د.عبدالخالق حسين
مقدمة
هناك مثل مصري يقول: “دخول الحمام مش زي خروجه”. وكما رواه لنا العم غوغل، يعود هذا المثل للعصر العثماني، عندما قرر أحد الأشخاص فتح حمام تركي جديد، و وضع لافتة كُتب عليها “دخول الحمام مجاناً”، وهذا ما جذب الناس لتجربته. وعندما دخل الزبائن إلى الحمام، كان صاحبه يحتجز ملابسهم، وحين قرر الزبائن الخروج من الحمام، رفض تسليم الملابس لهم، إلا بعد دفع ثمن استخدام الحمام.هنا فوجئ الزبائن بـ”تغيير الكلام”، و واجهوه بما كتب في اللافتة المعلقة على الباب، فأجاب “دخول الحمام مش زي خروجه”. أصبح رد صاحب الحمام مثلاً يقال عندما يتورط شخص في مشكلة، بالرغم من أن بدايتها كانت لا تُشعره بأي ريبة.
هذا المثل ينطبق تماماً على دخول بريطانيا الوحدة الأوربية، أو (السوق الأوربية المشتركة) كما كانت تسمى عند البدء في تأسيسها عام 1957. فالمطلوب حين دخلتها بريطانيا عام 1973، كان بدون استفتاء شعبي. إلا أن هذا الدخول، أو الزواج، كان مجرد زواج مصلحة اقتصادية، ولم يكن بدون معارضين له لأسباب تتعلق بالسيادة الوطنية، خاصة ومع تطور هذه المعاهدة، من السوق الأوربية المشتركة إلى الوحدة الأوربية، وتخلي نحو 24 دولة منها عن عملتها التي هي رمز استقلالها وسيادتها الوطنية. وربما تتحول هذه الوحدة في يوم ما إلى الدولة الأوربية باسم (الولايات المتحدة الأوربية) على غرار الولايات المتحدة الأمريكية.
نبذة تاريخية
كانت الوحدة الأوربية فكرة تراود مخيلة الحكام والفلاسفة الأوربيين منذ مئات السنين، وذلك لوضع حد للحروب الطاحنة التي كانت تدور رحاها بين هذه الدول باستمرار. وعلى سبيل المثال، فقد أكد الفيلسوف الألماني، عمانوئيل كانط (E. Kant)، في رسالة له إلى حكام أوربا في القرن الثامن عشر، أنه لا يمكن تحقيق سلام دائم في أوربا إلا بتأسيس فيدرالية تضم جميع الدول الأوربية. ومن الوسائل المتبعة آنذاك للحد من تلك الحروب هي المصاهرة بين أسر الملوك الحاكمة. فتجد ملوك عدة دول من أسرة واحدة مثل آل هابسبرك، وآل بوربون وغيرهما. وقد حاول نابليون بونابرت تحقيق نوع من الفيدرالية الأوربية عن طريق الحروب التي سميت بالحروب النابليونية، لتصدير مبادئ الثورة الفرنسية، وتوحيد أوربا تحت سيطرة فرنسا، ففشل وانتهى أسيراً في جزيرة سانت هلينا. ثم حاول هتلر بتوحيد أوربا بالقوة، فشن الحرب العالمية الثانية لإخضاعها تحت حكم ألمانيا وفشل أيضاً، وانتهى بكارثة على العالم وعلى أوربا، وعلى بلاده وانتحاره.
المفارقة أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرتشل، كان واحداً من أوائل الداعين إلى إنشاء “الولايات المتحدة الأوروبية” بعد الحرب العالمية الثانية، إذ كان مقتنعا أن أوروبا الموحدة فقط هي التي يمكنها أن تضمن السلام الدائم. كان هدفه القضاء على الأمراض الأوروبية للقومية، ومنع الحرب إلى الأبد.
ولتحقيق هذا الحلم الأوربي، أجتمع زعماء ست دول أوربية في روما عام 1957، وهي إيطاليا وفرنسا وألمانيا الغربية، وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ، وتم توقيع (اتفاقية روما) التي شكلت نواة التكتل الإقتصادي الأوروبي، لإيجاد نوع من الإتحاد ديمقراطياً بين هذه الدول، مبنياً على المصالح الاقتصادية ، فانبثقت (السوق الأوربية المشتركة) للوجود عام 1967 من الأعضاء المؤسسين الستة. و في عام 1973 انضمت بريطانيا إلى هذه المنظمة عندما كان إدوارد هيث، زعيم حزب المحافظين، رئيساً للوزراء، وبدون استفتاء شعبي. وكما بينا أعلاه، كان هناك معارضون من الشعب البريطاني، وبعض قادته السياسيين لهذه العضوية، لذلك تم إجراء أول استفتاء شعبي عام 1975 في عهد رئاسة هارولد ويلسون، زعيم حزب العمال، حيث صوت 66% لصالح البقاء في تلك السوق. ولكن رغم ذلك، استمرت المعارضة من جميع الانتماءات الحزبية.
ومع الزمن ازدادت عضوية هذه المنظمة، وصلاحياتها، ونفوذها إلى أن بلغ عدد أعضائها اليوم 28 دولة، وهي في ازدياد، ومع نموها كثرت مشاكلها وتدخلاتها في الشؤون السياسية للدول الأعضاء، وصار اسمها (الوحدة الأوربية)، أو (الإتحاد الأوربي European Union)، ولها عملتها الموحدة (اليورو)، ووضع لها دستور يمهد للمزيد من الاندماج، وصولاً إلى دولة اتحادية عظمى، على غرار الولايات المتحدة الأمريكية، مما أثار مخاوف وغضب شرائح واسعة من شعوب دول الأعضاء، وفي مقدمتها الشعب البريطاني بدافع المشاعر القومية، التي اعتبرت تنامي صلاحيات الاتحاد تهديداً لسيادتها الوطنية، وإلغاءً لدور برلماناتها الوطنية في حكم شعوبها.
وبعد 42 سنة من انضمام بريطانيا لهذه الوحدة، وتنامي المعارضة لها، وخاصة في صفوف الحزبين الكبيرين، المحافظين والعمال، قرر السيد ديفيد كامرون، رئيس مجلس الوزراء البريطاني في برنامجه الانتخابي لعام 2015 بإجراء استفتاء شعبي حول البقاء في هذه الوحدة أو الخروج منها، وذلك من أجل إسكات معارضيه من داخل حزبه، لأنه كان واثقاً أن غالبية الشعب ستصوت للبقاء. وكان فعلاً غالبية البرلمانيين من جميع الأحزاب، والإعلاميين، والانتليجنسيا البريطانية، والأكاديميين، والصناعيين والمصرفيين مع البقاء.
وقد أُجريَ الاستفتاء يوم 23 حزيران 2016. والمفاجأة، أن صوتت غالبية الشعب البريطاني (52%) للخروج من الإتحاد الأوربي، مقابل 48% للبقاء، أي بفارق (4%) فقط، إلا إن هذه الأغلبية الضئيلة تُحترم في الأنظمة الديمقراطية الناضجة. ومنذ ذلك اليوم وإلى الآن والساحة البريطانية تشهد جدلاً عنيفاً ومستمراً بلا توقف، بل وحتى تم اغتيال برلمانية (جو كوكس) العمالية من قبل متطرف يميني إنكليزي لأنها كانت تدعو للبقاء.
أسباب المعارضة للوحدة الأوربية
هناك أسباب كثيرة دعت المواطنين البريطانيين للتصويت للخروج من الاتحاد، حسب ما أعلنه دعاة الخروج في حملتهم الدعائية، كما يلي:
1- اتساع صلاحيات الاتحاد، على حساب صلاحيات السلطات الوطنية لدول الأعضاء.
2- التكاليف الاقتصادية الباهظة التي تدفعها بريطانيا والبالغة نحو 350 مليون جنيه استرليني أسبوعياً، أي أكثر من 18 مليار جنيه سنوياً.
3- تنامي الهجرة بمئات الألوف من دول الأعضاء، أكثر من ربع مليون مهاجر سنوياً، يقدمون عمالة رخيصة ينافسون بها المواطنين، ويشكلون عبئاً ثقيلاً على الخدمات الصحية والمدارس، والضمان الاجتماعي..الخ، دون أن تستطيع الحكومة البريطانية الحد من عدد المهاجرين من دول الأعضاء.
4- إزالة الحدود الدولية بين دول الأعضاء سهَلت انتقال المهاجرين من دول غير الأعضاء وخاصة من الدول الإسلامية، ومعها مخاطر الإرهاب الإسلامي.
5- معاناة السكان الأصليين من محاولات الجاليات الإسلامية في فرض ثقافتهم وتقاليدهم عليهم، وفي بعض المناطق في لندن مثلاً، فرضوا حكم الشريعة بالقوة (Sharia zone)، وما حصل من أعمال إرهابية القوا اللوم فيها على الوحدة الأوربية.
6- مطالبة تركيا بدخول عضوية الإتحاد أثارت ذعر الشعب البريطاني، الأمر الذي جعلها دعاة الخروج ضمن دعايتهم، مدعين أن قبول تركيا سيسمح لدخول 90 مليون مسلم إلى الدول الأوربية بدون فيزا، وهذا يعني أسلمة أوربا وتسهيل دخول الإرهابيين.
7- ولهذه الأسباب مجتمعة، تم في بريطانيا تشكيل حزب يميني، باسم حزب استقلال المملكة المتحدة، اختصاراً (UKIP)، بزعامة نايجل فاراج، هدفه الرئيسي والوحيد هو إخراج بريطانيا من الاتحاد. وكذلك أدى إلى نمو الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوربا.
وأمام اتساع المعارضة لعضوية بريطانيا في الاتحاد الأوربي، وحتى من داخل حزب المحافظين الحاكم، وللتخفيف من غلوها، قام السيد ديفيد كامرون، رئيس الحكومة، بإجراء مفاوضات مع الوحدة الأوربية لإعفاء بريطانيا من بعض الالتزامات منها عدم شمول المهاجرين بالمنافع المالية، إلا بعد مرور أربع سنوات من دخولهم بريطانيا.. الخ، والسيطرة على الحدود..، وحصل على ما أراد، ولكن هذه المكاسب لم تُسكت المعارضين، لذلك اتخذ كامرون قراراً لا يخلو من مجازفة، في العام 2015 يقضي بإجراء استفتاء شعبي في عام 2016 لفسح المجال أمام الشعب البريطاني ليقرر بنفسه.
ورغم أن معظم قيادات الأحزاب السياسية وخبراء الاقتصاد، والصناعيين، والمصرفيين، والعلماء والأكادميين وأغلب الإعلاميين، ورؤساء الحكومات الصديقة، بمن فيهم الرئيس الأمريكي، باراك أوباما الذي قام بزيارة رسمية خاصة إلى لندن لهذا الغرض، حثوا الشعب البريطاني على البقاء، مؤكدين أن الفوائد الاقتصادية والأمنية والعسكرية أكثر في حالة بقاء بريطانيا مع الوحدة الأوربية، إلا إن غالبية الناخبين لم تتأثر بآراء أصحاب الخبرة والأصدقاء، واعتبروا مخاطر الخروج الاقتصادية التي حذر منها دعاة البقاء، أنها للتخويف (scaremongering)، ونجحوا في اقناع العاطلين عن العمل أن الهجرة من دول الوحدة الأوربية هي السبب الرئيسي للبطالة، لذلك فالحل الوحيد لجميع هذه المشاكل في رأيهم هو الخروج من هذا الإتحاد… ومن ثم التفاوض للدخول فيها ثانية وبشروط أفضل دون المساس بمصالحنا وسيادتنا الوطنية!! وقد رد عليهم كامرون متهكماً بأن هؤلاء أشبه بمن يطلق زوجته على أمل أن يعيدها فيما بعد بعقد أفضل !!
عواقب ودلالات نتائج الاستفتاء
جاءت نتائج الاستفتاء مفاجأة للجميع، وزلزالاً ليس على دول الوحدة الأوربية فحسب، بل وعلى العالم كله، وذلك لما لبريطانيا، كدولة كبرى، من ثقل اقتصادي، وسياسي، وعسكري. فما أن تم الاعلان عن نتائج الاستفتاء حتى وخسر الجنيه الاسترليني نحو 10% من قيمته بالنسبة للدولار، وغيره من العملات الصعبة الأخرى، إضافة إلى الفوضى التي اجتاحت أسواق البورصة في جميع أنحاء العالم، حيث سجلت المؤشرات هبوطاً بلغ 9% ، أي ما يعادل 2 ترليون دولار خسارة في أسعار الأسهم. وهذه إحدى تداعيات الخروج الاقتصادية التي حذر منها دعاة البقاء.
كذلك حفزت هذه النتائج الأحزاب اليمينية في دول الاتحاد الأخرى للمطالبة باستفتاءات مشابهة.
كما كشفت النتائج هذه عن مدى انشقاق الشعب البريطاني على نفسه، وهشاشة وحدة المملكة، فغالبية الشعب في إنكلترا و ويلز صوتت للخروج، بينما غالبية الشعب الاسكتلندي وايرلندا الشمالية صوتت للبقاء.
وهذا الاختلاف أثار مشكلة خطيرة تهدد بقاء بريطانيا كمملكة متحدة. إذ قالت السيدة نيكولا ستارجين، رئيسة حكومة اسكتلاندا أن الشعب السكتلاندي صوت للبقاء في الوحدة الأوربية، بينما فرض عليه الشعب الإنكليزي الخروج منها ضد إرادته. لذلك فمن حقنا أن نطالب باستفتاء ثان للشعب السكتلاندي للاستقلال والبقاء في الإتحاد الأوربي. ونفس هذا المطلب طرحه الراحل مارتن ماغنس، قيادي في حكومة أيرلندة الشمالية مطالباً بإجراء استفتاء للشعب الإيرلندي الشمالي للانفصال من المملكة المتحدة، والاتحاد مع جمهورية أيرلندة التي هي عضو في الوحدة الأوربية. وهذا يضع نهاية للمملكة المتحدة.
كذلك لاحظ الباحث، مارك إيستون من البي بي سي، أن مكان سكن المصوتين لعب دوراً في طريقة التصويت، فالغالبية العظمى من سكان المدن الإنكليزية الكوسموبوليتانية الكبرى مثل لندن، ومانتشستر وليفربول وغيرها، صوتوا للبقاء، بينما الغالبية العظمى من سكان الأرياف والمدن الصغيرة والحواضر صوتوا للخروج. ويفسر الباحث ذلك إلى أن سكان المدن الكبيرة متكيفين مع العولمة، وأكثر انفتاحاً على الشعوب الأخرى، وليست لديهم مشكلة مع تعدد الثقافات،…الخ، بينما سكان الأرياف والمدن الصغيرة لديهم مثل هذه المخاوف من المهاجرين وعضوية بلادهم في الوحدة الأوربية.
ولاحظ الباحث أيضاً أن 64% من المصوتين من الفئات العمرية الشابة (18-24) قد صوتوا للبقاء، بينما صوَّت 58% من كبار السن ( 65+) للخروج. وهذا له دلالته، فالشباب يتطلعون إلى المستقبل، يرون مستقبلهم مرتبطاً بالعولمة، والتقارب بين الشعوب، بينما كبار السن مازالوا يعيشون عقلية الماضي والتفوق الإنكليزي الاستعماري، مع ذكريات وآلام الحرب العالمية الثانية، ونظرتهم الاستعلائية والشوفينية للشعوب الأخرى.
ومن تداعيات نتائج الاستفتاء أن استقال السيد كامرون من رئاسة الحكومة، وحتى من عضوية البرلمان، وحلت محله السيدة تيريزا ماي وزيرة الداخلية حينئذ، وهي من أنصار البقاء، لتقوم بمفاوضات الخروج مع المسؤولين في الوحدة الأوربية. وتم تعيين وزير خاص للخروج باسم (وزير البريكست Brexit secretary)، عادة يتم اختياره من أنصار الخروج. ومنذ الاستفتاء، أي خلال العامين والنصف أجريت مفاوضات ماراثونية صعبة بين الحكومة البريطانية والوحدة الأوربية، تم اتفاق الخروج (Brexit deal)، والذي طبع في كتاب يضم بين دفتيه نحو 600 صفحة، يحدد فيه العلاقة بين بريطانيا والوحدة الأوربية بعد الخروج. وكما وصفته السيدة ماي، أنه ليس مثالياً، ولكن هذا ما توصل إليه الجانبان المتفاوضان، وهو أفضل من الخروج بدون انتفاق. و من بنوده أن تدفع بريطانيا 39 مليار دولار تكاليف الخروج (الطلاق)، إضافة إلى إبقاء الحدود بين أيرلندة الشمالية وجمهورية أيرلندة (الجنوبية)، بدون تغيير، أي مفتوح يسمح لتنقل البشر والبضائع بدون تفتيش. علماً بأن الأخيرة هي عضو في الوحدة الأوربية، وهذا يعني أن الحدود بين بريطانيا والوحدة الأوربية لم تتغير، أي بدون سيطرة الحكومة البريطانية، ولذلك فمن الممكن دخول المهاجرين غير الشرعيين منها، وهذا البند شكل عقبة كأداء عارضها بشدة أنصار الخروج. والنتيجة أن توحد الجانبان، أنصار ومعارضو الخروج ضد الاتفاق. وانشغل البرلمان لخمسة أيام بمناقشة الاتفاق، وأخيراً تم التصويت عليه مساء الثلاثاء، 15 يناير/كانون الثاني 2019، برفض الاتفاق بغالبية عظمى 432 ضده، مقابل 202 معه بفارق 230 صوتاً ضد الاتفاق. وهذا يعتبر هزيمة تاريخية كبرى للسيدة ماي، الأمر الذي دفع زعيم حزب العمال المعارض السيد جرمي كوربين، إلى طرح مشروع سحب الثقة بحكومة السيدة ماي على البرلمان، كتمهيد لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة لتشكيل حكومة جديدة تقوم بالتفاوض مع الوحدة الأوربية من جديد. وفي اليوم التالي تم التصويت حيث فازت الحكومة هذه المرة بثقة الأغلبية بفارق 19 صوت لصالحها.
ردود أفعال رؤساء حكومات الوحدة الأوربية
لقد فوجئ جميع رؤساء دول الوحدة الأوربية بنتائج الاستفتاء، فعبَّروا عن أسفهم لخروج دولة كبرى مثل بريطانيا من هذه المنظمة، ولكنهم في نفس الوقت، أعربوا عن رغبتهم الشديدة في إجراء مفاوضات الخروج بسرعة وخلال اسبوع. ولكن المفاوضات كانت صعبة ومعقدة استغرقت نحو عامين ونصف كما ذكرنا أعلاه.
لا شك أن دعاة الخروج كانوا على خطأ كبير، وربما سيندمون في المستقبل القريب فيما لو خرجت بريطانيا من الوحدة الأوربية، وهو أمر مشكوك به. فبحسابات الخبراء الاقتصاديين والصناعيين والمصرفيين، أن منافع بريطانيا اقتصادياً تقدر بأضعاف ما تدفعه كبدل اشتراك لعضويتها. فهناك نحو مليونين من البريطانيين يعيشون ويعملون في دول الإتحاد، و 3 ملاين عامل بريطاني داخل بريطانيا ترتبط مؤسساتهم مباشرة بالوحدة الأوربية. كذلك يقوم الاتحاد سنوياً بمشاريع عمرانية، ويقدم مساعدات للجامعات، والمؤسسات العلمية في بريطانيا تقدر بمليارات الجنيهات. أما حجم التبادل التجاري مع دول الوحدة الأوربية فتقدر بـ 240 مليار جنيه (أي ما يعادل 300 مليار دولار) سنوياً، ولا أمل لعودة من يخرج من هذه الوحدة في المستقبل المنظور.
لقد ركز دعاة الخروج على هجرة العمالة، وعلقوا عليها جميع مشاكلهم لتضليل الناخبين. في الحقيقة إن هذه الهجرة ليست سبب البطالة، فالمهاجرون أغلبهم فقراء من دول أوربا الشرقية، يقومون بأعمال يرفضها البريطانيون، مثل العمل في المزارع، أو رعاية المسنين في دور العجزة، أو أعمال تنظيف الشوارع، وعمال في المطاعم، وغيرها من الأعمال اليدوية الرخيصة التي يأنف منها غالبية العاطلين البريطانيين. ولم يشكلوا عبئاً على المدارس والمؤسسات الصحية كما ادعى دعاة الخروج، ولكن استغل اليمين المتطرف هذه المشاكل وبدوافع قومية وشوفينية لتحقيق مآربهم، وسيدفعون الثمن.
ماذا بعد رفض البرلمان لاتفاق الخروج؟
لقد حددت الحكومة يوم 29 يناير/كانون الثاني الجاري، موعداً للبرلمان ليقرر البديل عن اتفاق الخروج الذي رفضه، وهناك عدة اقتراحات من قبل السياسيين المتنفذين على الساحة، منها:
1- المطالبة بتأجيل الخروج المقرر يوم 29 مارس من هذا العام، وتمديد تفعيل المادة 50 من دستور الاتحاد الأوربي ثانية، لإعادة المفاوضات الماراثونية من جديد على أمل تحقيق اتفاق أفضل، بينما المفاوضون الأوربيون ليسوا في مزاجية تقبل هذه الفكرة إطلاقاً.
2- والاقتراح الآخر الذي يطرحه أنصار الخروج هو الخروج بدون اتفاق (Leave without deal). هذا الاقتراح لو قُدِر له التحقيق، سيكون كارثة ماحقة على الاقتصاد البريطاني.
3- إعادة الاستفتاء من جديد، لأن الشعب البريطاني الآن أكثر معرفة على مضار الخروج ومنافع البقاء.
إن هذا الاقتراح هو الأفضل، والذي أعتقد أنه سيتحقق، لأنه الوحيد القابل للتحقيق. ففي الاستفتاء القادم يُستفتى الشعب البريطاني على أن يختار واحد من ثلاثة خيارات:
الأول، قبول اتفاقية الخروج التي رفضها البرلمان بالغالبية العظمى،
الثاني، الخروج من الوحدة الأوربية بدون إتفاقية،
الثالث والأخير، البقاء في الوحدة الأوربية كما كانت بريطانيا قبل استفتاء 2016.
في رأيي أن الحل الوحيد لإخراج بريطانيا من هذا المأزق، هو العودة إلى الشعب ثانية، واستفتائه مرة أخرى حول هذه الخيارات الثلاثة، وأعتقد أن الشعب البريطاني سيصوت هذه المرة لصالح البقاء.
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
الموقع الشخصي للكاتب على موقع الأخبار