دانيال سليفو
في أحد أفلام الخيال العلمي الهوليودية توجهت مركبة فضائية نحو إحدى المجرات البعيدة , وصرح قائد المركبة لزملاءه بأنه سيُعلن لمخلوقات المجرات الأخرى بأنه يُمثل أروع حضارة من كوكب الأرض بدأت من سومر في ميسوبتاميا !. إنتظرت لأرى وأسمع جواب المخلوقات حول تصريح قائد المركبة هذا , ولكن لم تتحق الأمنية بسبب مشاكل تقنية أجبرت المركبة على التراجع . هذه اللقطة أشرت بشكل أو بآخر ليس الى مكانة العراق فقط , بل الى أن الحضارات الأرضية جميعها مُلك البشرية والإنسانية , و تعني أيضاً بان حضارة سومر ونتائجها وما تلاها من حضارات متعاقبة في بابل وآشور والديانات الإبراهيمية الثلاث وتوسعها الأيماني الروحي وحتى المادي وتواصلها في نفسية العراقي , إخترقت وبكل تفاصيلها العالم , وأدت فحوى رسالتها بإتقان ووصلت الى مستوى الكونية بعد ان انهت عالميتها وإصبحت مفخرة البشر جميعاً , في ظل ظهور مدنية عالمية إنسانية عابرة للدول عبر المواصلات السريعة والتجارة الحرة والتطور التكنولوجي والتواصل الالكتروني , وهذا لا يعني الدعوة الى الإستغراق في المثاليات وأحلام اليقضة , فالإنسانية كلمة فضفاضة لا يمكننا من خلالها لجم المصالح والمنافع للدول والمجتمعات والشركات العابرة للحدود , ولا يمكنها ( الإنسانية ) من تمثيلنا إن لم نكن مستعدين للتعبير عن حاجاتنا وحقوقنا أو بصورة أدق عن هويتنا .
من هذه الحقيقة قد نفهم ضرورة مسح الغبار المتراكم حول قضيتنا الوطنية وحتى القومية كسكان أصيليّين والتعامل الإيجابي مع الجميع بغض النظر عن الدين والقومية والمذهب في الوطن وخارجه , والتعامل إلمُثمر مع بوادر ثقافية وفهم حضاري جديد لقضية الإنسان القريب والبعيد , وأن نستفاد من الحضارات القديمة التي إشتركت وأغنت حضارة الانسان على وجه الارض من أجل معرفة الذات . ولا نعني بذلك إعادة الإستنساخ وإستعارة كل التفاصيل , فحكم الزمن والجغرافية والتغيير الديمغرافي مؤثر قوي وواضح , بل وضع إعتبار جديد وتفسير خّلاق عابر للنظرة المتوارثة الضيقة . والعبور بقفزات مبتكرة ودقيقة لعبور الزمن والوقت الذي فقدناه واللحاق بالمسيرة الإنسانية , في ظل عجز الكثير من الحكومات في السيطرة التامة على الأمور وفقدان السيادة خصوصاً في بلداننا , وظهور إمكانيات جديدة مضافة الى قدرات الشعوب في التواصل والتطور والتعبير بدون عائق . وهذا بحد ذاته خيار الشعوب , ولا مناص من الإنسجام والتوجه مع ضرورات التطور والتحديث والدخول في نادي الإنسانية وليس الوقوف والجمود و إستقبال الصدمات ثم القيام وبتثاقل لرد الافعال ! , والدفاع عن النفس ! , والتكيف مع دور الضحية , ومن خلال هذه السلبية لن ينبذنا العالم فقط بل حتى الجيل الجديد سيتخطانا غير مأسوف علينا !. لان التحديات الجديدة ليست أهون مما مضى .
العودة الى الذات – رجال فوق صفيح ساخن
نعني بالعودة الى الذات , هي العودة الى المخبوء في الضمير والوجدان , والذي يظهر كميراث وتفاعل بين العراقيين , وهي عملية تشبه بالطاقة الحضارية – التاريخية والتي لا تفنُى ولكنها تتحول من جيل الى جيل بعامل الزمن . العراقيون تغربوا عن هويتهم وذواتهم الحقيقية منذ قرون , والسبب عموماً كان بتأثير الإحتلالات والحكام المنبوذين ووعاظ السلاطين الذين يتمسحون بهم ويحمدون الله لهم ليل نهار . ولكننا أصبحنا مثل الذي يهرب من ظله , ويرجم الماضي بحجر وفيه كل العيوب . ومذ عقود كان الإنسان العادي مغترباً عن ذاته بلا وعي كاف , فبعض المثقفين إغتربوا عن دراية ووعي وسوداوية حينما قدسوا كل الآراء التي سُطرت لهم , بلا نقد ولا تقييم ولا البحث عن الجزء المملوء من الكأس . والغربة عن الذات دعت بولص ( ܦܘܠܘܣ ) الفترة السبعينية من القرن الماضي يرجو من المعلم بعد نهاية كل درس باللغة الآشورية ( السوريانية ) ان يُدعي ( بول ) , لأن أصدقاءه وصديقاته يدعونه بهذا الإسم !. كما إن ( جون ) الذي وِلد كيوخنا ( ܝܘܚܢܢ ) إنصدم وأصابته الكآبة بعد ان سمع أحدهم يدعوه يحيى كما هو جاري لدى الإخوة العرب !. ومن الجانب الآخر لن يصدق صديقنا المسلم حينما يعلم ان عبد من عبدالله أصلها بالسورياني ( يفعل – يخلف ) ܥܒܕ وليس العبودية تماماً والتي جاءت كتحصيل حاصل , وكإن بضاعتنا رُدت الينا دون أن نعلم وحسبناها خارج مدى الإستهلاك !, بعد إكتشاف الحقائق , أما البعض من مثقفينا ممن ارتحلت افكارهم ومشاعرهم نحو أوربا لتنهل من علماءها معرفة وإكتشاف الذات , أخذت تفكر بالفرنسية أو الانكليزية وتستعير بالمنظور الأوربي كله أو من كتب مترجمة للعربية وبأخطاءها المطبعية حتى , فأصبحت نيشن تعني الأمة بدون مراجعة ولا إعادة نظر . مع الإعجاب الشديد والوله بارنست رينان ودومنيك سادلر وبكل ما يخرج من أفواهمها المباركة ! , فرينان الذي شرح موضوع الأمة لدى الغربيين , يقول (( الغرب هو جنس أصحاب العمل , والشرق جنس الفعلة )). أما المفكر دومنيك سوريل إقترح بأن يتم إشعار الشرقي بأنه مرفوض , ليظل في تبعية ممسكاً بتلاليب الغرب من أجل الإنقاذ . ولم يجهد البعض أنفسهم ليقوموا بمقارنة بسيطة مع ما يعرف من مفردات وكلمات سوريانية أوعربية في معنى الإصطلاحات والعبارات الواردة في كتب المفكرين والمؤرخين للوصول الى أفكار جديدة مفيدة تنبع من وجداننا وحقيقتنا الموروثة , فهولاء أهملوا كل العلوم الطبية والادوية و العلوم الرياضية والزراعة والري وبعلماءها ومراكزها , ليلصقوا ثقافة الكنيسة الشرقية وبعدها الإسلام بالثقافة الهيلينية , وهذا ظلم وإجحاف , لأن التعامل مع الثقافات بايجابية شئ والتبعية شئ آخر . ومحصلة ما يريده بعض الغرب هو جعل الإنسان الشرقي بلا تاريخ وبأنه مرفوض ولا قيمة له . وهذه رؤى مؤسسة غالباً على المصلحة ومبدأ الكسب وخدمة السياسات .
السوريانية كمفتاح وأداة لسبر الأغوار المجهولة !.
لا يمكن إنكار ضرورة دراسة ومطالعة كل ما يصدر عن الغرب من دراسات أنسانية حول الأمم والشعوب والعقائد والأديان , على أن تكون أُمتنا ومشاعرنا الوطنية حاضرة ومؤثرة للمقارنة عند إستقبال المفاهيم تلك , وأهمها وأولها التراث اللغوي الثر , وكذلك الإستفادة من مساهمات مفكرينا ومؤرخينا , وإعادة فهم التاريخ بتسجيل ما لم يتم تسجيله وما أكثره ! وإن كان تاريخنا هو تاريخ الكنيسة والأديرة والشهداء , لكن النظرة الثاقبة للأمور تزيل الضبابية وتوضح الصورة بكل أركانها , وأبدع المؤرخ هرمز أبونا في ذلك الى حد كبير . ولن نهمل مصابيح الوعي والإبداع أمثال ابن خلدون وعلي الوردي وعلي جواد ومحمد أركون وخزعل الماجدي ورشيد خيون وسليم مطر وغيرهم الكثير . ولنا اساتذة مبدعين في المجال اللغوي ( مع حفظ الالقاب ) أمثال ميخائيل ممو وادوار اوديشو ويؤارش هيدو واوديشو ملكو وغيرهم لا يسع المجال لذكرهم , وهم الأكثر في فهم المعاني ودلالاتها بما يتعلق بموضوع الامة والوطن , وعلى سبيل المثال لا الحصر :
والتي هي قريبة من ( ناشى ) ܐ̄ܢܫ̈ܐ ( بالجمع ) ، ليست بالضرورة أمة Nation
ففي لغتنا أومتا وأَمتا وعمّا ( ܐܘܡܬܐ ، ܐܡܬܐ ، ܥܡܐ ) جميعها تعني أمة وشعب , وكذلك الأُم ( ܐܡܐ ، ܝܡܐ ) . وكلمة قومية ( ܩܘܡܐ ) تعني شعب. وبالمقابل فإن كلمة وطن هي ( ܐܬܪܐ ) وأثر وآثار , والوطني هو ( ܐܬܪܝܐ ) وهي قريبة جداً بالاسم آثوري ! ومدلولها مؤشر على إن اسم الآثوري بحد ذاته يعني وطني , ومن الجانب الآخر يمكن للسوريانية إضافة الكثير من المعاني الجديدة للقرآن والأحاديث بإعادة المفردات الى أصولها وهذا موضوع تصدى له الكثير من المختصون , والتجربة أثبتت بلا مجال للشك بأن موضوع مقارنة اللغة السوريانية بما نسمع ونقرأ في الحياة اليومية مهم جداً . فبعد أن نُنهي رحلتنا وغربتنا في اوطان الغربة , ونطلّع على ما كتبوه في ساحتهم الفكرية الجميلة , ينبغي وبعد العودة , ان نستريح على صدر الأم ونسمع آهاتها وشهيقها وشهقاتها وسرديتها لحكاية التراث والحضارة من روضة اللغة والتاريخ , وننهل منها وقبل فوات الآوان بكل ما هو بالمستطاع !..
للتواصل بالفيس بوك :
Danyal Slifo
المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن وجهة نظر الموقع