دانيال سليفو
واجه العراقيون إشكال عديدة من إنظمة الحكم وسيطرة احزاب وتيارات فكرية متباينة وجلبت أغلبها الكوارث والمأسي, دفع ثمنها العراقي البسيط . وافظع ما عملته تلك الأحزاب من كوارث هو تغريب وتشويه ذاكرة العراقي وإبعاده عن هويته وأصالته , من خلال الطروحات الجزئية عن الصورة الكاملة والإطار التاريخي , فالاحزاب العربية إنسلخت عن هويتها وإنتماءها الوطني العراقي , بتفضيلها مصالح العرب والعلاقات مع الدول العربية على حساب مصالح العراقيين , كما نفضت الأحزاب الإسلامية أيديها عن عراقيتها ومن خلال مرجعياتها , وأصبحت موالية بكل ما تحملة الكلمة من معنى الى خارج الحدود , سواءاً أكانت طهران أو الرياض أو إسطنبول !. كما لم ( تُقصر) التنظيمات اليسارية والشيوعية في تقديسها لموسكو وهافانا , مع أطنان من التبريرات والشعارات المعُلبة حول الوطنية وحق الشعوب في التحرر وغير ذلك !.
وظل أبن العراق شريداً في العراء وطريداً ومهجراً ونازحاً ومسلوباً , كما نُزعت عنه الكرامة والتعليم والحقوق الإنسانية البسيطة كحق السكن والتعليم والعمل والتعبير الحر. والأقسى والأمّر وكنيجة لما سبق , إنتمى الكثير ممن فقدوا إنتمائهم الحضاري الأصيل من المقهرين نتيجة سياسات التعسف والتشريد , ومن الذين لم تحضنهم كياناتهم المذهبية بالشكل اللائق والمُقنع الى الإنحدار وترك شيخ الدين الى شيخ العشيرة , ليضمنوا بقاءهم وإستمرار حياتهم وحياة أُسرهم وأحفادهم !. ولكن ظلت ( جذوة العراقية ) تشتعل في دواخلهم وتحتاج فقط الى المؤمنين بهم من القادة والسياسيين والمفكرين لأعادة تلك الجذور ورفعها فوق منارة الوعي لتنير طريق الجميع , وما هو حاصل في المظاهرات الا دليل على إنه ( يمُهل ولا يهمل !. ) .
يتفاعل تراث سومر وبابل وآشور الساكن في ( جينات العراقيين ) , أيجابياً مع المكان والزمان، حيث يحفظ سير الأحداث وتاريخ الابطال اللذين أصبحوا يعيشون في الذاكرة كأيقونات ومصادر مُلهمة وإن دون القداسة والعصمة, لتوضع في المستوى المساوي لوعي الفرد العادي, ولا تتضاد مع الحاضر ولا مع المستقبل مهما كان شكله , والا سنعود لماضي من الدوامات والانكسارات والقيود التي تكبل طاقاتنا والتي نكاد نخاف من الانطلاق والتحرر منها بسبب طغيان اليأس والنكوص. فكل عمليات العودة والاستفادة من الماضي الحضاري تنشد وتصب في عملية بناء الانسان العراقي الجديد . وأحياء النفوس في الآن ذاته، ومن هنا فإن للأمة العراقية سموَّاً على مختلف التصنيفات الأخرى، كما أن لها قدسيتها في نفوس أبنائها، فهي جامعة لهم، وهي التي تعطي لأبنائها شعوراً بالفخر بأن لهم ماضياً عريقاً، وظهراً قوياً يحميهم إذا ما نزلت بهم نوازل الدهر والأيام المؤدية الى الفوضى والضياع كما هو حاصل حالياً، وهذا لا ينتقص بأي حال من الأحوال من مكانة المواطنة النمطية الكلاسيكية الانشائية ، بل تحّول الشعارات الى واقع فأرض العراق وبمدنيتها وحضارتها المؤسسة, تستوعب خيراتها أُناس من شتى الثقافات، ومن مختلف الملل والديانات، وهي التي بصون حقوقها وخصوصياتها وحفظها يستتب الأمن، ويعم الخير والأمان والاستقرار بين الناس, بالتوكيد على أهمية الانتماء إلى الأمة العراقية وإعتبارها فوق كل الإنتماءات الأخرى, كالعشائرية والمذهبية والقومية والطبقية.
العراقيون جماعة متواصلة ومتجانسة, ترتبط بالتاريخ المشترك والحضارة ( الكونية ) المؤسسة للإنسان فوق الإرض .
العراق للعراقيين
والعراق هو حصيلة الفترات التاريخية والحضارية المتعاقبة عليها منذ قرون .. ومن هذا لا ينبغي وضع صيغة محددة مستلة من فترة معينه ومن سياقها لتطويعها لمزاج وقريحة لا حظ لها سوى زرع الضغينة والفتنة، لان ذلك سيمثل جزء من المحتوى وليس مجمله وحتماً ستتناقض مع المفردات الحضارية الأخرى, وحتماً ليس من الجائز إطلاق الجزء على الكل! ، وهكذا ستجد كل الفئات العراقية وبكل مرجعياتها الاجتماعية والحضارية شيئاً من صورتها وجزاً من تاريخها لتندمج مع الكل الباقي .. كما إن مرور هذه الفترة الطويلة منذ تشكيل كيان دولة العراق سياسياً ، وتفاعل القوميات والاديان الممثلة للشعب العراقي ايجابياً مع هذا الاسم يجعله يحمل الصفات التي تجمع ابناء العراق مع الاحتفاظ بالخصوصيات القومية والدينية والاجتماعية والتي ينبغي ان تصب في مصلحة العراق ووحدته، والتجارب الماضية أثبتت ان العراقيين تواصلوا بالعيش معاً دون تفريق ، وتشهد الكثير من المدن العراقية هذا التواصل قبل مجئ الطبقات الحاكمة بعقلية القبائل والصحراء والتي أخذت تطبق سياسة القتل والتشتبث بالسلطة وتعاملها مع العراق كغنيمة حرب وإستحواذ ، وبهذا العمل ارادت السلطة القضاء على الهوية الوطنية العراقية وحولته من شعب الى ( جمهور ) والنتيجة لم تكن كما أرادت, إذ إنطلقت العنقاء العراقية من الرماد, وعاد الإبن ( الضال ) الى حضن الآب نادماً. على الأقل من خلال الوعي والتجربة ! وبعد أن يتم رسم خارطة للطريق , سيشعر الجميع بالأمان والإنتماء الحقيقي وسينبذ الأبناء من مخيلتهم عقلية الأمة المهزومة والمقهورة والتي لا رجاء فيها, الى أمة موعودة وخالدة بخلود حضارتها وتاريخها, من خلال جهود الخيرين الوطنيين التنويرين.
المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن وجهة نظر الموقع