيته الذي يسوده الهدوء التام، يعيش النقاش بلا زوجة او اطفال. أخبرنا بأنه لم يستطع الزواج وتكوين اسرة بسبب سوء الاوضاع الامنية والاقتصادية طوال أكثر من عقدين من الزمن شهدا حصارا وحروبا، معربا عن اسفه لما حل به ولخسارته لعمله الذي ورثه عن عائلته في معمل لصنع حجر الحلان والذي تم بيعه وتقاسم التركة بين الاخوة.
خارج المنزل كانت اكوام الحجارة المرصوصة بطريقة توحي للرائي من بعيد أن لا حياة في هذه البقعة التي يلفها الدمار. لكن الصمت الجاثم تكسره زقزقة عصافير “طيور الحب” الاتية من بيت الجيران لتحيي الأمل بأن الحياة ما زالت تتنفس هنا مع اشعة الشمس التي اضفت لونا ذهبيا على بقايا المنازل المبنية من الجص والحجر.
أحياء خالية وأخرى مدمرة
المدينة القديمة التي وسعت ازقتها الضيقة طوال قرون مختلف الطوائف، يغيب عنها اليوم معظم ساكنيها من مسلمين ومسيحيين، بعد الدمار الذي لحق بها بفعل العمليات العسكرية التي خاضتها القوات العراقية بمساندة قوات التحالف لتحريرها من سطوة داعش – اخر معاقله – صيف عام 2017 .
بساحل يمتد على طول 4 كليومترات تقريبا من الجهة الغربية لنهر دجلة الذي يشطر المدينة الى نصفين تقع المدينة القديمة قلب الموصل وأصل طلعتها. أحياء ملتوية ومتداخلة، وبيوت عتيقة مبنية من الحجر، وأزقة ضيقة مترابطة، كانت قبل عقود تضم ثلاث ديانات مختلفة يعيشون بتناغم وتكامل كبيرين.
تقول ام ليث التي قارب عمرها الثمانين عاما “عندما كنت صغيرة كنت لا اشتري الشامية والسسي الا من زكية جارتنا اليهودية… ما زلت أذكرها…. لقد غادروا جميعا منذ سنوات بعيدة لم يعد لهم وجود”.
في النصف الاول للقرن الماضي، كان المسلمون ينتشرون في احياء الفاروق والمنصورية والسرجخانة بينما يقطن المسيحيون مناطق خزرج والميدان وفيما كان لليهود حضور في محلة اليهود (الاحمدية حاليا) الا ان المدينة القديمة فقدت هذه الطائفة شيئا فشيئا حتى وصولنا الى العام 1952 متمثلة بأخر هجرة يهودية من العراق بعد قانون اسقاط الجنسية عنهم العام 1950 والمنشور بجريدة الوقائع العراقية (ذات العدد 2816 بتاريخ 9/3/1950).
أزقة المدينة القديمة، حافظت في السنوات الخمسين اللاحقة على وجود قوي للطائفة المسيحية، لكنها هي الاخرى بدأت بهجرها عقب الاحداث المتتالية بدءا من غزو العراق 2003 وصولا الى العام 2014 بغزو تنظيم الدولة الاسلامية “داعش” للموصل، حيث فقدت المدينة القديمة اخر سكانها المسيحيين.
الخير بمن حضر
على الرغم من ضعف الامدادات الحكومية لاعادة بناء المدينة القديمة من جهة وغياب المشاريع الحكومية لمد جسور الثقة بين مكوناتها من جهة اخرى، الا ان مجدي النقاش قرر ومع اسعادة المدينة من قبضة داعش، العودة من جديد الى داره في حي السرجخانة المتاخم لكنيسة الساعة التي تقف شاخصة وسط الدمار.
يقول مجدي ” عشت اوضاعا صعبة في مخيم الكرفانات HT2 بعيدا عن اهلي وداري”. واضاف “كنت اعد الليالي حتى اتمكن من رؤية الموصل مرة اخرى”.
النقاش وبقية المسيحيين كانوا قد تعرضوا للتهجير القسري بعدما أحكم التنظيم سيطرته على الموصل، وقراره بارغامهم على دفع الجزية او اعتناق الاسلام مقابل السماح لهم بالبقاء في المدينة.
“اتصل بي جاري ابو حسن بعد ان سمع بالخبر وسألني ماذا سأفعل” هذا ما قاله مجدي وهو ينفث دخان سيكارته الثالثة في غضون عشر دقائق ، مستدركا “كانت نبرة الاسف تعلو صوت جاري، قال لي اذهب وانج بنفسك أنا آسف لما يحصل … محاولا التخفيف عني”.
كان يقدر عدد المسيحيين في مدينة الموصل بنحو 50,000 مسيحي بحسب الأب “عمانؤيل كلو” الا ان المدينة خلت منهم تماما عقب احداث 2014. وبعد تحرير المدينة شجع المسلمون المسيحيين للعودة الى المدينة عبر اطلاق العديد من المبادرات الترغيبية للعائلات المغادرة، والتي زرعت شيئا من الأمل بعودتهم لكن الواقع الخدمي والاقتصادي السيء ظل له كلمة الفصل.
يذكر احمد المعاضيدي طالب ادارة اعمال في المرحلة الاخيرة بأنه وزملاؤه قد شاركوا بالعديد من حملات تنظيف الكنائس التي تبنتها فرق تطوعية عديدة.
وكان من بين هذه الكنائس كنيسة قلب يسوع الاقدس في قضاء تلكيف شمالي الموصل والتي تعد ثاني اكبر كنيسة بالشرق الاوسط ويعود تاريخ بنائها للعام 1912.
وفي سبيل اعادة الثقة يقول المعاضيدي ” شاركت مع جمعية الامل العراقية باقامة اول قداس في كنيسة مارتوما في منطقة خزرج بالمدينة القديمة”، مشيرا الى ان هذه الخطوة جاءت مكملة لسلسلة حملات تحمل في طياتها رسائل حب وسلام للاخوة المسيحيين للمطالبة بعودتهم إلى مناطقهم، وقد شارك في القداس جمع غفير من اهالي المنطقة وعدد من مسيحيي برطلة والحمدانية.
هددوها بترك منزلها او القتل
على الجانب الاخر من النهر كان المشهد اخف وطأة اذ يبدو ان الساحل الايسر قد ضمد جراحه سريعا والحياة فيه عادت لطبيعتها الاولى من نشاط وحركة عمرانية وتجارية ليخلق توازن في مدينة تصارع للبقاء على شفا جرف كبير.
ام هيثم، وهي سيدة في عقدها السادس، من منطقة الحي العربي، كانت ترش “باب الحوش” بالماء، كعادة عكفت عليها الموصليات كل صباح، تقول معلقة على غياب جيرانها المسلمين “هاجرت صديقتي فريال المسيحية قبل احتلال داعش بقليل لتعرضها لعدد من التهديدات من قبل الارهابيين (مجموعات مسلحة اخضعت الموصل لحكمها غير المعلن لسنوات)” .
واضافت “كنا انا وفريال صديقتين منذ الطفولة عندما كنا في منطقة خزرج بأيمن الموصل … واصبحنا بعدها جيرانا هنا في الحي العربي. اضطرت فريال لترك الموصل خوفا على حياتها ووضعت البيت بأمانتي”.
محاولات داعش بعد احتلاله الموصل لافراغها من التنوع الذي كانت تتميز به لم تكن الأولى، اذ تعرض المسيحيون لتهديدات عدة من قبل المجاميع الارهابية بفعل الانفلات الأمني الذي ساد المدينة من 2005 ولغاية سيطرة تنظيم داعش عليها في حزيران 2014.
“اضطرت فريال للمبيت والبقاء في منزلنا سبعة اشهربعد ان وضع الارهابيون رسالة على بابها في العام 2013”. هذا ما اخبرتنا به ام هيثم وهي تمسح عن خديها دموع الحسرة والاسف على صديقتها المهاجرة، مؤكدة ان فريال تلقت رسائل تهديد عديدة قبل العام 2014 “كانوا يطالبونها بترك البيت ودفع مبلغ من المال، كانت فريال تعمل في مختبر للتحليلات المرضية وكانت تعيش وحيدة في منزلها ما جعل زوجي يطلب من فريال البقاء لدينا خوفا على حياتها”.
الدخيل من يهدم … والأصيل من يبني
“لم يكن الشعب العراقي عموما والموصلي خصوصا يعرف للفرقة طريقا”، بحسب الدكتورة ذكرى الطائي استاذ علم النفس التربوي في جامعة الموصل.
تقول الطائي ان ما مر على العراق من حروب وويلات ساعدت على بروز المشاكل الراهنة على السطح. وتضيف “يجب علينا ان نقر ونعترف باخطائنا … أخطائنا جميعا لنعيش بسلام كما كنا”.
وتتابع: “المجتمع الذي يتمتع بروابط قوية يميل للإستقرار والتنمية ويتمتع بقدرة على مواجهة الازمات سواء كانت اقتصادية او امنية او مجتمعية” بعكس المجتمع غير المتماسك فانه يتجه للفوضى والانقسام وهذا ما يجب مواجهته.
كانت كنيسة البشارة الكاثوليكية في حي المهندسين بأيسر الموصل عامرة بالمصلين حتى دخول داعش الى المدينة، طالتها يد التخريب كما الكنائس الاخرى على يد عناصر التنظيم.
تقول إحدى ساكنات الحي انها شعرت بسعادة كبيرة عندما رأت عودة اعمال الاعمار في الكنيسة، مشيرة الى ان الموصل كباقة الورود التي لن تكتمل الا مع عودة المسيحيين اليها.
وأضافت بانها ليست المرة الاولى التي تتعرض فيها الكنيسة للتخريب فقد زرع عناصر تنظيم القاعدة أبان عام 2009 عبوة ناسفة امام بابها ما أدى الى تضرر الجدران الخارجية للكنيسة.
وبقيت الكنيسة مهجورة من مصليها حتى اعادة اعمارها وافتتاحها في كانون الاول 2019، حيث اقيم اول قداس فيها بحضور عدد غفير من المسيحيين والمسلمين على حد سواء وبحضور محافظ نينوى نجم الجبوري.
ضمانات عودة شركاء الوطن
قصة فريال ومجدي، ليست الوحيدة الشاهدة على حب الموصليين لبعضهم البعض وتماسكهم بمختلف انتمائاتهم، فهناك عشرات القصص التي جسدت ذلك الترابط الذي حاول متشددون طوال عقدين تدميره لحسابات خاصة.
ذلك الترابط عكسته مبادرات نشطاء المجتمع المدني لمد جسور التعاون بين المكونات واعادة بناء الثقة بينهم وتشجيع العوائل المسيحية على العودة الى مناطقهم واعمار بيوتهم خاصة في الموصل القديمة، في ظل غياب الحكومة عن المشهد.
يرى عميد كلية القانون الاستاذ عمار المشهداني بأن عودة شركاء الوطن من المسيحيين هي مسؤولية ملقاة على الجميع وبشكل خاص على عاتق المسيحيين انفسهم تجاه “إرثهم الحضاري وارضهم التاريخية” .
واستدرك: “لكن لابد لسكان الموصل ان يبعثوا برسائل اطمئنان لاخوتهم المسيحيين اذا ما ارادوا رجوعهم بالاضافة الى ضرورة توفير الضمانات القانونية لهم فغالبيتهم قد خسروا اموالهم وممتلكاتهم”، مشددا على ضرورة تعجيل الخطوات الحكومية الخجولة في سبيل اعادة الحقوق لاصحابها .
ويقول زيد الطائي ناشط مدني: “متى ما وفرت الحكومة البيئة الاقتصادية القوية وخلقت فرص العمل سنرى مجتمعا متماسكا وقويا”. وأشار الى ان المسيحيين ينتظرون الفعل الجاد لا الكلمات المنمقة لكي يعودوا لمناطقهم “شبه المهجورة”.
يتوافق رأي الطائي، مع ما يراه الناشط في مجال حقوق الانسان ايوب ذنون، الذي يؤكد صعوبة عودة المسيحيين الى المدينة القديمة “بسبب الظروف الاقتصادية الخانقة التى تعيشها المدينة مقارنة بالاستقرار الذي تتمتع به مدن اقليم كوردستان التي نزحوا اليها”.
ويشدد ذنون على ضرورة اعادة إعمار المدينة القديمة وجلب المستثمرين اليها خصوصا وان البيئة الامنية اصبحت مؤاتية بعد بسط القوات العراقية سيطرتها على المدينة.
المدينة القديمة التي ضمت في حاراتها المتشابكة مختلف الطوائف على مر العصور، وتداخل فيها صوت الاذان الذي كان يرفع من المنارة الحدباء المبنية في العهد الاتابكي، مع صوت قرع اجراس كنيسة الساعة (كنيسة اللاتين) التي بنيت في القرن التاسع عشر في تناغم يحكي قصة سلام وتعايش لطالما عرفت به هذه المدينة.
مجدي، الذي مازال عاطلا عن العمل منذ عودته لمنزله، ويحصل على قوت يومه من الهبات التي تقدمها الكنيسة مع مساعدات الجيران والاصدقاء، أكد اثناء اصطحابنا الى باب منزله على أهمية “تحسن الوضع الخدمي والاقتصادي كشرطين لعودة المسيحيين الى جانب استمرار استتباب الأمن”.
وقال “افتخر كوني اول المسيحيين العائدين الى المدينة القديمة على الرغم من الصعوبات التي تحيط بنا.. سأحاول ان اقاوم الظروف، لكني لا أعرف الى متى”. وتابع وهو يلوح بيده مودعا “سأعيش على أمل عودة اهلي وبقية المسيحيين الى الموصل وإعادة الحياة لهذه الأزقة التي جمعتنا يوما بكل حب”.
*انجز التقرير بدعم منظمة (cfi) ضمن مشروع “تفاءل” 2020