منذ نهاية الحرب اللبنانية، ورسم الخارطة السياسية التي ارتكزت على صيغَة الغالب والمغلوب، بعكس ما أعلن ألا غالباً ولا مغلوباً، كان المسيحيون هم الخاسرين وتم التعامل معهم وفق هذا الأساس، فأبعدوا وابتعدوا عن مراكز صنع القرار، وأصبح حضورهم كديكور لاستكمال الصورة الطائفية التي يقوم على أساسها البلد. ولكن بعد اغتيال الرئيس الحريري تغيرت المعادلة فأنتجت غالباً ومغلوباً جديدين ضمن المحيط الإسلامي نفسه، ففسح هذا الواقع الجديد حيزاً ليشغله الحضور المسيحي من جديد، فتعود القوى السياسية الممثلة لنبض الشارع المسيحي.
الرئيس القوي
اختتمت مرحلة الصراع لتثبيت الحقوق المسيحية التي بدأت في العام 2005، بانتخاب الجنرال ميشال عون، رئيساً للجمهورية كأول رئيس بعد الحرب يملك ثقلاً شعبياً وتمثيلاً برلمانياً، توازياً مع مصالحة تاريخية بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، لتبدأ مرحلة جديدة لإعادة هذا الحضور داخل مؤسسات الدولة، ولكن للأسف اصطدمت هذه المرحلة بعائقين الأول داخلياً ضمن التركيبة السياسية المسيحية، والأخر مع عموم الطبقة السياسية الرافضة لعودة المسيحيين القوي، وربما كانت صعوبة تمرير انتخاب الرئيس من قبل يعض حلفاءه خير مثال على ذلك.
خطر الإستئثار بالسلطة
الصراع على تقاسم كعكة المناصب الحكومية هو ما نشهده اليوم بين القوتين المسيحيتين الأكبر، والذي نخشى ان يؤدي في النهاية الى العودة الى نقطة الصفر، فعدوى الاحتقان المتصاعد من القاعدة من المناسب ألّا تصيب مراكز صنع القرار فنعلن انتهاء شهر العسل بين الغريمين. وهنا نشخِّص حالة مسيحية طالما تكرَّرت على مر التاريخ اللبناني، والأفضل للطرفين دراسة تجربة حزب الله مع حركة أمل، والذين أقرا المناصفة على رغم أن الحزب يعلم أن الحركة لا تملك الحضور الجماهيري والذي يمنحها هذه المناصفة، إلا أنه يفعل ذلك ايماناً منه بضرورة الحفاظ على البيت الشيعي من جانب، ومن جانب آخر يبقي مظلة الحركة بما تملكه من حضور سياسي تعطي شرعية للطائفة طالما هو غير قادر على اختصارها به، فعلى الرغم من أنَّ الثمن كبير إلا أنه يدفعه حفاظاً على هذه الثوابت، ورغم أننا لا نستطيع إسقاط التجربة كاملة على الواقع المسيحي، لأسباب عدة لا يمكن حصرها بالاختلاف الاستراتيجي في التعاطي مع قضايا لبنان والمنطقة بين الغريمين المسيحيين.
ارتباط العقلية المسيحية بالسلطة
إن الشرق المسيحي في هذه اللحظة التاريخية هو بحاجة ماسة الى استمرار “تفاهم معراب”، وبدل الانشغال بهدمه بمعول الأنانية والمصالح الآنية، كان يجب العمل على ان يتمدد تأثيره الى عموم هذا الشرق، هذا طبعاً قبل ان يتمدد الى عموم مسيحي لبنان والذي بالتأكيد لم يحصل، لا بل تصدعت اغلب التحالفات التي كانت قائمة وتحولت الى خلافات وصراعات حادة، تضعنا في تساؤل لماذا يحصل هذا مع المسيحيين، ولماذا يتكرر دائما في كل حقبة تاريخية؟.
مشكلة تركيبة المسيحيين اللبنانيين أنها تحمل إرث تكوين الدولة والسلطة يضاف إليها سنوات من السيطرة الإقتصادية. ومن جانبٍ آخر فإن مفهوم الزعامة والقيادة يكمن في الشعور الداخلي لكل مسيحي، فمفهوم أنَّ الدولة هي ملكٌ صرف لهم وهم من وضعوا أسسها وأعطوها هويتها الحالية، إضافة الى ما كان لهم من سيطرة اقتصادية على عموم البلاد، لا يزال مترسخاً ضمن الفكر الشخصي والمجتمعي. وعلى رغم فقدانهم للسيطرة على الدولة التي أنشأوها ولعصب الاقتصاد أو على أقل تقدير أنهم لم يعودوا كما كانوا سابقاً ولم تعد مقدرات الدولة بيدهم، إلا أن ما يحملوه من فكر السلطة لا يزال ضمن العقلية التي تحركُ انفعالاتهم وقراراتهم وسياستهم الاستراتيجية.
وهذه السلوكيات التي اكتسبها المجتمع ككل، نراها واضحة ضمن تعاطي أي قائد أو زعيم سياسي حتى لو كانت نشأته وخلفيته من عائلة خارج الزعامات التقليدية أو صاحبة النفوذ الاقتصادي. لذلك يحتدم الصراع دوماً بين كل تلك الزعامات، ولا تستطيع أي زعامة فرض إرادتها ومهما كانت تملك من حضور شعبي أو قوة على الزعامات الأخرى، وفي الوقت ذاته لا يمكن لتلك الزعامات السياسية أن تلتقي ضمن مشروع سياسي مشترك، فكلٌ منها ستخشى ان يبتلعها الآخر، فيما تسعى هي الى ابتلاع الاخرين واسقاطهم، ما يولد عدم ثقة مستمراً بين الأطراف المسيحية، وكما قلنا لأن لكلٍ منها إرث الهيمنة على السلطة بكاملها، ما جعلها في حال صراع مستمر منذ تأسيس الجمهورية.
ضرورة استمرار “تفاهم معراب”
إن صعوبة استمرار “تفاهم معراب” يأتي من هذه النقطة بالأساس، سواء كان التأثير داخلياً من طرفي التفاهم، أو خارجياً من الأطراف غير المشاركة بالتفاهم. فالطرفان كما أسلفنا كان هاجس ابتلاع أحدهم الآخر أو توسع احدهما على حساب الآخر واضحاً للعيان، فيما مخاوف احدهم من الآخر أيضاً لم تكن خافية. وفي الوقت ذاته كان الشعور لدى الاخرين بأن التحالف يستهدفهم ينطلق من الهواجس نفسها، وهذا للأسف داء الزعامات المسيحية والذي سمح لشركائهم بالوطن دوما من التمدد سياسياً على حساب الحيز الذي يتركه هذا الصراع فارغاً لينفذوا من خلاله.
النموذج “البشيري” في أحادية القيادة
ربما كانت الفرصة الوحيدة التاريخية التي كانت يمكن أن تكسر شوكة هذه الزعامات، وتؤسس لحضور مسيحي قوي على عموم الساحة اللبنانية، تمثَّلت عند انتخاب الرئيس الشهيد بشير الجميل. فبشير أخضعَ بقوة السلاح جميع الزعامات وأجبرها في حينه على الرضوخ مرغمة لمشروع سياسي واحد، وبعيداً عن طبيعة هذا المشروع إن كنا نتفق ام نختلف معه، لم يعد هناك انقسام واضح ومؤثر ضمن الفريق المسيحي، فظهر متماسكاً قوياً فيما كُسر داخل الشارع المسيحي مفهوم تعدد الزعامات والقيادات، نحو مشروع واحد لقائدٍ واحد يدور في فلكه الآخرون، ما اجبر الشركاء في الوطن لقبول الامر الواقع. وكان يمكن أن يؤسس هذا المشروع لشراكة جديدة في بناء الدولة ربما كانت كسرت مفهوم الغالب والمغلوب والذي أسس فيما بعد لجمهورية ما بعد الطائف، ويناضل المسيحيين الى اليوم للخروج منه واستعادة حقوقهم التي اضاعوها بصراعاتهم التي عادت بعد نهاية تجربة “البشير”.
تجربة حزب الله: الهيمنة الكاملة والنهائية؟
في الواقع الحالي هناك تجربة أخرى تشابه الى حد كبير تجربة بشير الجميل التي خرجت من الرحم المسيحي. وهنا لا نعرض التجربة من ناحية انتقادها فمن حق كل طرف ان ينفذ مشروعه السياسي إذا وجد ان الساحة متهيئة لتقبل هذا المشروع، أم ان يفرضه على الاخرين بحكم ما يملكه من قوة يمكن له استخدامها.
ينتقل لبنان اليوم من التفرد السني الذي أعقب اتفاق الطائف والذي سيطر في حينه رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري بقوته الاقتصادية وتحالفاته السياسية، على البلاد بصورة مطلقة وشاملة. فكان لا يمكن ان يحكم لبنان أو أن يمر قرار من دون موافقة الحريري فأصبح هو أباً وأماً ليس لاتفاق الطائف فحسب بل لكل الجمهورية. إلا أن ما عاب تجربته والتي لم تسمح له بالسيطرة المطلقة، أنه وتياره لم يكن يملك القوة العسكرية التي يحكم بها للسيطرة على البلد في شكلٍ كامل ونهائي. فكان سقوط التجربة سريعاً، أولاً بظهور نظام امني ينافسه ويحاول سحب البساط من تحت أقدامه تمثل بفريق الرئيس السابق اميل لحود، ثم باغتياله فانتهت التجربة ومهدت لظهور تجربة حزب الله والتي تعتبر الى حد بعيد متكاملة الأطراف والتي ربما ستمثل الحل النهائي والأخير!
فالحزب يملك أدوات السيطرة الكاملة، في البعد الديمغرافي والبشري والقوة المالية اللامحدودة، إضافة الى القوة العسكرية التي تنافس ما حوله من جيوش دول، يضاف اليها خبرة تراكمت من خوضه معارك سواء ضد إسرائيل او في سوريا، وهنا يطرح الحزب نفسه ليس كحاكم للبنان فقط بل كشريكٍ إقليمي في تحديد سياسات المنطقة.
المشكلة الوحيدة والتي لن تستطيع القوى المسيحية تجاوزها مع الحزب ولو بعد حين، أن الحزب يمثل مشروعاً للإسلام السياسي والذي لا يستطيع الحزب الخروج منه ويمثل امتداداً لعقيدة الجمهورية الإسلامية في ايران. فهو عاجلاً أم آجلاً سيتوجب عليه تنفيذ مشروع الدولة الإسلامية، وهي عموماً تختلف عن ثقافة المجتمع المسيحي، والذي لن يستطيع تقبلها أو العيش ضمن حدودها وقوانينها، والتي في أحسن تقدير ستعتبر المسيحيين مواطنين من درجة أخرى.
وعندها لن تتمكن القوى المسيحية المشغولة اليوم بصراعها الداخلي من الوقوف في وجه هذا المشروع، ونخشى أن يتحتم عندها على المسيحيين البحث عن وطن جديد في بلاد الاغتراب كما حصل معهم في ايران بعد سقوط نظام الشاه…
- صحافي عراقي
- اليوم الثالث