زوعا اورغ/ حنا شمعون/ شيكاغو
آخر إصدار لفنان الأمة، اشور بيث سركيس، جاء يحمل عنوان طربٍا اي الورقة وهو عنوان احدى اغاني هذا الألبوم القرصي الذي جاء مع كُتيب صغير مدون فيه كل أغاني الالبوم المكتوبة بقلم آشور الشاعر، وهي ثمانية ملاحم. اقول ملاحم (وهو تعبير استخدمته لأغاني دشتا دنينوي) لأنها هكذا في الموسيقى والكلمات وان كنت لا اعرف تفاصيل الموسيقى بدقة، لكني اعرف تفاصيل الشعر: كلماته، وزنه، وفحواه. الشعر هو بحد ذاته موسيقى ولذا فان الشعر الذي يكتبه آشور هو وفق الموسيقى اي انه خاص للغناء. انه اختصاص يتقنه آشور بحرفية، وانا من كل الذي قرأته واعرفه ليس هناك فنان آخر يكتب كل كلمات أغانيه. بصراحة لا أفضل ان ينحى هذا المنحنى المغنون الآشوريون، لكن بالنسبة إلى آشور فإني أكاد بالمطلق أريده وادعوه ان يستمر على المنوال لأنه مؤهل لذلك في الخيال الواسع الذي يغوص فيه وفي الذي يمتلكه من مفردات القاموس اللغوي وما يسعى اليه في اختيار الوزن الدقيق المشفوع بالقافية التي تتوج الوزن.
في هذا الألبوم كما في دشتا دنينوي يبرهن آشور انه مازال رابضاً في قمة العطاء والأداء. وفي أغنية طربٍا يسرح آشور بصوته الرخيم وضربات كَيتاره البنفسجي في أعماق تاريخ آشور وعبر ورقة سقطت من شجرتها على الأرض يسرد لنا تاريخ الأمة. عشرات المرات وأكثر سمعتها ولم اتعب من سماعها، لماذا؟ لأنها قمة في الموسيقى والأداء والكلمات. ما من كلمة نطقها اشور الا وصاحبتها الموسيقى كما يصاحب الظل الشخص في يوم مشمس. الأبداع في انتاج الأغنية هذه وأخرى يأتي جراء الدور الذي لعبه فنان الأمة مع كل من آشور (ايشو) بندليروس ونينف ارسانوس المسؤولين على التسجيل واضافة الموسيقى لترتيب مطابقة نطق الكلمات مع الموسيقى بدقة تامة (مخ قطوا).
ماذا أقول عن قصة الورقة الساقطة من الشجرة، انها قصة سقوط واحدة من أعظم الامبراطوريات في تاريخ العالم، وتشهد بذلك الألواح وجنان نينوى وموطن بيت نهرين وهذه ليست مصطلحات من عندي، بل مصطلحات وردت ضمن كلمات الأغنية. اشور بت سركيس هنا يمزج تاريخ آشور مع حالة سقوط الورقة التي كانت في عزها فَرِحة مع الأغصان والجذر الذي يسند غصنها، لحين سقطت وصارت الحشرات الزاحفة تعظ فيها وتأكل من جلدها. أليست حالنا الآن هكذا ايها القارئ العزيز. الم يصل الشعب الآشوري الى هذا المآل حين احتلت الحشرة داعش مدينة الموصل لتعبث بآثار المدينة والمدنية.
يختم آشور هذه الملحمة عن سقوط ورقة كانت مخضرة وزاهية لتناجي ربها في الأعالي ومن على الأرض وهي بعيدة عن الملكوت التي سقطت منها الّا هي الشجرة التي تمثل الموطن وهو “بيت نهرين ايلا موطاني” آخر جملة في هذه الأغنية الرائعة بكل معنى الكلمة، وبعدها يبدأ الفايلين في بث موسيقى الفراق الحزينة.
ثمان وعشرون سطراً، كل يحمل حكاية خاصة، ضَمَّنها آشور في كلمات هذه الأغنية. وهذا لم يحصل في سنة أو سنتين، بل قل خمسة عشر سنة وأكثر حين اسمعني آشور هذه الكلمات وكان يعيش في بيت مؤجر ومتواضع في شيكاغو وزرته واسمعني مقاطع منها وشرح لي مغزاها وطلب رأيي فيها.
الأغنية عند آشور هي مشروع ضخم ولذا فإنه يخطط له على مهله. ولا يستعجل لأنه يعرف ان ” اغنية جيدة خير من عشرة رديئة.” كما اوردنا سابقاً، وهو قول معلمه وليم دانييل.
طربٍا تستحق التأمل في معناها وان كان صعباً علينا تفسير كل معانيها لان آشور حين يكتب لا يكتب السهل الذي يستوعبه المستمع لكنه يكتب الذي هو فيه مقتنع. فهو يخطط ويتخيل ويصبر ثم يغني…
براتا دخولماني / فتاة أحلامي هي اغنية عاطفية بإيقاع سريع، ولذا فهي سماعية وطربية، وتصلح او بالأحرى تدعوكم الى ترديد الكلمات مع آشور حين تستمع اليها منفرداً وخاصة ان كان ذلك في السيارة وللذين لهم المعرفة بالموسيقى تتحول معرفتهم الى الضرب على المقود او اي مسطح قريب بالكف او الأصابع لأن النغمة مؤثرة والكلمات قوية فهي كلمات حب من الدرجة الاولى فيها الوصف وفيها التشبيه. الحب في الوصف عند آشور ان كان بالعدد فهو كنجوم السماء لا يحصى، وان كان بالكَم فهو أكبر من البحار كلها. اما في التشبيه فهو كالسمكة التي بمهارة تسبح في الماء او كالحمامة التي انسيابياً وعالياً تطير في الهواء.
لا أحد يكتب كلمات الحب مثل آشور، ليس الآن لكن من زمن بعيد. انا لا أستطيع ان اجاريه فيما يتخيل ويتصور. هل تذكرون اغنيته حين يقول انا لست من هذا الكون. فحقاً كلماته هي من على مشارف نهاية هذا الكون. لا قياس لحبه ولا حدود، وهذا ليس عشقه فقط بل عشاق الدنيا كلها من اي دولة أو بشرة يكونون. فحتى وجه الحبيبة هو كالنجم. انه يسرح بالعشق في أعماق هذا الكون.
يا من جربتم العشق أسألكم هل رأيتم أفضل من هذا المترجم:
عيوني غدت أسيرة طرقاتها وهي [عيوني] تعيش بأمل عيونها
لا حاجة ان أفسر القول، فأنتم تعرفون المقصود، وكفى.
الحب ليس دوماً مفروشاً بالورود والذي يسلك سبيله لا بد أن يعاني ويضحي وعوائقه احياناً صادمة. الأغنية التالية تتناول هذا الموضوع وهي بعنوان ماني بيي خوبا/ من يريد حباً. في الأغنية السابقة لم يكن للحب حدود وهنا نرى هناك من يريد ان يتخلى عن الحب وينادي على الجدد الواقعين بالحب (خاثي نبٍيلي بخبا) ان يعطيهم الحب مجاناً.
الذي حيرني في كلمات هذه الأغنية ان آشور حسب فهمي يكتبها بالطريقة العراقية الجنوبية. الجنوبيون يستعملون كلمة “يما” العراقية الأصيلة بدلاً من امي العربية وذلك لأجل النجدة من عذاب الحب. مرة أخرى حسب رأي ارى ان آشور يستعمل هذه الكلمة وهو محق في استعمالها فهي من صميم لغته الآشورية. الذي دعاني الى هذا التفسير هو استعماله لكلمة “هاور” التي هي صراخ النجدة. وكلمة زًاري التي هي تعبير عن الأسف الشديد. واظن ان الكلمات الثلاث: هاور، زًاري، يمّا هي قديمة قدم حضارة بيث نهرين.
كلمات هذه الأغنية ليست وفق اي قاعدة شعرية بل وفق موسيقة مختارة ، انا اظن هنا ان آشور استوحى الموسيقى الإيقاعية اولاً ثم جاء بالكلمات ورتبها على ايقاع الموسيقى.
الأغنية التالية “دوراشا” التي ليس لها ترجمة حرفية الى العربية فهي المناظرة وهي الجدال وهي الخصام وربما ان مزجنا الترجمات الثلاث علنا نصل الى بعض الحقيقة. إني أقف امام هذه الأغنية حائراً وذلك لحبكة كلماتها وسحر موسيقاها، لا بل قل سحر موسيقاها. بصراحة أنى لست مؤهلاً لإدراك معانيها القوية المحبوكة كالنقش الجميل على حجر مسلة من زمن الآشوريين القدماء أقف أمامها مبهوراً ولو اجتمع كل ادباء الدنيا ليفكوا رموزها، ما أفلحوا.
اما الصورة في الكتيب المرفق مع الألبوم فهي تصور بعض الذي جرى في هذا الجدال الذي هو من طرف واحد لأن الطرف الثاني كرسيه فارغ.
تذكرني هذه الأغنية بأخرى شبيهة جاءت في دشتا دنينوى وكانت بعنوان “لا لاخا ايتوا” اي لم يكن هناك أحد، المرتبطة بأخرى اسمها بوخا دستوا. هكذا سيظل اشور يقدم لنا العشق من الجانب الذي يثير المشاعر وهذا هو ديدن العشق دوماً، فإن كان بلا مصاعب فهو امر نادر الحصول.
هذه اغنية بكلمات وعبارات تقفز الى مخيلة آشور فقد لا تكون السطور مرتبطة لكن بالتأكيد متانة القافية هي التي تربط كل فكرتين وتشدهما الى بعضهما.
Q’ali eelih shtiq’a Sawri eelih priq’a
ثم يقول:
Dorasha d layleh q’at’ileh q’a bina d yoma
Alpaayee d shitq’eh khniq’lon zemri lakhoma
[q’ = ق; t’ = ط]
وعذراً ني استعملت الحرف اللاتيني، فحالياً لا أمتلك الحرف السرياني لأكتب به. وفضلتُه على العربي بسبب التحريك.
القافية الاولى جاءت في السطر الواحد وفي المثل الثاني جاءت لتختتم سطرين.
وكل هذا من اجل ربط الكلمات ببعضها إيصال الفكرة مع توافق الموسيقى.
القافية عند آشور غالباً لا تكون عامودية تأتي في نهاية السطر، بل يمكن ان نراها في السطر الواحد وحتى في كلمتين، وكل هذا لأجل الموسيقى الشعرية التي تحبذ الأذن سماعها، ولأجل الذوق الجميل التي يرتاح لها الذهن عذوبة ًوسمواً.
كما ان آشور دوماُ يكثر من المرادفات او المضادات في السطر الواحد وفي هذه الأغنية يذكر: يوما ليلي، شميا ياما، دوراشا شتقا، قيطا ستوا، لخا مخا، كثاوا شيابٍا.
وكل هذا من اجل الجمالية اولاً ومن اجل تسهيل إيصال الفكرة الى المستمع. اشور يحب الابتكار والجديد، والكلاسيكية ليست من اختصاصه لأنها مملة.
كَيرا (السهم) اغنية حب على عكس دوراشا، فهي كلها كلمات رضا ومودة رقيقة للحبيبة والسهم المنوه عنه هنا هو ذلك الرابط النابع من شريان الحبيبة التي تريد أن توصل حبها الى الحبيب والأخير بكل جوانحه يقبل ذلك ويشكر الباري تعالى على كل الذي حققه له، إذ زرع ضوء من عين الحبيبة في عينه.
واحد من سطور هذه القصيدة تقول ترجمته:
مثل وليد خُلِقَ في الدنيا هكذا خَلقتَ الدنيا في روحي
تختم القصيدة الثابتة في الوزن وموقع القافية القافلة لتقول ان قلبه مليء من حبها وسهمها المرسل من شريانها سوف يحفظه ملصقاً على قلبه. يا لها من رومانسية خارقة.
الأغنية تصلح للمحبين المقبلين على الزواج وهي خير اغنية ليرقص على أنغامها العروسة والعريس فكلها حب وود وتفاهم وتحقيق الأمل.
نشرا د تخوما كتبها فريدون اتورايا ولا اعرف من هو ملحنها، وهي حقاً تبعث الشعور القومي في البدن كالنار في الهشيم اليابس، حين السماع اليها. غناها كثيرون ويجب أن يغنيها كل مطرب آشوري. على مطربينا ان يتباروا في غناها مثلما يفعل اصحاب الصوت الجميل في انشاد “امرلي عيتا” لأثبات قوة أصواتهم.
آشور غناها بقوة ووضوح بحيث تلتقط كل كلمة ولا استبعد انه أبدل او قدم او أخر بعض الكلمات ليستقيم اللحن.
وحق الحق إني لا أشبع من سماع هذه الأغنية بأداء آشور الرائع. انها ترجعك الى مائة عام لتشعر مشاعر الخالد فريدون اتورايا وهو يكتبها لتبقى الشعلة وقادة بأيادي القوميين الآشوريين تنير الدرب للسائرين على منهجه. بالمناسبة فإن كلمات الأغنية توحي الى ان المناضل فريدون اتورايا كان يسعى للشهادة ويضحي بنفسه لأجل ان تكون نينوى قبلة الآشوريين المعاصرين، وهذا الذي حصل فعلاً.
لم اكن اريد لأنهي سماعي لهذه الأغنية التي تلهب احاسيسي القومية، لكن كان علي الاستمرار في تكملة هذا التقرير للاستماع الى اغنية اخرى ولذا انتقلت الى اغنية “قريبايا” اي الغريب وفي هذه الأغنية يبدو لي ان آشور يستعمل كلمات من غير لهجته الاورمية، فهو استعمل كلمات أكثر تداولاً في دشتا دنينوي مثل قريبايا، زالي، مآها، مخ، شمّالا، برييا.
كما رأيته يتنازل عن الكَيتار– حسب سماعي — وعوضاً نه يوظف الفايولين الذي يعزف الحنين احياناً في هدوء وأحياناً في ايقاع سريع، كأنه يستعجل في الرجوع الى نينوى الحبيبة، لكن طريق نينوى مسدود فيرجع قافلاً الى غربته ليقول:
Orkha D Ninwi lilah ptakha
Ganta dwerta q’a malakha
اي تشبيه رائع هنا ل جنة هي موطن الملائكة ونينوى العظيمة التي هي الموطن الأصلي ل آشور، فكيف يكون ان تحرم الملائكة من موطنها الوحيد ويحرم آشور بيث سركيس من نينوى موطنه الفريد من نوعه، ليبقى غريباً، يجف نهره رويداً رويداً ويتحول الى صحراء جرداء!!
ماثينه/ قريتنا تأتي هنا لتتوج اغاني هذا الألبوم الرائع، اغنية تذكرنا بالربيع والجمال والبهجة عبر كلماتها وموسيقاها. قرية آشور هي نموذجية فهي القوش وهي منكَيشي وهي ارادن وهي ايني دنوني، وكل قرانا. سطوح منازل القرية تربط الأرض بالسماء حتى تحسب ان النجوم تكاد تحط على هذه السطوح. نهر صغير قرب القرية يجري والناس تحتفل بشاري (تذكار) القديسين فرحين جذلين. انه عرس الطبيعة وفتيات جميلات يرقصن في هذا العرس ليتحول إلى عرس حقيقي كما يغنيها آشور [للأسف في تدوين القصيدة في الكتيب غاب هذا البيت] لان احداهن أسقطت صاحب الأغنية في شباكها فكانت الطليبوثا بوساطة وجهاء القرية وكانت الموافقة ليحل العرس في هذه القرية النموذجية ويكون الخكَا لنسمع صوت كورس المنشدات يغنين الردة او قل راقصات في الخكَا السريع احياناً والثقيل احيناً اخرى بملابسهن الفلكلورية ويرافقهن أصوات الدولا والزورنا. حسب احساسي الن الخكا هنا يمكن أن يكون شيخاني دطورا او خكَا يقورا يبرز مفاتن الراقصات بالذات. هذه الأغنية حقاً تجسد الربيع في قرانا، ولذا فإني لا أشبع من سماعها مراراً وتكراراً.
في الختام لا بد أن اقول هذا الألبوم كبقية البومات آشور بت سركيس يعبر عن مشاعري واحاسيسي ولا امُلّ من الاستماع اليها جميعاً، واعترف هنا اني نشأت احب الأغاني الفولكلورية: الكردية (تحسين طه) والسورث (ألبرت روئيل) وكذلك العراقية ( حسين نعمة، سعدون جابر)، لحين سمعت و تمعنت في اغاني آشور بت سركيس فأصبحت مغرماً بها أكثر من غيرها بسبب قوة كلماتها ورقي موسيقاها، إضافة الى صوت آشور المشحون بالأحساس والرقة، والذي زادني حباً لها هو شخصية آشور المحبوبة ليصبح ليس فقط فناناً احب سماع أغانيه بل فنانا اكن له كل الاحترام بسبب مواقفه القومية الصادقة والمضحية، وهذا الذي يشدني الى اغانيه أكثر وأكثر.
يسرني هنا ان ارفق الرابط لمقالتي عن البوم دشتا دنينوي، وقد اخذ مكاناً في الملف الشخصي عن اشور بيث سركيس في صفحة الويكيبيديا.
https://web.archive.org/web/20120310221803/http://khabour.com/ara/index.php?option=com_content&task=view&id=1061
حنا شمعون/ شيكاغو