د. عبد الخالق حسين
منذ سقوط حكم البعث الفاشي عام 2003، وتشكيل الحكومات العراقية المتعاقبة من كل مكونات الشعب العراقي، وعلى وفق ما تفرزه الانتخابات البرلمانية، وُصِفت هذه الحكومات بالمحاصصة الطائفية والعنصرية، وألقي اللوم في كل الأخطاء، والمساوئ، والفساد المستشري في مفاصل الدولة، على هذه المحاصصة “البغيضة”.
والملاحظ أن جميع الكيانات السياسية، وقياداتها الحكيمة، و(غير الحكيمة)، تشتم المحاصصة في تصريحاتها وخطاباتها دون استثناء، ولكن في نفس الوقت، كل هؤلاء يصرون على حصتهم في السلطة والنفوذ.
وقد كتبتُ مراراً عن مشكلة المحاصصة، وعلى سبيل المثال مقال بعنوان: (حول إشكالية حكومة المشاركة أو المحاصصة)(1). وما جعلني أن أعود إلى هذا الموضوع الخطير، هو ما يجري الحديث في هذه الأيام ، وبعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي أجريت يوم 12 مايس/أيار 2018، وإقرار صحة نتائجها من قبل المحكمة الاتحادية، حيث تجددت المطالبات من جميع الجهات بتشكيل الحكومة الجديدة على أساس الكفاءة وليس المحاصصة.
والجدير بالذكر، أن الانتخابات الأخيرة – التي شابها تهم التزوير والخروق- أفرزت عن اختيار {232} نائباً جديداً من أصل 329 نائباً يشكلون البرلمان الجديد، أي ان نسبة التغيير هي {70.5%} عن البرلمان السابق(2). وهذا يعكس رغبة الشعب في التغيير وصحة الانتخابات، كذلك حجم الفاشلين في الانتخابات من النواب السابقين وعددهم 280 نائباً من مجموع 329 وقدرتهم في التأثير على الرأي العام في التشكيك بنزاهة الانتخابات وتضليل الرأي العام.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل حقاً يمكن أن تتخلص الحكومة الجديدة القادمة، وغيرها من الحكومات اللاحقة في المستقبل، من تهمة ولعنة المحاصصة؟
أعتقد أن وصف الحكومات العراقية المتعاقبة ما بعد صدام بالمحاصصة الطائفية لن يزول، لا في الحكومة الجديدة القادمة، ولا في أية حكومة في المستقبل المنظور، إلا إذا عاد حزب البعث للسلطة لا سامح الله، وهذا لا يعني اختفاء المحاصصة مع عودة حكم البعث، بل لأن البعث سيواجه كل من يتهمه بالمحاصصة بالإعدام في أحواض الأسيد، كما كان يفعل مع معارضيه. فالبعث كان محتكراً للسلطة، وكان يضم في تشكيل حكومته بعضاً من المكونات الأخرى للديكور فقط.
والاحتمال الآخر للتخلص من لعنة المحاصصة هو أن يتبوأ رئيس مجلس الوزراء شخص عربي سني. ولكن في هذه الحالة سيصف الناقمون عليه وعلى الديمقراطية بأنه سني صفوي، كما وصفوا من قبل الكثير من عقلاء اهل السنة الذين قرروا المشاركة في العملية السياسية و السلطة، بأنهم من سنة المالكي (نسبة إلى نوري المالكي، رئيس الوزراء السابق)، أو من أتباع إيران…إلى آخره من الاتهامات التسقيطية الباطلة، بل وحتى الجيش العرقي الجديد وصفوه بأنه الجيش الشيعي، والجيش الصفوي، وجيش المالكي..الخ.
فالشعب العراقي مكون من عدة مكونات دينية ومذهبية، سنة وشيعة ومسيحيين، وأيزيديين، وصابئة، كذلك من قوميات عديدة: عرب، وكرد وتركمان، آشوريين وكلدانيين…الخ، وكل من هذه الأثنيات والقوميات تنقسم إلى مختلف الأديان والمذاهب ، إضافة إلى انقسام كل مكون إلى كيانات سياسية بلغت نحو 400 تنظيم سياسي أو أكثر… وهكذا. لذلك فأية حكومة قادمة لا بد وأن يكون فيها سنة وشيعة وكرد وتركمان، ومن مختلف القوى السياسية، وحسب حجمها في البرلمان. ولا بد أن تكون هناك كيانات سياسية لم يحالفها الحظ في الفوز في الانتخابات، أو المشاركة في الحكومة، وهذه هي الديمقراطية. ولكن الجماعات التي فشلت في الانتخابات لا تريد أن تقر بفشلها كما هي الحال في الديمقراطيات الناضجة، بل تلجأ إلى اتهام الانتخابات بالتزييف، والحكومة بالمحاصصة، وفي هذه الحالة ليس بإمكان الحكومة منع الناس من وصفها بالمحاصصة كما يشاؤون.
كذلك يقر الدستور، أن تكون الحكومة تضم ممثلين عن جميع مكونات الشعب العراقي دون استثناء كنظام ديمقراطي ودولة المواطنة، لذلك لجأ أعداء الديمقراطية باختراع كلمة بذيئة مثل (المحاصصة) لتسقيط الديمقراطية وتشويه صورتها في نظر الشعب. وقد نجحت اللعبة، وراح الناس يشتمون الديمقراطية، و ينعتونها بأسوأ الكلمات البذيئة، وبأنها جلبت علينا المحاصصة، وهي في الحقيقة أشبه بحكاية (ملابس الإمبراطور الجديدة)، للكاتب الدنيماركي هانس كريستيان أندرسن.
فالكرد لن يتنازلوا عن منصب رئاسة الجمهورية، والسنة لن يتنازلوا عن رئاسة البرلمان، والشيعة لن يتنازلوا عن المادة الدستورية التي تخول زعيم الكتلة البرلمانية الأكبر بتشكيل الحكومة. وطالما الشيعة يشكلون نحو 60% من الشعب، فكتحصيل حاصل هم يشكلون الكتلة الأكبر في البرلمان، ولذلك يتمسكون بهذه المادة الدستورية.
كذلك يبدو أن البعض تشابه عليهم تعبير المحاصصة، فاعتقدوا أن الحكومة غير المحاصصاتية تعني حكومة من مكون واحد!! وعلى سبيل المثال، عندما شكل مقتدى الصدر في العام الماضي أو قبله، لجنة من الخبراء لاختيار أعضاء مستقلين لتشكيل حكومة التكنوقراط، ضمت اللجنة شخصيات من مختلف مكونات الشعب، فعلق أحد الأخوة في مواقع التواصل الاجتماعي، أنه (ما سوينا شي، أشو هذه اللجنة هم بيها محاصصة!!). وعليه أعتقد أن لعنة المحاصصة ستبقى لاصقة بأية حكومة عراقية ما بعد 2003 ، وإلى أجل غير مسمّى، طالما فيها من كل مكونات الشعب العراقي، بينما مشاركة الجميع في هذه الحالة يجب أن تتلقى الترحيب، و في صالح الديمقراطية ودولة المواطنة وليس العكس.
يجب أن نفهم أن الشعب العراقي يتكون من عدة مكونات، ولا بد للحكومة الديمقراطية أن يشارك فيها ممثلون من مختلف الانتماءات وحسب ما تفرزه صناديق الاقتراع، وعليه فتعبير (المحاصصة) لا يمكن أن تختفي. ولا بد من أن أستشهد مرة أخرى بمقولة عالم الاجتماع الراحل علي الوردي في هذا الخصوص قبل أكثر من خمسين عاماً:
“إن الشعب العراقي منشق على نفسه، وفيه من الصراع القبلي والطائفي والقومي أكثر مما في أي شعب عربي آخر- باستثناء لبنان- وليس هناك من طريقة لعلاج هذا الانشقاق أجدى من تطبيق النظام الديمقراطي فيه، حيث يتاح لكل فئة منه أن تشارك في الحكم حسب نسبتها العددية. ينبغي لأهل العراق أن يعتبروا بتجاربهم الماضية، وهذا هو أوان الاعتبار! فهل من يسمع؟”.
كما ويجب التوكيد هنا أن المقصود بالمشاركة كل حسب نسبتها العددية، المشاركة في المجلسين، البرلمان و الوزراء فقط، وليس تحويل الوزارة إلى إقطاعية للوزير ليملأها بأقربائه، وأبناء عشيرته، ومنتسبي حزبه، وإجراء التطهير المذهبي و الأثني. فهذه جريمة لا تغتفر. كذلك يجب التوكيد أيضاً أن المنصب الوزاري هو منصب سياسي وليس منصب لصاحب اختصاص تكنوقراط، أو كما يعتقد البعض أن حكومة التكنوقراط هي حكومة الملائكة خالية من أية مشاكل. فهذه نظرة سطحية وطوباوية ساذجة. إذ نرى الحكومات الغربية الديمقراطية العريقة تتشكل ليس من أصحاب الاختصاص التكنوقراط حتى ولو كان هؤلاء من الحزب الحاكم، ففي العديد من هذه الدول تجد امرأة لم تخدم في الجيش يوماً واحداً، تتبوأ منصب وزارة الدفاع مثلاً، ونادراً ما تجد طبيباً يتبوأ منصب وزارة الصحة، لأن المنصب الوزاري هو منصب سياسي وإداري بحت، ويجب أن يكون الوزير من الكتلة البرلمانية الاكبر، حتى يتحمل حزب الوزير مسؤولية أخطائه وعدم كفاءته، فتشكيل الحكومة من تكنوقراط مستقلين مخالف لجوهر الديمقراطية، أي تفريغ الديمقراطية من مضمونها، ولكن في جميع الأحوال يكون الوزير محاطاً بعدد من الخبراء من أصحاب الاختصاص كمستشارين يستفيد من خبراتهم وكفاءاتهم في سير شؤون وزارته، وعلى وفق برنامج الحكومة في إدارة شؤون الدولة وخدمة الشعب,