ابراهيم برخو/ تورنتو
يستقي القارئ اللبيب في أغلب قراءاته اليومية دروس وعبر ، ولكن ما شدني وأنا أقرأ كتاب ( أيفين … حفر في الذاكرة ) لجورج منصور، سيرة ذاتية فريدة في كل تفاصيل الحب والحرية والتضحية من أجلهما. أطلق كاتبها العنان لمخيلة مثقلة بهموم الأنسان المعاصر ، باحثا للملاذ الآمن في وسط عالم متناقض يملئه الحزن وسط عواصف القهر والظلم ، تراه في بداية المشوار متوجها بروح والده التواقة الى حيث الخلاص من البؤس والشقاء ملتجئا الى صوامع الأيمان في دير ربان هرمز في القوش ، ليهرب الوالد من جديد برفقة صاحبه في عتمة الليل خلسة ، ويبدأ مشوار الأبن كاتب السيرة في الحياة ، طريقا اخر محفور بمخاطر اكثر ، وتبدأ ذاكرته بتسجيل محاولته للخروج من أزمته في الوطن، بالسفر الى موسكو حيث الأمل المنشود مخاطرا بنفسه ، مقتحما دائرة الجوازات العراقية ليحصل على مبتغاه جوازا للسفر باحثا للحرية في زمن العبودية . حينها تنطلق شرارة الفكر بالنضوج والأنطلاق نحو الأبداع المقترن بالنضال، وتجري الرياح بما لا تشتهيه السفن بالرجوع الى أرض الوطن عبر سوريا ، وتبدأ مرحلة جديدة من النضال للألتحاق برفاق الدرب، ورحلة جديدة محفوفة بالألغام ، ودخوله ايران بتكليف حزبي ، وفي حركات وتنقلات مكوكية بين العراق وايران في زمن فاضت الدماء حتى الركب ، مع كل هذا الألم كانت هناك فسحة للحب والحياة ، ويقترن الحب مع الحرب ، وتنمو شقائق النعمان في خوذ الشهداء معلنة عن شروق جديد رغم سواد الحياة .
تهب ريح التغيير من جديد بأمر الخروج من أيران، ليقع صاحبنا في الحدود اسيرا لا يملك الوثائق ، عندها يبدأ الظلم والاستبداد على أشده لأنتزاع المعلومات عنوة من سجين عنيد في سجن أيفين الكبير في طهران. ينقل لنا الكاتب منصور مشاهدات حية لبانورما مأساة أقسى من الجلجلة (وهو المكان الذي يقتل فيه المحكوم عليهم بالموت ). مشاهدات لعذابات، النفس والجسد ، ويتحمل صاحبنا الألم رغم قسوتها ، ايفين ذلك السجن الرهيب بكل تفاصيل الحجر ، والتعذيب الجسدي والنفسي ، والسجانين المنزوعين من الأنسانية. تعذيب ممنهج ويومي ، للنيل من إنسانية الأنسان. يتحمل السجين حتى أنفاسه الاخيرة ليطلق سراحه بعد عناء لبرائته من التهمة ، ويخرج السجين للحياة من جديد نحو أفق الحياة بعد الموت وينهض من جديد اكثر صلابة وأصرار . وتستمر رحتله من جديد وبأمال جديدة ، وتلتحق شريكة حياته مع أبنه ريناد الى حيث العش الآمن في سورية في رحلة الحب والوفاء وتشرق الشمس من جديد بسقوط النظام ويبدأ مشوار أخر يملئه المفخخات، والانتحاريين، والقتل على الهوية . ليبدأ النضال بطعم اكثر مرارة ، ومسؤولية جديدة في الأعلام البديل لأعلام النظام المنهار. انها حقا رحلة جديدة موبوءة بالمخاطر والتفجيرات ، مسؤولية تنهض بالعراق نحو فضاء الحرية المعهودة .
ان الأبداع كان رديف المناضلين ، ها هو كاتبنا يعتلي أعلى منصب في الإعلام العراقي ، ومسؤولية جديدة تنقل العراق وشعبه نحو أفق الحرية والديمقراطية. ثم ينطلق لتأسيس قناة عشتار الفضاء الرحب لأعلام شعبنا الكلداني السرياني الاشوري، بغية تعريف شعبنا العراقي والعربي والعالمي بتاريخ ونضال شعبنا الصامد .
كان السرد في هذه السيرة الذاتية للنضال في قمة الحقيقة، وبلوغها أقصى معاني الصدق لسلاسة المفردات اللغوية وبلاغتها ، حيث أن منهج السير الذاتية يغلبها السرد الذاتي المقترن بهوية خطابية منفتحة ، مما يجعل السرد جنسا ادبيا مرنا ، يقبل التوغل في الذات الأنسانية دون تجرد ومنها ينطلق نحو أدب مقروء يتقبله القارئ بشغف.
للكتاب بقية لا اريد الأطالة في محتواه ، شكرا لصديقنا الكاتب والمناضل جورج منصور الذي جعل من مشاهد سيرته الذاتية درسا ومنهجا للأجيال القادمة .