لطفية الدليمي
نعيشُ اليوم وسط أجواء أبعد ماتكون عن عصر الرومانسية الثورية والفروسية الحزبية ؛ بل صار أمر الحديث عن مثل هذه التوصيفات وكأنه حديث لايليق بعصر مابعد الحداثة المقترن بمنجزات التقدم العلمي والتقني . الحديث اليوم صار عن عصر موت الآيديولوجيات الفكرية والرومانسيات الثورية و هيمنة نوازع المغالبة وكسب المغانم الذاتية وتكريس العصبيات الحزبية المكروهة .
نعم ، غابت الرومانسية الثورية وتغوّلت أخلاقيات التكريس المادي على الصعيدين الشخصي والحزبي ؛ لكن هل سيغيب الآيديولوجيون المثاليون أصحاب الأخلاقيات الرفيعة ؟ مؤكد أنهم سيبقون معالم بارزة عالية المقام . غابت الآيديولوجيات المبشرة باليوتوبيات الفكرية ؛إنما ستبقى ذكرى الآيديولوجيين ذوي المناقب المثالية الرفيعة. هل يمكن – بل كيف يمكن – أن تستقيم الحياة من غير رؤية مدفوعة بمحفّزات مثالية حتى ونحن نعيشُ وسط أعتى مظاهر التغوّل الرأسمالي الذي توّجته النيوليبرالية المتوحّشة وأخلاقيات السوق الحرة المنفلتة .
ينتمي الراحل العزيز ( ألفريد سمعان ) إلى عصر كان فيه بعض الحزبيين- بعضهم وليس جميعهم !! – أمثلة مشرقة لنبالة الأخلاق ورفعة الروح وتغليب الإيثار والعطاء على الأخذ والانتفاع ، وكان سمعان ورفقاؤه على جاهزية تامة لتقديم أرواحهم فداء من أجل مبادئ رأوها مثالية عظيمة تستحق الدفاع عنها وبذل الروح في سبيلها . هي رؤية رومانسية بالتأكيد ؛ لكنهم كانوا مقتنعين بها بكامل إرادتهم الحرة . يأخذني العجب دوماً كيف يمكن لرجالٍ يؤمنون بمبادئ ( المادية الجدلية والمادية الديالكتيكية ) في نسختها الصارمة أن يقدّموا حياتهم طُعْماً للمشانق وهم يعرفون أنّ المادية الجدلية بعيدة كل البعد عن تقديم عزاءات غيبية لمرحلة مابعد الموت ؟ هل يمكن أن نشهد رومانسية أعلى من هذه الرومانسية التي تسعى لنصرة الانسان و الفئات المسحوقة ولاتطلب شيئاً لنفسها ؟ كم منّا من يتحمل أن يُساق في ( قطار الموت ) الذي أراده القتلة مقبرة متحرّكة لرومانسيي الفكر المثاليين الصامدين ؟ من ذا الذي يستطيع التفكير – ولو مجرّد تفكير – أن يكون أضحية مكرّسة دفاعاً عن الشعب وحقوقه وسط حفل الشواء والانتقام الوحشي؟ هذه مقدرة بشرية لايستطيعها إلا أفراد تكمن صلابتهم الروحية في مثاليتهم الأخلاقية وترفّعهم عن صغائر الأفعال ، لقد كان الراحل العزيز ( أبا شروق ) متصفاً بكل هذه الصفات الرفيعة التي يندر أن نرى نظيراً لها في أيامنا أو في قادم الأيام .
لم يكن ( أبو شروق ) منكفئاً في عالم المثالية الرومانسية ومكتفيا بكلّ ماتقدّمه للروح من رفيع الخصال ، بل كان يعيش الحياة اليومية بكل تفصيلاتها ومجابهاتها، وكان له رفقاء وأصحاب ومحبون كثيرون ، ولم يكن ليتقاعس عن مدّ يد العون – بكل أشكاله الممكنة – لمن يحتاجها سواء بخبرته القانونية الواسعة أو بكرم خصاله ونزاهته الفريدة. لن أنسى يوماً أنّ ( أبا شروق ) هو من كان يتفقّد أحوالي كل بضعة أسابيع وأنا مقيمة في عمّان ؛ بل بلغ به الأمر أن يتكفّل بإنجاز معاملة ( القسّام الشرعي ) التي كنتُ في مسيس الحاجة لها ، وقد أنجزها وأرسلها لي متحمّلاً كلّ المصاريف والقرف الذي يصاحبُ مثل هذه المعاملات في دوائر فاسدة متهالكة إعتادت الرشى والسلوكيات المرهقة مع من يضطره سوء الحظ لمراجعتها ، وأعرف شخصياً الكثير الكثير من مواقف النبل الأخلاقي وكرم الروح التي وقفها الراحلُ العزيز تجاه كثيرين سواي .
أبا شروق العزيز : الذكر الطيب لك في قلوبنا وضمائرنا أيها الرومانسي الثوري الجليل .