د.عبدالخالق حسين
لم تكن العلاقة بين العراق والسعودية جيدة منذ تأسيس الدولتين في أوائل القرن العشرين. ولكن كانت هناك فترات تخف فيها شدة العداء. وحتى في الفترات التي كانت تبدو العلاقة حميمة في الظاهر، كما حصل خلال فترة حكم المستبد صدام حسين، كان القصد من وراء ذلك هو تدمير العراق وإيران معاً، حيث دفعت السعودية صدام حسين، وبأوامر من أمريكا، بشن حرب بالنيابة على إيران، وقالوا له (منا المال ومنك العيال، أي الرجال). وسرعان ما تحولت هذه العلاقة (الحميمة) إلى عداء شديد بعد أن قام المجرم صدام باحتلال الكويت.
و رغم عداء السعودية للبعث الصدامي فيما بعد، إلا إنها كانت تفضل إبقاء هذا النظام الجائر ليواصل اضطهاد الشعب العراقي، وجعله ضعيفاً وفقيراً، وتحت الحصار الاقتصادي إلى أجل غير معلوم، ولتستفيد السعودية والدول الخليجية في تصدير المزيد من النفط لتعويض السوق من حصة العراق بسبب الحصار. وإذا ما قدرنا أن حصة العراق من تصدير النفط آنذاك تقدر بحوالي 40 مليار دولار سنوياً، وهذا يعني أنه خلال 13 عاماً من مدة الحصار، تكون الدول الخليجية قد استفادت بنحو 520 مليار دولار على حساب العراق. لذلك فعندما قام المجتمع الدولي بقيادة أمريكا، بإسقاط الحكم الجائر، راحت السعودية تثير الفتنة الطائفية في العراق، وتبعث آلاف الإرهابيين لإفشال الديمقراطية والعملية السياسية. وقد عانى الشعب العراقي الكثير من الدمار في الأرواح والممتلكات. ولكن بعد 15 عاماً من سياساتها الخاطئة، وما تعانيه من مشاكل داخلية وخارجية، أدركت السعودية أن من يزرع الشر لا يحصد إلا الشر، لذلك حاولت تغيير سياستها مع العراق، وفي هذه الحالة، من مصلحة البلدين تبني سياسة سليمة.
إن سبب كتابتي هذا المقال، هو مقال نشر في صحيفة الحياة اللندنية، للكاتب والإعلامي العراقي المعروف، الدكتور حميد الكفائي، بعنوان: (التقارب السعودي– العراقي: عودة الأمور إلى طبيعتها)، والذي كان متوازناً يمثل صوت الاعتدال، بعيداً التهريج والتصعيد والإثارة، حيث رأى الكاتب أن هذا التقارب يصب في مصلحة البلدين، وأن العراق بوضعه الهش، بأمس الحاجة إلى علاقة طبيعية ليس مع السعودية فحسب، بل ومع جميع دول العالم. وهو كلام صحيح أيدناه بقوة.
ونظراً لأهميته، قمتُ بتعميم المقال على أصدقائي ومعارفي، وأعدت نشره على صحيفتي في الفيسبوك. وكالعادة جاءت التعليقات متباينة، بين مؤيد ومعارض، سواءً على مواقع التواصل الاجتماعي، أو مجموعات النقاش. وهذا متوقع، خاصة عودة العلاقة مع السعودية التي كانت حتى وقت قريب ترسل الإرهابيين للعراق. وعذر المعارضين للتقارب، أن النظام السعودي هو نظام رجعي وعميل لأمريكا، وفي حالة تحالف غير معلن مع إسرائيل، وأنه حديثاً قام بإعدام 37 مواطناً سعودياً بريئاً. كما ويرى آخرون أن السعودية وحتى أمريكا، على وشك الإنهيار، لذا لا داعي لهذا التقارب.
وعلى قدر ما أرى الأمور، أنا لا اعتقد أن السعودية على وشك الانهيار، أما عن إنهيار أمريكا والأنظمة الرأسمالية الغربية، فقد سمعنا به لعشرات السنين، ومع الزمن أمريكا والأنظمة الرأسمالية وكافة الدول السائرة في ركابها هي باقية وفي صعود و ثراء فاحش، والحكومات الثورجية الدكتاتورية البائسة هي التي تنهار من سيئ إلى الأسوأ.
فالعراق كان مبتلى بأبشع نظام دكتاتوري همجي، تسبب بهلاك أكثر من مليوني عراقي، و نحو مليون إيراني. ومئات المقابر الجماعية، والأنفال وحلبجة، والهجرات المليونية إلى الخارج، وجاءت أمريكا فحررت الشعب العراقي من أبشع نظام عرفه التاريخ، وأقامت فيه نظاماً ديمقراطياً. وإذا ما حصلت جرائم وإرهاب وفساد بعد 2003، فالخطأ ليس من أمريكا، أو النظام الديمقراطي كما يشيع أعداء الديمقراطية من أيتام البعث الساقط وأشباههم، بل ناتج عن صعوبة المرحلة وما رافقها من التركة الثقيلة لنصف قرن من النظام الجائر والحروب العبثية وآثار الحصار، و فشل العراقيين في حكم أنفسهم بنظام ديمقراطي. وإلا لماذا نجحت الديمقراطية في جميع الدول التي ساعدتها أمريكا مثل كوريا الجنوبية التي كان شعبها أكثر تخلفاً، وأشد فقراً من الشعوب العربية في الخمسينات من القرن الماضي، واليوم بفضل علاقتها الحميمة مع أمريكا ونظامها الديمقراطي، تعتبر رابع أو خامس دولة إقتصادياً وصناعياً. لذلك يجب عدم تعليق غسيلنا القذر على شماعة الآخرين فالعيب فينا.
أما السعودية فهي دولة وهابية إرهابية مجرمة و مصدر الإرهاب، وقد عانى العراق بعد سقوط الفاشية الكثير من جرائمها، ولكن الآن وبعد أن أدركت عدم جدوى سياساتها الخاطئة، جنحت للسلم مع العراق. فأيهما أفضل للعراق، مواصلة العداء مع السعودية، وبالتالي مواصلة الأخيرة في إرسال الإرهابيين ونشر الموت والدمار في ربوعه، أم كسبها وتحييدها، أو حتى تحويلها إلى دولة صديقة تدعم الأمن والإستقرار وإنعاش الاقتصاد العراقي؟
أما إذا كان التقارب العراقي- السعودي يثير غضب إيران، فالعراق دولة مستقلة ذات سيادة، يجب على الحكومة العراقية الاهتمام بمصلحة شعبهاً أولاً وأخيراً، وأن لا تنجر إلى سياسة المحاور، بل ومن فائدة جميع الأطراف أن تكون للعراق علاقة إيجابية مع الجميع.
فالعراق وبعد نصف قرن من الدمار الشامل، وقد أنهكته الحروب العبثية، وآثار الحصار والاستبداد، مازال في قسم الإنعاش، وليس بإمكانه معاداة أية دولة، أو محاربة السعودية ومعاقبتها على سياساتها الخاطئة، أو تقديم الدروس في الأخلاق للدول المارقة، فالمطلوب من العراقيين معالجة مشاكلهم أولاً قبل معالجة مشاكل الآخرين. لذلك فالذين يحرضون العراق على معاداة السعودية وأمريكا، طبعاً ليس كرهاً للدولتين الأخيرتين، بل لإرباك السلطة العراقية، وتضليل الشعب، وإفشال الديمقراطية والعملية السياسية في العراق، وبالتالي نشر الفوضى العارمة، وتهيئة الأجواء لعودة البعث الفاشي أو أي نظام دكتاتوري آخر يواصل الدمار.