د.عبدالخالق حسين
تمر هذه الأيام الذكرى المشؤومة لأسوأ جريمة وقعت بحق الشعب العراقي في تاريخه الحديث، ألا وهو انقلاب 8 شباط 1963 الأسود، الجريمة التي دشنت سلسلة الجرائم المتلاحقة (جريمة تلد جريمة أخرى)، لتنتهي بالدمار الشامل فيما بعد.
بدأت الجريمة كما ذكرها الباحث الأمريكي من أصل فلسطيني، الراحل حنا بطاطو كالتالي: “بدأت أيام شباط (فبراير) المأساوية-الثامن والتاسع والعاشر منه- التي شهدت الصدامات الرهيبة بين القسم الأكبر من العراقيين وجزء أخر، بإغتيال قائد القوات الجوية الزعيم جلال الأوقاتي. وكان قد قاد سيارته، يرافقه إبنه الصغير، إلى محل لبيع الحلويات قرب منزله. وما أن نزل من السيارة حتى توقفت مركبة آلية أخرج ركابها مسدساتهم وأطلقوا النار عليه. وأصيب الأوقاتي في كتفه وحاول أن يهرب ليختبئ، ولكنه أصيب ثانية في الرأس وسقط على الرصيف. وأسرع المهاجمون بالهرب واختفوا. ولم يخرق صمت الشارع إلا صراخ الطفل: “با..با”. كان الوقت بعد الثامنة والنصف بقليل من صباح الثامن من شباط (فبراير) 1963، الموافق الرابع عشر من رمضان. ولم تكن بغداد قد أستيقضت تماماً بعد، ولكنه كان لها أن تشعر بندوب المعركة الميدانية خلال ساعات قليلة”(1).
هكذا بدأت عملية إغتيال شعب العراق، ومحنته من تلك اللحظة في ذلك اليوم الأسود، وما زالت العملية مستمرة لحد هذا اليوم. وهنا يتساءل المرء، كيف استطاعت شلة طارئة من شذاذ الآفاق، لا تاريخ لها ولا أي رصيد شعبي، أن تغتال حكومة وطنية تتمتع بأوسع شعبية في تاريخ العراق الحديث؟ فئة من الضالين الذين تم غسل أدمغتهم بآيديولوجية ألمانية من تأسيس فيختة ونقلها لهم ساطع الحصري ومشيل عفلق، اللذان لا صلة لهما البتة، لا بالعراق ولا بالعروبة.
كل الدلائل تشير إلى أن انقلاب 8 شباط 1963 قد خطط له من قبل جهات خارجية محترفة في تدبير الإنقلابات في العالم الثالث. ومن هذه الدلائل ما يلي:
1- البدء بخلق القلاقل بتحريض الطلاب والقيام بحملة الإضرابات في المدارس والجامعات في جميع أنحاء العراق وخاصة في بغداد والموصل وفرضها عصابات البعث بالقوة، والإعتداء على الأساتذة والطلاب الذين لم يتجاوبون مع المضربين وحتى إغتيالهم.
2- القيام بحملة اغتيالات واسعة ضد المناضلين اليساريين.
3- نشر إشاعات حول القيام بمحاولة إنقلاب وإلغائها عدة مرات في الفترة الممتدة من النصف الأخير من عام 1962 وحتى يوم تنفيذها في 8 شباط في السنة التالية، وذلك لخلق شعور لدى السلطة بعدم جدية وقوعه، فيحصل عندها الإسترخاء، واللا أبالية إزاءها وبذلك يسهل توجيه الضربة القاضية.
4- إختيار يوم الجمعة، حيث عطلة رسمية، وفي شهر رمضان والناس نيام وأغلب الضباط الموالين للسلطة نائمين في بيوتهم.
5- المنفذون هم عدد قليل جداً من الضباط العسكريين وأغلبهم من المتقاعدين.
6- قيام حكومة الإنقلاب بحملة إبادة شرسة من الإعدامات والقتل بالشوارع وتحت التعذيب في المعتقلات ضد مناضلي التيار اليساري وخاصة الشيوعيين والقاسميين والوطنيين الآخرين وكل من يقاوم الإنقلاب (بيان رقم 13 سيئ الصيت).
7- كانت إذاعة صوت أمريكا تبث أسماء وعناوين الشيوعيين للإنقلابيين من أجل إدلائهم لإلقاء القبض عليهم وإبادتهم.
8- تصريحات الراحل الملك حسين لمحمد حسنين هيكل بعلمه بالإنقلاب منذ فترة من قبل الجهات الغربية التي كانت تعد له وعلى رأسها المخابرات الإمريكية والبريطانية.
9- دقة التخطيط في السيطرة على محطات الإذاعة في أبو غريب والصالحية وتدبيج برقيات كاذبة بدعوى أنها وصلت من قادة وأمراء الوحدات العسكرية، والإعلان عن مقتل الزعيم عبد الكريم قاسم من أجل بث روح اليأس بين أنصاره، وعدم الجدوى من المقاومة. أي لعب الكذب دوراً فعالاً في إنجاح الإنقلاب وإسقاط السلطة الوطنية.
الرعب مقابل الشعب
في صباح ذلك اليوم الأسود كنت في القطار الصاعد من البصرة إلى بغداد. وسمعنا عن الإنقلاب من إذاعة بغداد عن طريق راديوات ترانسستر. وعند النزول في المحطة العالمية، توجهت إلى ساحة التحرير فوجدتها غاصة بالجماهير الغاضبة وهي تهتف (ماكو زعيم إلا كريم). وهكذا كان شارع الجمهورية حيث لم يستطع الزعيم نفسه شق طريقه مع رفاقه إلى وزارة الدفاع كما عرفنا فيما بعد. وكذلك كان شارع الرشيد، حيث ذكرت مصادر فيما بعد أنه حتى طاهر يحيى أحد فرسان الإنقلاب راح يردد مع الجماهير (ماكو زعيم إلا كريم) ليشق طريقه بصعوبة من أجل أن يلتحق برفاقه قرب وزارة الدفاع ويساهم في قصف أنصار الزعيم. وقد شاهدت بعيني كيف كانت الدبابات تأتي من جسر الجمهورية نحو ساحة التحرير والضباط على ظهرها رافعين صور الزعيم يهتفون تأييداً له وما أن ابتعدوا عنا في شارع السعدون حتى بدؤوا بالرمي على الجماهير ووقع عدد من الجرحى.
وكانت الجماهير تحيط بوزارة الدفاع تطالب الزعيم بالسلاح لسحق الإنقلاب وحماية الثورة ولكنه رفض ذلك تجنباً لوقوع حرب أهلية.
ويذكر طالب شبيب في مذكراته: “وفي المدخل الرئيسي للمعسكر (الرشيد) قام أنور عبد القادر الحديثي بعمل مرعب، لا أعرف ماذا ستكون نتائجه علينا، لكنه أثر كثيراً على معنويات الجنود والضباط داخل المعسكر. فقد تجمهر أمام بوابة معسكر الرشيد الرئيسية حشد من الجنود وضباط الصف وبعض الضباط والمدنيين يهتفون “ماكو زعيم إلا كريم” و”عاشت الجمهورية العراقية الخالدة”، وآنذاك نادى أنور الحديثي على أحد الهاتفين وطلب منه إعادة هتافه، ولما أعاده، أطلق عليه أنور من مسدسه الذي صوبه نحو رأس الجندي مباشرة فسقط على الفور ميتاً. وفرغت الساحة من كل المتظاهرين، بسبب ما سببته العملية من رعب وذعر. (2)
وفيما يسمى “بالمحكمة” في ستودوهات الإذاعة، سخر أحد الإنقلابيين على شعبية الزعيم قائلاً له: “إنك مسيطر والشعب معك، دبابة واحدة أسقطتك”.
وبسبب شعبيته الواسعة عرضوا جثة الزعيم قاسم على شاشة تلفزيون بغداد ليؤكدوا للمواطنين إعدامه ويتوقفوا عن المقاومة. وفي هذا الخصوص علّق الباحث الراحل د. علي كريم سعيد، في كتابه (عراق 8 شباط 1963، من حوار المفاهيم إلى حوار الدم): ” لكن ما رافق العرض التلفزيوني كان أمراً مؤسفاً، انحفر في ذاكرة الأغلبية الساحقة من العراقيين عندما نفذ أحد الجنود أوامر صدرت إليه من القيادة بشد شعر الزعيم عبدالكريم قاسم “الميت” ورفعه.. الخ، قد أظهروا وكأنهم يرسلون رسالة رعب لشعب أدعوا أنهم ثاروا من أجله. فجاءت تلك، رسالة استفزاز همجية لا تنتمي إلى حضارة إنسانية عمرها ستة آلاف عام. وكأنها رسالة تقول: إن الحكومة الجديدة قاسية. كما إنها تعني بأن الثوار أذعنوا لفكرة: إن لهم الدبابة ولخصومهم التعاطف الشعبي. كذلك كان المشهد التلفزيوني في إهانة جثة الزعيم … صراعاَ لعب فيه قاسم دور أكثر المتصارعين وداعة وتسامحاً وأقلهم همجية وأدلجة وتشريعاَ للقتل، فقد سن عملياً قاعدة: “عفا الله عما سلف”. وكان فيها أقرب إلى عقلية العراقيين البسطاء قبل عصبية الأيديولوجيا الواردة. وقال عنه محمد حديد أنه كان أقرب أقرانه العسكريين إلى روح التسامح وفكرة الديمقراطية، فقد ظلت مناصب الدولة في عهده موزعة على الجميع وليس على تيار سياسي واحد.”(3).
لقد خسرنا أعظم ثورة، ودفع الشعب الثمن، وكذلك دفع الجناة الثمن فيما بعد. وما معاناة العراق الحالية من فوضى واضطرابات وغيرها من المآسي، إلا امتداداً لذلك الإنقلاب الأسود، حيث أعاد البعث الصدامي العراق إلى الجاهلية الأولى بإسم العروبة، والعروبة منهم براء. لقد دفع قتلة الزعيم الثمن باهظاً، حيث انقض بعضهم على بعض بالقتل، وعيونهم زائغة نحو كرسي الحكم، ويبقى عبدالكريم قاسم حياً خالداً في وجدان وضمير أبناء الشعب الذين أحبهم وأحبوه وخاصة الفقراء منهم.
يقول الباحث البحراني الأستاذ عبدالله المدني عن قاسم: (أنه حان الوقت لنعيد لعبدالكريم قاسم إعتباره ونسمي الأشياء دونما ان نغفل ظروف ذلك الزمن ونوعية تحالفاته وعلاقاته .. كان عفيف اللسان نزيه الكف لم تذكر خطبه المسجلة كلمة شائنة في حق خصومه ولم تذكر دفاتره انه حقق جاهاً أو مالاً لنفسه أو لعائلته من وراء مناصبه.. مات كما لم يمت غيره من صناع تاريخ العراق، وحيداً دونما جاه أو قصور أو أطيان، أو حتى ملابس مدنية، ودونما أحزاب ومتحزبين ومليشيات، بل دونما زوجة أو وريث من صلبه.. بل سيذكر التاريخ إن الرجل الذي فجر الثورة وأسس الجمهورية وحالف الفقراء ووهب الوطن كل حياته لم يجد في أرض العراق الواسعة مترين من الأرض ليحتضنا جثته المثقوبة بالرصاص، وفضل رفاق الأمس في ظاهرة تكشف قلة الوفاء، وسيطرة النوازع الإنتقامية، ان يرموا بالجسد في النهر ليكون طعاما للأسماك، حتى لا يعود العراقيون ذات يوم حينما يعود الوعي الغائب أو المغيب قسراً، إلى الترحم على رجل لم يبخل على أهله بشيء، فبخل الأهل عليه بكل شيء بما في ذلك القبر!(4).
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
—————-
المصادر
1- حنا بطاطو، تاريخ العراق، الكتاب الثالث، ت عفيف الرزاز، ص 289.
2- د. علي كريم سعيد، عراق 8 شباط 1963، مراجعات في ذاكرة طالب شبيب… من حوار المفاهيم إلى حوار الدم ص82.
المصدر السابق، ص103..
عبد الله المدني، ثورة 14 تموز وصورة قاسم، صحيفة الحياة اللندنية، 14/7/1994.