زوعا اورغ/ ميشيل سيروب – الناس نيوز :
تراث الأجداد في المنفى
السريان من الشعوب التي أصبحت تهيم في التيه، وتبحث عن وطن في المنفى، غادر السريان “ما بين النهرين” بحثاً عن هويات جديدة في أوطان ذات ثقافات مُختلفة وقيم أسرية وحضارية مُتعارضة مع تراث الآشوريين والبابليين والكلدان والسريان. فيلم “آكيتو” يُسلط الضوء على عائلات سريانية تعيش في بلجيكا. تحملُ تلك العائلات أوطانها في ثنايا الذاكرة وفي قلوبها لكنها سُرعان ما تتناحر وتختلف فهي: لم تستطع أن تنسجم مع محيطها العام من جهة، ولن تتخلى عن مواقفها عن المرأة والعمل ومفهوم الشرف. يقدم المخرج وكاتب السيناريو رياض أسمر نماذج عن شباب السريان. الشخص الوحيد الذي يُفكر بالعودة للوطن الأم، هو شخص غير مُتوازن! هل هذا تجسيد للواقع المُر؟
رياض أسمر: مشهد عودة الشخص غير المتوازن للوطن تمثل نقطة إيجابية في بحر من السلبيات، هذه النقطة تعطي الفيلم شيئاً من التفاؤل، شيئاً يُشبه الضوء في آخر النفق. إن فكرة أن يكون هذا الشخص غير متوازن تعطي المشهد قوة أكبر فيما لو كان الشخص متوازنا. الشيء الجميل في هذا المشهد هو سقوطه عدة مرات وفي كل مرة يقوم ليكمل طريقه… هذا الإصرار هو الحل حتى لو لم يكن متوازناً، هذا الإصرار يجعلنا نمشي في طريق التوازن هذا ما قصدته من وراء هذا المشهد.
– في الحوار الذي يدور بين النادلة والأم، تتذمر الابنة من شباب السريان رواد المقاهي، وتقولعنهم: إنهم سيئون، ليتهم كانوا غرباء، هل حقاً الغرباء أفضل من شباب السريان، العاطلين عن العمل، والفاشلين دراسياً (بطل الرواية)، والباحثين عن علاقات جنسية خارج بيت الزوجية؟
يقول رياض أسمر بالطبع لم يكن المقصود بأن الغرباء هم أفضل من شباب السريان، إنما حاولتُ من خلال هذا المشهد أن أصور حالة معينة وصل إليها هذا الشعب في غربته وذلك عبر كل الحالات السلبية المطروحة في الفيلم. إن الحوار الذي يجمع إيلونا مع أمها: هذا المشهد يفضح الحالات السلبية ويطرح أسئلة موضوعية عن واقع قاسٍ، عن واقع نهرب منه…لكن إلى متى؟
– يروي الجد للحفيدة بأن الآشوريين والبابليين والسريان ذوو حضارة عريقة، لكنه يُشبههم بالعصافير التي تطير من مكان لآخر، وأنهم موجودون بالمكان الخطأ، مَن الذي أجبرهم على الهجرة ولماذا لم تُشبههم بجذور السنديان كونك كاتب السيناريو؟
يرد أسمر بالقول بالطبع هناك مُقاربات كثيرة، ولا يمكن حصرها في تشبيه واحد، لكن التشبيه الذي استخدمته في الفيلم حول العصافير التي تطير من مكان إلى آخر يفيد قصة الفيلم ويعبر عن الحالة الدرامية التي أبحث عنها. بالنهاية، يمكن اعتبار هذا التشبيه وجهة نظر الفيلم عن ظروف ما يعيشه شعبنا الآشوري في غربته وهذا يُعبر عن حالة الضياع التي سيُعانون منه لاحقاً بعد تركهم لبلدانهم الأصلية. لمْ أتطرق في الفيلم لأسباب الهجرة لأنه موضوع طويل ويحتاج لفيلم آخر بل لأفلام أخرى. حاولتُ أن أعالج موضوع الغربة من جوانب مختلفة وأن أفتح نقاشاً حول الواقع والتناقضات التي تعيشها شخصيات الفيلم.
-الوطن ليس حقيبة، لماذا يستسهل السريان الهجرة منذ خمسين عاماً لدول الغرب التي كانت سبباً بضياع وتقسيم وطنهم ، بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين ؟
وهنا يقول المخرج رياض أسمر الآشوريون بشكل عام لم يستسهلوا الهجرة، إنما تركوا بيوتهم للبحث عن حياة أفضل في مكان آخر يرغبون بتحسين شروط حياتهم فيه. أما بالنسبة للوطن وتقسيمه، فإن الوطن لم يضعْ، الوطن باقٍ، يمكننا اعتبار هذه الفترة فترة سلبية والشعب الآشوري تعّودَ على هكذا محن عبر تاريخه الطويل.
-ووقفت المؤسسة الدينية الرسمية ضد الأفكار والرؤى المطروحة في سياق الفيلم، هل ذلك يعود لعدم قدرة تلك المؤسسة استيعاب التغيرات الحاصلة في حياة الأسرة الآشورية والسريانية عموماً والمرأة خصوصاً في المهجر؟
ويركز أسمر هنا حديثه مباشرة مؤكداً أن المؤسسة الدينية لدى السريان تشبه المؤسسة الدينية لدى الكثير من الطوائف والأديان، هي بعيدة عن الشعب وهمومه. المصيبة إنها لا تُحاول أن تتفهم مشاكله. هُنا، أجد من واجبي أن أسلط الضوء على هذا الجانب لأنه مهم في حياة السريان منذ بداية المسيحية وحتى يومنا هذا. هي محاولة لتوضيح العلاقة بين المؤسسة الدينية التي تفكر فقط فيما “تراه” وبين الشعب التائه والذي يبحث عن طوق نجاة.
-الفرح لا يليق بالسريان! هل هو قدرهم الغائب الحاضر؟ هذا ما لمسناه في سياق تفاصيل الحكايات المتتالية: هل الأمر ذاته ينطبق على عموم أوروبا؟ جسَدتَ عيد “آكيتو” في الفيلم كحفلة تنكرية: هذا ما تبقى من تلك الحضارات العريقة؟
ويوضح أسمر موقفه قائلاً سوف أجيب عن الأسئلة الثلاثة باختصار: أولاً: الشعب الآشوري في حالة تخبط والبحث عن ذاته وهذا ما يجسده دانييل في الفيلم عبر انتقالاته بين كل هذه القصص المتتالية، هُنا يمكنني أن أفهم سؤالك بالقول بأن الفرح يأتي بعد أن يصل الشخص للمكان الذي يبتغيه. إن غياب الفرح هو شيء مقصود بالطبع لأنني أحاول أن أشجع على البحث عنه بالرغم من كل المآسي والقلق والفشل.
ثانياً: هذا الأمر لا ينطبق على كل أوروبا، لأن لكل بلدٍ قصصه الخاصة. الفيلم يقدم صورة متخيلة عن مجتمع آشوري في بروكسل يعيش القصص التي تم معالجتها في الفيلم. لقد اختصر الفيلم الكثير من معاناة شعبنا فيما يخص تجربته في الغربة وابتعاده عن بيته ووطنه.
ثالثاً: بالنسبة لسؤالك عن حفلة آكيتو التنكرية، لقد حاولتُ أن أجسد صورة حديثة لموروث ثقافي عميق من تاريخ هذا الشعب. هي لعبة بين الماضي والحاضر، بين ما نريد أن يبقى وما نريده أن ينتهي. الحضارات العريقة لا تنتهي…لذا يُحاول الفيلم أن يمد يده لهؤلاء الأشخاص ويعطيهم الفرصة ليراجعوا أفكارهم.
وعن مشاريعه المستقبلية ؟ يقول المخرج السرياني الآشوري لدي عدة أعمال وثائقية تتعلق بما جرى مع الشعب الآشوري في المئة سنة الأخيرة، من قتل وتهجير وغربة، هذه الأعمال سترى النور قريباً.
*آكيتو: احتفال سنوي يُعتبر من أقدم الأعياد في بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين. كان يُمثل تبجيلاً لإله القمر، وكان يتم الاحتفال به مرتين في بدايات الربيع وفي الخريف. في الألف الثاني قبل الميلاد، كانت احتفالات آكيتو نقطة تلاقي للعديد من المناسبات وكان هذا الاحتفال يُعتبر الأهم في التقويم الديني كونه اليوم الأول من السنة وهو في الآن ذاته بداية الربيع.
في فرنسا ولغاية عام 1564 كانت السنة تبدأ في الأول من أبريل نيسان. لكن ملك فرنسا شارل الرابع قرر تعديل التقويم لتبدأ السنة في الأول من يناير كانون الثاني. بالنسبة للمخرج رياض أسمر أعتمد اسم آكيتو لفيلمه كي يكون بداية لتجربته السينمائية، كما هو يوم احتفالي بالنسبة لشعبه.