يعكوب أبونا
في الحلقة السابقة تحدثنا عن البطريرك مار روئيل ” روبين “شمعون 1861 – 1903 م ، وعن صفاته ومدى تسامحه وطيبة خلقة وسلامة نيته ، فبالرغم من تصرفات ابن عمه نمرود المشبوهة إلا انه لم يتخذ بحقه أي اجراء ، بل سمح لمراسلي رئيس اساقفة كنتر بري بأن يقدموا المساعدة للكنيسة، رغم ان مساعدتهم لم تكن بطيب خاطر وحسن نيه ، بل لاهداف كانوا يسعون لتحقيقها من خلال تلك المساعدات ، فاستقروا في مدينة اورميا، وفتحوا فيها مدارس لأبناء الامة.
كما قدمت جماعة من الراهبات لتعليم البنات بعض انواع المعرفة وبعض الفنون المنزلية. كما استقدم المرسلون طابعة جيدة ونصبوها في اورميا، وطبعت بها كتب مختارة لمساعدة واعانة الكنيسة، واختير احد المرسلين ليقيم في قودشانوس ليكون تحت امرة البطريرك باستمرار. وفي البداية قدم السيد هيزل” والسيد “براون” ، وهذا الأخير كان رجلا ماهرا وطبيبا حاذقا، عاش في قودشانوس اكثر من عشرين سنة.
كما ذكرنا بأن اوراهام بن اسحق اخو نمرود كان منذورا للبطريركية ، كما كان شمعون بنيامين ابن ايشاي شقيق روئيل البطريرك هو الاخر منذورا لهذا المنصب.
يذكر المطران ايليا ابونا في ص 143 من كتابه تاريخ بطاركة البيت الابوي، بأن نمرود واخوته أبناء اسحق لم ينتظروا العناية الإلهية التي ترتب وترسم مصائرنا بمشيئتها ، بل ارادوا ان يفرضوا بالقوة ارادتهم، حينما قدموا الى الموصل آملين ان ينتصروا ويظفروا بهدفهم متشبثون بأمل فارغ.
ويضيف: في هذه الاثناء دوّى في الموصل خبر موت البطريرك روئيل وانتقاله من العالم الفاني الى جنة النعيم. وان الأمة كلها زعقت بصوت واحد قائلة: راعينا وبطريركنا هو بنيامين وليس انسانا آخر مطلقاً.
وأخبر القيمون على شؤون الكنيسة حاكم “وان” بوفاة البطريرك كما العادة، وطلبوا منه ان يأمر باستقدام مار حنانيشوع ميطرافوليط الرستاق التي هي “شمزدين” ليرسم البطريرك ويجلس على الكرسي ذلك الذي اختاره الله واختارته الكنيسة. وللحال اصدر حاكم “وان” أمرا لنائبه حاكم شمزدين ان يرسل الميطرافوليط حنانيشوع بصحبة شلة من العساكر الى قودشانوس لرسامة البطريرك الجديد .
انصاع حاكم “شمزدين” لأمر سيده حاكم “وان” دون تأخير. وكان الشعب كله ينتظر وصول الميطرا فوليط، وقد هيئت كل متطلبات ذلك كالعادة. وحين سمع أهل بيت نمرود بذلك لبسهم الحزن واعترتهم رعدة الأسى فندموا ندما لا يجدي ولا ينفع على كل ما فعلوه.
فبادر نمرود في الحال وأبرق الى حاكم مدينة “وان” يخبره بموت البطريرك روئيل، وقال له اطلب من نائبك في “شمزدين” ان لا يرسل حنانيشوع للرسامة البطريركية وان لا يمنح الرتبة البطريركية لأي شخص حتى عودتنا الى قودشانوس ، وحين قرأ حاكم “وان” كلام” نمرود هذا اندهش واستغرب من جسارته وصفاقته. لأن الحاكم المذكور كان قد سمع بخبر نمرود وأهل بيته، وكيف انهم قد خرجوا من حظيرة الكنيسة القديمة وتبعوا الكنيسة الجديدة، متحدين مع روما، وعليه فقد اعتبر أن لا علاقة لهم بأبناء الكنيسة القديمة ان أقاموا لهم بطريركا أو لم يقيموا . لذلك أهملت المملكة كلام نمرود ، بل عملت بعكس ارادة نمرود وسعت جاهدة للاستعجال باتمام مهمة رسامة البطريرك .
وتهيأ الميطرافوليط حنانيشوع امتثالا لأمر الحاكم، وفي كنيسة مار شليطا رسم ولي العهد بنيامين بطريركا ، وكان ذلك عام 1903 م ، ودعي شمعون بنيامين. وهو البطريرك الرابع والعشرون الذي قام في البيت الأبوي وهو السابع عشر في سلسلة الشمعونيين والسابع في سلسلة بطاركة قودشانس.
وأخرجوه من الكنيسة وطافوا به باحتفال كبير حاملين القناديل المنيرة مع التراتيل والتسابيح الآلهية العذبة، ويشاطران الشعب افراحه.
وإذ اعتلى مار شمعون السدة البطريركية تقدمت بين يديه أجواق الكهنة ووجوه الشعب ورؤساؤه لتقديم التهاني، ويتقبلون بركته، وعلى أفواههم ابتسامات الفرح والانشراح والسنتهم ترفع التسبيح لله الحي المسجود على نعمه ومواهبه التي منحها اياهم وأقام لهم هذا الراعي الحكيم ، فكان الراعي التقي النقي، عمل بكل ما أوتي من قوة لحد تسليم نفسه فداء رعيته لينقذهم من الموت والفناء بسفك دمه الطاهر.
لم يكن البطريرك الجديد قد تخرج في المدارس الكبرى وتلقن فيها العلوم والمعارف المختلفة، الا أن الله له المجد قد منحه النعمه والبركة الذي لا حد ولا وصف لمواهبه وحكمته ومعرفته ليكون رأسا وملكا روحانيا لشعبه.
كان يدير بذكائه اليقظ شؤون كنيسته ويقود دفتها بحكمته ومعرفته واطلاعه الدقيق على شؤون شعبه بشكل عجيب مدهش ، يعطف على المساكين ويطعم الجياع ويغفر لحاقديه ويسامحهم . .
وكان يعامل مار اوراهام اخو نمرود الذي وقف ضده دائما هو واخوته وأقاربه بالحسنى، ويقربهم اليه ويبدي لهم الود والمحبة الصادقة ويساعدهم ويجالسهم يوميا على مائدته يأكلون ويشربون معه .
ومع ذلك فهؤلاء الناس ” يقصد نمرود وجماعته ” توسلوا ببطريرك الموصل ” الكلداني ” ورجوه أن يسعى في رسالته في المناطق الجبلية اكثر من السابق، وطلبوا منه ان يرسل لهم اسقفا ” لمدينة “وان” ، فاستجاب لذلك، وجاء المرسل وبنى قصرا كبيرا في “وان”.
وراح يرسل الكهنة والمبشرين الدومنيكان الذين راحوا يوزعون النقود بكميات كبيرة بلا عد ولا حساب على كل القرى المحيطة بمدينة “وان” و “جولميرك” .
ويضيف المطران ايليا ابونا :
لقد توفقت قليلا إرسالية البطريرك عمانوئيل وبخاصة في السنين الأولى، وذلك
بتأثير النقود الكثيرة التي وزعت على الناس، فتبعهم بعض الجماعات من محبي المال من النساطرة والارمن.
اما البطريرك مار شمعون فلم يكن ليهتم بذلك مطلقا، ولكن منذ اليوم الأول الذي جلس فيه البطريرك مار شمعون لم تهدأ النزاعات والخصومات بين ابناء الأمة السيئة الحظ، واشتدت المماحكات والانشقاقات،
وانقسمت الأمة على نفسها، فصارهناك كنيستان، الكنيسة القديمة والكنيسة الجديدة.
وبدورهم زاد الاكراد في الطين بلة، وغدوا هما فوق هم، اذ راحوا وباستمرار يمارسون النهب والسلب والقتل في الليل والنهار.
ولكن بالمقابل كانوا اذا ما ثارت بينهم نزاعات وخصومات تحيل استنبول قضاياهم بأمر رسمي الى مار شمعون ليكون حكما بينهم ينظر في مشاكلهم ويقضي بها. وكان الطرفان المتنازعان يرضخان ويخضعان لقضائه وللأوامر التي كان يصدرها بحق كلا الطرفين. وكان البطريرك يتقاضى راتبا من المملكة التركية يبلغ مقداره مائتين من الليرات سكة الذهب الخالص ، انتهى الاقتباس.
يذكر عبد المجيد القيسي في ص 5 من كتابه الاثوريون: ” كانت الحكومة العثمانية تمنح الملل ” ملت ” هم اتباع مذهب ديني معين ” غير المسلمين من رعايا الدولة العثمانية ، نوع من الحكم الذاتي والاستقلال المحلي ، فتمنح الرئيس الديني للمله البطريرك او الحاخام الرئاسة الدينية على اتباعه علاوة على رئاسته الدينية فيتولى سلطة تحكم على افراد ملته ويقتصر دورالحكومة بإرسال الموظف المسؤول عن جباية الضرائب بزيارة الملة مرة واحده كل عام ويعود بعدها الى استنبول حاملا ماجمعه من الاموال .
ويضيف القيسي لكن تمتع الاثوريين بهذا الاستقلال الذاتي لم يحقق لهم الراحة والاستقرار والامان ، فقد ظلت حروبهم من اجل الارض والمرعى والخلاف الديني مستمرة بضراوة بينهم وبين جيرانهم ،” الاتراك والاكراد ” وتكلف كلا منهم المئات من القتلى من رجال ونساء واطفال علاوة على نهب الاملاك وحرق الدور والزروعات وهدم القرى ،
ورغم حالة ضعف الحكومة العثمانية الا انها لم تتردد عن تجريد حملات تأديبية عسكرية كلما لمست من الاثوريين تباطوا في دفع الضرائب الباهضة او ميلا الى التمرد والعصيان ، وللطبيعة الجهادية لهذه التجريدات ، كما كان يسميها الاتراك ، ولانتهاز الفرصة في الثار والانتقام بحماية الدولة فقد كان الاكراد يشاركون العساكر في اعمال القمع والتأديب وما تجرإليه من ويل وثبورعلى الاثوريين.
لم يجد الاثوريون من ملجأ يلجئون إليه لمساعدتهم على التخفيف من بلواهم سوى روسيا القيصرية، فهي اقرب الدول المسيحية جوارا اليهم ولذلك ارسل مار شمعون في عام 1868 رسالة الى قيصر روسيا يناشده العون والحماية من اعتداء الاكراد.
إلا ان القيصر لم يستطيع إلى مساعدتهم سبيلا إلا التدخل عند السلطان العثماني، والطلب بتخفيف معاناة الاثوريين ، وهو طلب لم يعره السلطان اهتماما.
ولكن ما أن تغيرت الظروف والمعطيات فجلب موقع بلاد الاثوريين الاستراتيجي الهام وسط جبال حكاري التي تلامس الحدود الايرانية الروسية التركية ، كما جلبت قدرة الاثوريين القتالية وشدة باسهم انظارالانكليزوالروس، بدأت روسيا تتودد اليهم مستغلة الرابطة المسيحية بينهما ، لتأليبهم على الاتراك، كما اقدمت الكنيسة الانكليزية بتوثيق صلاتها بالكنيسة النسطورية الاثورية ، ” انتهى الاقتباس”.
كان الموقع الجغرافي الاستراتيجي للاثوريين لا يسمح لهم بالوقوف بالحياد، وكونهم رعيا الدولة العثمانية فإما ان يحاربوا معها او يتمردوا عليها ، ؟ ولما كانت ذكريات الاثوريين مع العثمانيين مريره وليس هناك ما يغريهم بالبقاء الى جانبهم او القتال معهم.
يذكر الملفونو عبد المسيح نعمان قره باشي في ص 120 من كتابه ” الدم المسفوك ” يقول في يوم الخميس 15 تشرين الثاني 1914 رفعت اعلانات على الاسوار والساحات العامة في المدن مكتوبا عليها “صدرت أوامر ملكية أنها حرب مقدسة ضد فرنسا وانكلترا وروسيا” ، لأن ملك انكلترا يتوعد المسلمين ويرغب في ابادتهم كليا وهو يقول ” لن يكون أمن وسلام في الأرض ويعيش العالم براحة اذا لم يلغ كتاب القرآن”.
ويضيف الكاتب: وهذا كان افتراء روجه الألمان ليحركوا المسلمين ويحرضوهم على الحرب وكذلك ليثيروا البغضاء والحقد على المسيحين المقميين في بلاد تركيا ” العثمانية ” انتهى الاقتباس.
وأما نينوس نيراري يذكر في ص60 و 61 من كتابه ” اغا بطرس ” عن اسباب انحياز الاشوريون الى روسيا: “بعد تنحى السلطان عبد الحميد عن الحكم وقيام تركيا الفتاة دعم الآشوريون الوضع الجديد وعلقوا عليه الآمال برفع الاضطهاد عنهم ومنحهم مزيدا من الحرية ، لكن القوميين الترك سرعان ما كشفوا عن نواياهم الخبيثة، بدعوى صهر جميع القوميات الصغيرة في امبراطوريتهم التركية من خلال عملية تتريك واسعة تبدأ بالمسيحيين كونهم اعداء وليسوا مواطنين”.
جاء في تصريح أحد المسؤولين بالحرف الواحد ” نحن نريد ان نعيش على هذه الارض اتراك فقط، اما القوميات الأخرى لتترك الارض التي نريدها مطهرة من كل غريب” ، وقال آخر: “بثقافتنا القومية، نتيح للنبتة التركية النمو والازدهار، وعليه من الواجب تطهير البلد من بقية القوميات واستئصال شافتها كنبتة ضارة وهذا هو هدفنا”. وأما تصريح انور باشا أحد القادة الثلاثة: “أنا لم اعد أطيق تحمل وجود المسيحيين على ارض تركيا”. وقد أعلن طلعت باشا عن هدف السلطة التركية باتخاذها من الحرب العالمية ذريعة للتخلص من الاعداء في الداخل وهم المسيحيين في تركيا ” انتهى الاقتباس.
هذه الآراء والمواقف الانتقامية من الآشوريين كانت قبل الحرب، لذلك ما ذهب اليه عبد المجيد القيسي في ص 9 من كتابه الاثوريون: “وما أن علم الاتراك بعزم الآثوريين على الجلاء عن ديارهم حتى تقدموا الى مار شمعون بعروض مغرية وخطط للمصالحة تقضي بوجوب فك ارتباطه مع الروس مقابل السماح له ولقومه بالعودة الى ديارهم في حكاري والبقاء فيها” .
ويضيف الكاتب: “كان هذا العرض فرصة لمار شمعون ذهبية للعودة الى بلاده والوقوف على الحياد وانقاذ من تبقى من بني قومه من مغبة القتل والعذاب .. إلا أن مار شمعون أغلق أذنيه عن نداء الأتراك ولم يملك إلا الطاعة والامتثال لقرار الروس” !.. انتهى الاقتباس .
نقول إن تاريخ الدولة العثمانية مع المسيحيين عموما والآشوريين على وجه الخصوص مليء بالاعتداءات والقتل والنهب والضرائب العالية والتتريك، كما لاحظنا هدف الاتراك وتوجههم للنيل من المسيحيين وهذا كان قبل الحرب. فكيف كان لمار شمعون أن يثق بالاتراك ووعودهم؟ وما ارتكبوه عبر تاريخهم الإجرامي مع المسيحيين عموما؟؟. فكانت الثقة معدومه بالاتراك، وتصرفاتهم الشائنة والمقيتة، لا تجعل منها وسيلة للتقارب بل كانت فرصة متاحه للآشوريين بالابتعاد عن ظلم وقمع الاتراك لهم ، هكذا كان الواقع يقرأ انذاك.
هذه الأسباب وغيرها اعتقد كانت سببا لعدم تجاوب البطريرك مع طلب الاتراك، لذلك أجد مع التقدير بأن ما ذهب اليه السيد عبد المجيد القيسي ونقده لموقف البطريرك كان في غير محله، لأن الثقة لا تعطى جزافا لأناس لا يستحقونها. والأتراك والأكراد كانوا من ضمن هؤلاء.
ومن ناحية اخرى كان لا بد من قراءة الواقع العثماني وما تمر به الدولة العثمانية من ضعف وهوان ، مقارنة بما هي عليه قوة الروس والحلفاء الانكليز والفرنسيين، فكانت الكفة لصالح الحلفاء ، كان الآشوريون يأملون التخلص من نير العثمانيين بأي وسيلة او طريقة ممكنه تنجدهم مما هم عليه ، فالتحاقهم بالحلفاء والعمل معهم وبجانبهم كان حلمهم بتحقيق مأربهم بالتخلص من الاتراك والتمتع بالاستقرار والامن وبناء مستقبلهم السياسي كما وعدهم الحلفاء بذلك . فكان قرار الانضمام الى الحلفاء مطلوبا وفق تلك المعطيات.
ففي اجتماع ديز في 18 نيسان 1915 قرروا التحالف مع الروس ، وكان هذا نص القرار: “بما أن الحكومة التركية فشلت في القيام بالتزاماتها لحماية ارواح وممتلكات الآشوريين فقد قبلت الأمة الآشورية دعوة الحلفاء وبشكل خاص انلكترا وروسيا وفرنسا بالانضمام الى قواتهم والقتال معهم حتى النهاية”.
ويذكر القيسي في ص 7 من كتابه اعلاه، بأن “ملك خوشابا وهو أحد الزعماء القبليين الكبار عارض ذلك “، انتهى الاقتباس.
وكما ظهر لاحقا بأن ملك خوشابا كان أحد عملاء السلطة العثمانية واستمرت عمالته للحكومة العراقية منذ نشأتها ولحين وفاته في 1954 م .
اعلن مار شمعون بنيامين الانتفاضة ضد الاتراك ودخول الحرب الى جانب الحلفاء في 10 ايار 1915 ، فأصبح الاشوريين في وضع الهجوم بعد ان كانوا في وضع الدفاع، فوقفوا بوجه الهجمات التركية والكردية ، فكبدوا العدو خسائر فادحة.
في 10 اب 1915 تسلم مار شمعون رسالة من محافظ الموصل حيدر بك يقول فيها: “أخوك هرمز في يدي وإذا لم توعز لرجالك بالكف عن القتال فسيكون مصير اخوك هرمز الاعدام”.
اجابه مار شمعون قائلا ” انا قائد أمة وشعبي كله كأولادي وإخوتي وهم كثيرون وهرمز اخي ولكنه واحد ، لتكون حياته قربانا لأمته “..وهكذا أعدم هرمز أخو البطريرك.
وبعد صمود اربعة اشهر في القتال، طلب الروس من الاشوريين الانسحاب من جبال هكاري الى اورمية في بلاد ايران التي كان الروس قد احتلوها ، وكان لقاء بين البطريرك مار شمعون والامير نيقولاي رومانوف بتفليس وتم تكريس التحالف ووضع خطة للعمل المشترك.
توجه الجميع الى اورمية إلا ابن عم البطريرك نمرود وعائلته بقوا في قودشانس ورفعوا العلم التركي فوق منزلهم ، كان من الطبيعي ان يبقى نمرود تحت الراية التركية كونه نائب في البرلمان التركي ، بالاضافة الى انه كان قد ترك كنيسة ابائه وانتمى الى الكنيسة الكاثوليكية الكلدانية في الموصل.
وفي 19 ايار 1915 قتل نمرود وابنه شليطا وابن أخته يوناثان وستة من أولاد إخوته في قرية قودشانس، اختلفت الروايات بسرد احداث هذه الجريمة النكراء ، فالمقربين من عائلة نمرود يتهمون ” زيا وبثيو ” من عشيرة البازيين بارتكاب هذه الجريمة، وغيرهم يتهم عشائر تخوما وباز وديز، وهناك من يتهم القس الياس والد المطران نرساي دي باز، ومجموعة من ابناء باز ومرزا ، ومنهم من يتهم البطريرك لأنه أوعز لهؤلاء لارتكاب هذه الجريمة النكراء.
ولغرض تقيم الحدث عن قرب لا بد ان نسمع لما قيل بحق البطريرك مار شمعون بنيامين.
يقول نينوس نيراري في كتابه اغا بطرس سنحاريب القرن العشرين، ص 81 – 83 : “دخل اللاجئون الاشوريون النازحون من حكاري الى ايران وتمركزوا في ثلاث مدن هي اورميا ، وسلامس ، وخوي ، وعاشوا هناك حياة صعبة للغاية ، ما بين سنة 1915 – 1916 م فكابدوا الفاقة والحرمات والعوز، وكل لوزام الحياة من مأكل ومشرب ومأوئ ، ولما علم اغا بطرس ما حل ببني قومه آل على نفسه ان يعمل المستحيل لإنقاذهم مما هم فيه، فوقف خطيبا قائلا ان وطننا غارق بدماء اخوتكم ، وقرانا محروقه ومخربة، واموالنا مسلوبه وكنائسنا مدنسة من الأتراك الأكراد ، ونواياهم الشريرة إبادة جميع المسيحيين، … ويختم خطابه بالقول صلوا ثلاثا في اليوم من اجل انتصارنا ، وصلوا من اجل مقاتلي الحلف الذين يقاتولون اعدائنا ، وبلا شك سيكون النصر حليفهم وسيتحقق لنا اعيش الكريم على ارضنا وفي قرانا بسلام وامان. ويضيف: تضرعوا من الله تعالى ان يمد في عمر البطريرك ” مار شمعون بنيامين ” الذي يعمل ليل نهار من اجل مستقبل هذا الشعب واطلبوا السلامة لعائلته الكريمه”.. انتهى الاقتباس.
ماذا نفهم من خطاب اغا بطرس وهو احد القريبين لزمن الحدث، فإن كان للبطريرك يد بمقتل نمرود وعائلته لكان آغا بطرس اول العارفين بذلك ، وإن كان عارف بذلك كيف يكون هذا خطابه وتقييمه للبطريرك الشهيد بهذا الاحترام والإجلال ؟؟ وخاصة اغا بطرس لم يكن بالرجل الذي يداري الخواطر، للقاريء نترك التقدير.
ولكن يذكر الدكتور رياض السندي في مقال نظام (نَاطِر كُرسِيَّا)- للوراثة البطريركية الشرقية- (1318- 1976)، يقول: ” لقد كُتِب الكثير عن هذه الحادثة. ودار الجدل حول دور عائلة البطريرك بنيامين في مقتل عائلة نمرود بأسرها، فمنهم من نسبها إلى تحريض وتخطيط عائلة البطريرك، ومنهم من برأها منها”. ويضيف: وبعد الإطلاع على العديد من المصادر التاريخية يمكن إستخلاص ما يلي:
نقول إن المصادر التي اعتمدها الدكتور السندي هي ما ورد بكتاب يوسف مالك خوشابا من الصفحة 26 – 28 وليس سواها .. يقول:
أولا. إنها إحدى حلقات الصراع على الكرسي البطريركي ..
نقول ان الكرسي البطريركية كان قد حسم امره منذ 1903 ، لصالح البطريرك بنيامين ، ولم يكن هناك اي صراع بين الطرفين في 1915 وقت ارتكاب الجريمة.
ثانيا. يقول إن تمرد نمرود على حرمانه من منصب البطريرك قاده إلى تغيير مذهبه من النسطرة إلى الكثلكة عام 1903، وهو أسلوب طالما كرره المعارضون للوراثة البطريركية منذ 1552.
نقول هذا خطأ لأن نمرود لم يغير مذهبه بسبب حرمانه من منصب البطريركية ، لأنه اصلا كان قد غير مذهبة قبل 1903 ومنذ زمن البطريرك مار روبين شمعون، فهذا الطرح مردود لأنه لا يستقيم مع الواقع المعاش انذاك.
ثالثا. يقول إن الخلاف بين البطريرك الشاب بنيامين ونمرود قد إنتقل من الولاء المذهبي إلى الولاء السياسي، فإنصب على البقاء إلى جانب تركيا كرعايا أتراك أو الإنضمام إلى جانب الحلفاء كعملاء لروسيا ابتداءً وبريطانيا لاحقا ..
كذلك نقول هذه الحجة مردودة من اصلها لأن نمرود اصلا كان نائبا في البرلمان التركي من الطبيعي ان يكون ولائه للاتراك ، ولم يكن هذا بالشئ الجديد عند البطريرك، ليفاجئ به الاخرين ، ولم نجد اي صراع او خلاف بين الطرفين ظاهر للعيان تحدثوا به الاخرين او المقربين على الاقل.
رابعا. يقول السندي ، إن دور البطريرك وعائلته في هذه المأساة لا يمكن إخفاؤه رغم عدم ظهوره بشكل مباشر، ويدل على ذلك، القصد من هذه الجريمة التي يمكن وصفها بالجريمة السياسية لتعارض المصالح السياسية بين طرفيها، وهذا السبب هو الاخر مردود لأنه اجتهاد في غير محله ، لأن لم يبين لنا السيد السندي ماذا كانت مصالح نمرود المختلف عليها مع البطريرك بعد ان كان قد التحق بالكنيسة الكاثوليكية من زمن البطريرك مارروئيل وليس بزمن مار شمعون بنيامين ، ومن جهة اخرى لم يكن لنمرود وعائلته اي دور سياسي وتاثير حكومي تركي مؤثر على البطريركية ، ولم يكن بامكانه ان يحد من سلطة البطريرك الدينية اوالسياسية، ليكون ذلك سببا بتعارض وتضارب مصالح الطرفين لتصل حتى الانتقام من الاخر.
ويختم السيد السندي بالقول، وهو القضاء على أي معارضة لإنضمام الآثوريين إلى جانب الحلفاء والذي أعلنه البطريرك ذاته رسميا بالحرب على الدولة العثمانية في 10 أيار 1915 في إندفاع مبالغ فيه.
نقول: وهذا الاجتهاد هو الاخرمردود جملة وتفصيلا لأن لا سند موضوعي للسيد السندي يمكن الاعتداد به ، لأنه لو كان القضاء على كل معارض للانظمام للحلفاء مصيره القتل لكانوا قتلوا ملك خوشابه ، الذي كان يعلن صارحة بأنه مناوء للعائلة البطريركية وضد شخص البطريرك مار شمعون ، فلماذا لم يقتل بل عاش لغاية 1954.
يذكر يوسف مالك خوشابا في ص 28 من كتابه اعلاه، بأن السيد ياقو مالك اسماعيل بأن مار شمعون لا علاقة له بالامر وانه تألم كثيرا لمقتلهم ،” يقصد نمرود وعائلته ” .. انتهى الاقتباس
ولكن نقول هناك من خفايا الامور ما لم تظهر لعيان بشكل واضح، منها الخلافات والصراعات بين العشائر رؤساء ” ملوك ” القبائل الاشورية التي كان يعاني منها البطريرك ، لأنها انعكست على مجرى الاحداث وأحدثت ما أحدثته، بسب تلك الصراعات والخلافات؟ في زمن كانت الأمة بأمس الحاجة الى وحدتها وكلمتها ؟. فماذا كانت نتيجة تلك الخلافات والصراعات؟؟.
من هنا نقول صراحة بأن كل المعطيات والوقائع التاريخية تشير الى عدم وجود أي صلة أو دورللبطريرك الشهيد مار شمعون بنيامين، في هذه الجريمه النكراء، لأنه ببساطة لم يكن له أية مصلحه بقتل ابن عمه نمرود، بل كانت بالنسبه له مأساة حقيقية لأنه فقد بهذه الجريمة الشنعاء اقرب الناس له.
هناك مثل يقال: “حب إحجي ، وإكره وإحجي” وهذا ما حدث فعلا للاسف بأن زمرة من المرائين والحاقدين الكارهين لعائلة مار شمعون و لعائلة بيت أبونا في القوش ، فسوّقوا أباطيل واكاذيب ، لتشويه سمعة هذه العائلة التي قدمت الغالي والنفيس من اجل كنيستهم المشرقية وعقيدتهم المسيحية، فإن مرت تلك الاباطيل والاكاذيب على البسطاء من ابناء شعبنا ، كان يجب أن لا تكون كذلك بالنسبة للمثقفين، لأنه كان الاجدر بهم ان يكونوا أعلى من هذا المستوى بقبول وتصديق الاباطيل والاكاذيب ! بل كان عليهم ان يقيموا الواقع بموضوعية بعيدا عن الانحياز والتعصب المذهبي او الطائفي او القومي!!. لأنه مهما طال الزمن ” الحق يعلو ولا يُعلا عليه”.
كما لا يفوتني أن أذكر بأنه في عام 1908 حدث خلاف بين جماعة من كهنة القوش والبطريركية الكلدانية، وأدى ذلك الى انشقاق بعضهم والتحاقهم بالكنيسة الشرقية.
في الحلقة القادمة سنتحدث عن ذلك.. بعون الله.