فواد الكنجي
التراث والفكر الحضاري للأمة (الأشورية) في بلاد الرافدين – العراق الحالي – يشكل ديمومة لحركة تاريخها الإنساني؛ بما تحمله هذه (الأمة) من قيم ومعاني فكرية رصينة؛ تمتد بأصالتها الفكرية والفلسفية على مدى التاريخ تطورا وإبداعا؛ وهي تواجه تحديات بنضال مستمد سياسيا وفكريا وتربويا وأخلاقيا وتوعويا؛ لترتقي ببنية المجتمع (الأشوري) على مستوى تحمل مسؤولياته التاريخية للحفاظ على وجوده وليكون على مستوى التعبير الصادق عن طبيعة هذا الوجود على مستواه القومي والإنساني والحضاري .
فـ(الأشوريون) منذ سقوط إمبراطوريتهم في 612 ق .م والى يومنا هذا؛ واجهوا تحديات خطيرة مست صميم وجودهم؛ ولكن ثبات نضالهم ومسيرتهم الفكرية استطاعوا إن يتجاوزوا كل تلك المخاطر التي حاولت القضاء على وجودهم وتفكيك مؤوسساتهم التربوية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، محاولة من الأعداء لانتزاع قيم حضارتهم من حياة الأمة. فحافظوا على تراثهم ولغتهم وحضارتهم وعاداتهم وتقاليدهم، بعد إن استوعبوا قراءة الواقع قراءة واقعية مواجهين متغيرات العصر؛ ومواكبين تجديد صلتهم بحضارتهم وتراثهم الفكري والقومي والنضالي، ليثبتوا بأنهم امة تجاوزت ورفضت التبعية وقاومت الاغتراب وعززت أصالتها وشقت طريقها نحو الانبعاث وتجديد دورها بين الأمم والشعوب العالم، بعد طول انقطاع استمر لقرون طوال. حيث تعرض تاريخ الأشوريين – تاريخ العراق القديم – إلى التزوير والى تحريف ممنهج؛ ليفرض خلال فترات الاحتلال الذي تعرضت له بلاد وادي الرافدين في عصر الاحتلال (الفارسي) و سيطرة ( كورش الفارسي) على بقاع واسعة من بلاد (آشور) بلاد وادي الرافدين (العراق الحالي)، وما أعقبها من غزوات وصولا إلى احتلال (الروماني) ومرورا باحتلال (العثماني) و(الفرنسي) و(البريطاني)، وهؤلاء المحتلين لأراضي (بلاد الرافدين) قاموا بمحو تاريخ (الحضارة الأشورية) من ارض (العراق) وكتابة تاريخ آخر محرف ومزور ووفق رؤية المحتل؛ ففرضوا واجبروا سكان البلاد (ما بين نهرين – العراق) معتقدات من اجل نسيان تاريخهم الحقيقي وهويتهم الأصلية، وقد لحق الأذى الأكبر بمصير الأمة (الأشورية) هو استهدافهم عبر اتجاهين:
الأول (الفكر القومي) للأقوام التي غزت أراضي بلاد الرافدين.
والثاني هو الاتجاه (الديني المتطرف).
وكلا الاتجاهين ساهما بشكل مباشر ومتعمد بمحو الهوية التاريخية الأشوري من ارض الرافدين، ليكب القائمون على إدارة شؤون الدولة في (بلاد الرافدين – العراق الحالي) إلى تزوير تاريخ الدولة وبكل مؤسساتها، ولولا الذاكرة الشعبية وتشبث الأجيال المتعاقبة في (العراق) بهذه الذاكرة والتي انتقلت من جيل إلى جيل لكان قد ضاع (تاريخ الأشوريين) من (العراق) وطوي صفحته، طي النسيان. ولكن الأمة (الأشورية) حافظت على ارثها الحضاري واستطاعت إعادة تاريخها وتراثها اللامادي و إحياءه؛ لأنه بقى هذا الإرث و ما زال محمولا بالذاكرة الشعبية من حيث (التقاليد) و(العادات) و(اللغة)، وكانت هذه (اللغة) بمثابة الخزان الحقيقي التي حافظت على المعارف والثقافة والهوية الأمة (الأشورية) الأصيلة، ومن خلال ذلك وضعت مؤوسسات هذه الأمة مناهج التعليم والتربية وإعادة إحياء مناهج التاريخ والتراث بعد إن أصابه تحريف وتزوير وبشكل كبير، ليتم بوعي وأدراك الحفاظ على روح التاريخ الأمة بتجديد مستمر واستعداد للمشاركة لإثبات وجودها وذلك من خلال موقفها التاريخي الذي يثبت على أصالته بما يحمل في طياته من قوة فكر وفلسفة وتراث وحضارة شامخة معبرة عن وجودها بالانطلاقة شخصية الأمة الحضارية والتي أرست مسيرتها بين حضارات الأمم المختلفة من خلال وعيها بتجاربها التاريخية. ولهذا على الدوام ارتقت الأمة (الأشورية) إلى مستوى التعبير الأمثل لوجودها القومي على مر التاريخ بين الأمم وشعوب العالم وبكل أبعادها ألأخلاقية والحضارية؛ لكي لا تبقى معزولة عن الواقع وحركة التاريخ؛ لأنها تحملت مسؤولياتها وفق متطلبات الوعي ونظرتها الإستراتيجية لكي يتم تواصلها مع روح العصر، بحجم ما كانت تحمله من فكر ثقافي وفني واسع ساعد على بناء الأسس العلمية والقيم الدينية لكافة الحضارات، باعتبار من بلاد (أشور) في وادي الرافدين؛ انطلقت أولى الحضارات في العالم والبشرية جمعاء، وهو الأمر الذي يقودنا في البحث عن مكامن قوة هذه الحضارة التي استطاعت أن تفرض وجودها بين الأمم الأخرى لتتأثر هذه الأمم بعلومها.. وثقافتها.. وفنونها.. وأخلاقها.. وقيمها الروحية، فمن الحضارة (الأشورية) استمدت الأمم الأخرى منظورها في توحيد (الإله الخالق) في رؤيتها، إلى (الإله) غير منظور، والذي يحمل اسم مختلف لدى كل امة، وقد اتخذ (الأشوريين) تسمية (إله) في الحضارة (الأشورية) القديمة بأسماء عدة نحو إله (إنليل) و(مردوخ) و(آشور) وهكذا… إلى إن ينتهي تسميته في منطقتنا الشرقية باسم (الله) بعد التاريخ الميلادي .
فـ(الأشوريون) اتخذوا من (إله) بكونه شيء كبير ومخيف وفوق أي قوة بشرية معتبرين بان كل شؤون الطبيعة والحياة هي أداة بيد (إله) من الآلهة فقد نسبوا (إله) للماء.. والأرض.. والعواصف.. والمطار.. والشمس.. والقمر.. والليل.. وكل ما يدور حولهم نسبوه إلى (إله)، فعند جفاف المواسم كان الشعب يصلي إلى (إله) الخصب و(إله) الإمطار، وعندما كان الملك يحتار ويمر بمحنة ما، كان يذهب ويصلي إلى (إله)، وكان في بلاد (أشور) الإله هو معروف باسم إله (أشور)، وكان لاكتشاف مكتبة (آشور بنيبال 626- 667 ق.م) على يد عالم الآثار (أوستن هنري لايرد) ومعاونه (العالم هرمز رسام) وما وجد فيها من ألواح طينية دونت فيها نصوص تتحاور في مفهوم (إله) ومعتقدات ذلك الزمان، و بعد إن توصل العالم (هنري رولنسون) والعالم ( جورج سميث) إلى قراءة الأحرف المسمارية في منتصف القرن التاسع عشر أحدثت اكتشافاتهم ثورة فكرية هائلة على حجم العلوم والمعرفة التي كانت سائدة في عصر الإمبراطورية (الأشورية) أي بحدود أكثر من سبعة ألاف سنة قبل الميلاد، وكان لاكتشافهم بما كتب على تلك الرقم الطينية التي وجدت في مكتبة الملك الأشوري (آشور بنيبال) والتي احتوت هذه المكتبة على (25000 ) لوح؛ بمثابة ثورة علمية حقيقة في الفكر الإنساني هزة أوساط العالم وخاصة بما يتعلق بما كتب على سبعة ألواح تتحدث عن سبعة أجيال وجلها تدور حول خلق الكون والبشر، ومن بينها قصة ( الطوفان الأولى) و(ملحمة كلكامش) وملحمة الآلهة (عشتار)، و ملحمة الخلق ( إينوما إيليش – عندما في العلى)، ومما أثار ما تم اكتشافه في هذه القصص التي كتبت في العصر (الأشوري) الأول هو تطابق نصوصها تطابقا كليا على ما ورد في الأيام السبعة في (سفر التكوين- التوراة)، مما أذهل العلماء – وحتى (اليهود) منهم – لدى اكتشاف النصوص (الآشورية) المكتوبة بالحرف المسماري، فابتكر العلماء تسمية لها سموها بعبارة ( توراة ما بين النهرين)، ولذلك اعتبرت محتويات هذه المكتبة – والتي اليوم، أي في مطلع عام 2019 عرضت بعض محتويات هذه المكتبة في المتحف البريطاني إمام الجمهور لمشاهدة عظمة مكتبة (أشور بنيبال) – المفتاح الرئيسي لـ(علم الآشوريات) لتكشف المدونات المزيفة التي طغت على الفكر البشري لألفي عام .
كما وسع في البحث عن هذا الجانب العلامة العراقي الدكتور (فاضل عبد الواحد) في كتابه الموسوم (من ألواح سومر إلى التوراة 1989)، حيث أكد في بحوثه بان اغلب قصص (التوراة) منقولة من حضارة (الأشورية) في بلاد الرافدين وتحديدا قصة (الخلق) و(جنة عدن) و(الفردوس المفقود) و(قصة هابيل وقابيل) و (زقورة بابل) و(بين موسى وسرجون الاكدي)، كما إن كثير من الباحثين وعلماء الآثار العراقيين سلطوا الضوء على هذه الجوانب وقد ورد ذلك في مؤلفات وترجمات وبحوث الدكتور (طه باقر) و الدكتور (سامي سعيد الأحمد) والدكتور (بهنام ابو الصوف) وآخرين، وهي منشورة ومتواجدة في المكتبات.
فعلميا حلت محتويات هذه المكتبة – مكتبة (أشور بنيبال) الأثرية – محل (التوراة)، حيث اعتبروا بان (التوراة) ولقرون طويلة المرجع التاريخي الوحيد عن تاريخ المنطقة، وفي هذا الصدد أيضا أثار العالم ( فريدريك ديلليتش) ضجة إعلامية واسعة حين ألقى محاضرة حول (توراة بلاد آشور) تحت عنوان (بابل والكتاب المقدس) ، في عام 13/12/1902 في العاصمة الألمانية (برلين) بحضور القيصر (فيلهيلم الثاني)، أوضح فيها بـ((أن قصص (التوراة) مأخوذة من بلاد آشور)) مما سبب له التهديد من قبل بعض الحاخامات من اليهود المتشددين، وتم له أيضا التوبيخ الشديد من الكنائس الغربية المتطرفة.
وبهذا لاكتشاف واجه كل من اتجه من المفكرين والعلماء هذا الاتجاه حربا مع الكنائس الغربية واليهود، مما حاولت الجهات الصهيونية تكثيف جهودهم للحيلولة دون إظهار هذه الألواح (الأشورية)، وفعلا عبر موساد (الإسرائيلي) وأجهزة مخابرات واستخبارات الصهاينة؛ تم إخفاء العديد من الألواح (الأشورية) الهامة .
وباختصار، فان لملحمة خلق (إينوما إيليش) الكثير من المدلولات الفكرية الرصينة والتي تم الاقتباس الكثير من مضامينها في قصص (التوراة) فحين تسرد ملحمة الخلق ( إينوما إيليش – عندما في العلى)، بكون الجيل الأول لبداية التكوين حينما كانت الأرض معدومة حيث بدا الكون يتكون من العنصر (الذكر) والذي سمي (إله) المياه العذبة ( آبسو) والعنصر (الأنثى) التي هي (إلهة) المياه المالحة وسميت (تيامات)، وما بينهما يرفرف (إله) سمي بـ(ممو) وهو كان يمثل السماء أو (إله) السحاب، لتتشابه هذه الفكرة مع (سفر التكوين) في اليوم الأول إلى حد التطابق، ثم يتكون الجيل السادس من بداية الخلق حيث الإله (مردوخ – آشور) الذي يخلق (لالو) (الإنسان) ليخدم الآلهة فتستريح في الجيل السابع، وهذا أيضا يتطابق تماما مع ما نص في (التوراة) حين ذكر فيه (خلق الله الإنسان في اليوم السادس واستراح في اليوم السابع – انظر إلى (سفر التكوين)، وفي قصة الخلق ( إينوما إيليش- عندما في العلى)، فأن الإلهة (تيامات) التي على شكل (التنين) وهي تسبح في البحار، كانت تنوي التخلص من أحفادها المزعجين لتنعم بالراحة مع زوجها( آبسو)، فأتت بالوحوش المخيفة استعدادا للمعركة، ولكن اعترضها إله (مردوخ – آشور) ويصارعها فينتصر على (تيامت) فيقوم بشطرها إلى نصفين، فيصنع من القسم الأول (السماء) حيث يخلق النجوم والكواكب، ومن القسم الثاني (الأرض) حيث يخلق الحيوانات والنباتات، وهذا أيضا يتطابق ما ورد في (التوراة) انظر إلى (سفر تكوين)، حيث ( يفصل الله بين مياه ومياه ويصنع السماء والأرض) وبعد أن ينتهي (مردوخ – اشور) من خلق؛ وذلك بخلق زوجا من الإنسان بواسطة الدم والطين وبني (مردوخ – أشور) بيتا له في بلاد (أشور) ليستريح فيه، كلما نزل إلى الأرض في (نيسان) وهذه القصة تتطابق مع ما ورد في (التوراة) تماما حيث ورد النص ( كما سيبني رب الجنود فيما بعد، بيتاً له في إسرائيل) انظر إلى (صموئيل الثاني) .
ولهذا اعتبرت ملحمة ( إينوما إيليش- عندما في العلى)، في التاريخ المعاصر من أهم مكتشفات العلمية والتاريخية المتعلقة بالفكر الإنساني ودياناتهم، فان قيمة هذه الأسطورة التي تعتبر من أقدم الأساطير الملحمية في التاريخ، كان عظيما في (بلاد أشور) وكان (الأشوريين) يجسدون طقوسها والاحتفال بهذه المناسبة سنويا في عموم بلادهم، فكانت مهرجانات ومواكب الملك تقام بشكل احتفالي كبير والشعب يحتفل ويقيم تلاوة طقوسها مجسدين فكرة (خلود سيد الآلهة وبداية الحياة)، حيث كانت الاحتفالات تبد في (الأول من نيسان) كل عام، وكان (العام الواحد) عندهم يتكون من اثني عشر شهرا، وكل (أربعة أشهر) يتكون موسم، ابتدأ من أول نيسان حيث الربيع ويعقبه الصيف ومن ثم الخريف والشتاء وهكذا دواليك، وما زال هذا التصنيف قائما إلى يومنا هذا، وكانت تسمى احتفالات التي تقام في الأول من نيسان (اكيتو)، وكان (الأشوريين) يعتبرون اليوم الأول من شهر نيسان البداية الحقيقية لدورة الحياة الطبيعية على الأرض كونه في نيسان تبدأ الطبيعة بالتجدد والانبعاث.
وهنا لا بد إن نذكر بأن تأريخ (اليوم الأشوري الواحد) منذ سلالتهم الأولى في (سومر) كان يعتمد ويؤخذ من عدة عناصر طبيعية وأهمها القمر وحرك النجوم، وقد استطاعوا (الأشوريون) من تحديد يوم الاعتدال الربيعي في شهر سموه (نيسانو) وما زال يسمى هذا الشهر بنفس الاسم، فقد كان معلوماتهم وحسب التقويم (الآشوري) يبد الاعتدال الربيعي في ليلة (الأول من نيسان)، كما هو موجود في مدونات الأثرية والتي كتبت في الألواح الطينية والتي تبقى هي المرجع الأول والأخير والتي ليوم موجودة في متحف (لندن) .
ومن هنا تكمن قيمة التراث في الفكر القومي وخلفياته الفلسفية عند (الآشوريين) في الأول من نيسان، بسبب انبعاث الطبيعة و نزول سيد الآلهة إلى الأرض لتحارب الآلهة الشريرة ثم القضاء عليها وانتصارها ليتم زواجه من الإلهة (عشتار) لتبعث الحياة بتجددها في ببداية الربيع .
وكانت هذه الاحتفالات والتي – كما قلنا تسمى – بـ(اكيتو) وهو عيد (رأس السنة الأشورية) والذي يعد من أقدم احتفالات بمناسبة الأعياد التي عرفتها الحضارة الإنسانية منذ القدم، ويحدد تاريخ بداية هذا الاحتفال في مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، واستمر حتى القرن الثاني منه، ليكون الاحتفال بهذا العيد ونحن اليوم في شهر نيسان من عام (2019- الميلادي) هو عام (6769- الأشوري)، ليقتبس من هذا العيد في المراحل لاحقة من التاريخ بعض الطقوس وبشكل معدل في احتفالات لدى الأقوام الأخرى بعد وصول طقوسها إليهم؛ كما نجدها في احتفالات التي يقوم بها (الفرس) و(الأكراد) و(المصريين)، والتي سميت لاحقا بـ( عيد الربيع و عيد نوروز أو عيد شم النسيم…الخ) والذين يحتفلون في يوم 21 آذار وقسم الأخر يحتفل في الأول من نيسان كما عند أبناء وأحفاد (الأشوريين) القدامى في العصور الحديثة .
إن جوهر احتفال بهذا العيد تعود فكرته بان (من الموت تولد الحياة) وبان (الحياة تنتهي بالموت) بشكل (دايلكتيكي) ولادة وموت.. وثم ولادة وموت.. وهكذا تستمر الحياة ضمن دائرة كونية ﻻ تنتهي، والتي ترتب حلقات الحياة بشكلها المتوالي والتي انطبعت في عقلية حياة سكان (بلاد ما بين النهرين) سواء من الناحية الدينية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، لذلك يكون الاحتفال بعيد (اكيتو) صورة لإعادة إحياء التراث والتاريخ الفكر الإنساني الذي يعرف الأمم على هوية (الأشوريين) .
وفعاليات احتفالات بعيد (اكيتو) تتمحور معطياتها الميثولوجيا وفق طقوس دينية تقام على شكل مهرجانات احتفالية ضخمة والتي كانت تقام سنويا في بلاد (أشور) ابتداء (من 21 آذار) وتنتهي في (الأول من نيسان) يشارك فيها كل أفراد الشعب ومن كافة الطبقات، و يستخدم الكهنة نماذج مجسدة تمثل الآلهة كوسيلة لتعبير ليس إلا، و تبدأ الاحتفالات على نحو التالي :
اليوم الأول من (اكيتو) ..
تخصص لتطهير النفوس وإقامة طقوس الحزن وتطهير وتنظيف المعابد يقوم بأدائها الكاهن (الإيساغيلا)، و(الإيساغيلا) هو (بيت إله مردوخ – أشور) بمشاركة كهنة المعبد، ويرد عليهم أبناء الشعب بترانيم باكية تعبيرا عن خوف الإنسان من المجهول، بغية تطهير نفوسهم من الذنوب .
اليوم الثاني من(اكيتو) ..
يقوم الكاهن الأعلى (الإيساغيلا) في كل صباح الاغتسال من مياه (دجلة والفرات) لتظهير وطلب الغفران من إله (مردوخ – أشور)، راجيا إياه حماية مدن (أشور)عبر تقديم الصلوات والابتهالات.
في اليوم الثالث من (اكيتو) ..
يتقدم الحرفيين من النجارين والصباغين والحدادين وصاغه الذهب لعمل عربات وتماثيل ورموز أخرى لتحضير للاحتفالات.
في اليوم الرابع من (اكيتو) ..
يقرءا الكاهن الأكبر ( الشيشكالو ) ملحمة الخلق (إينوما إيليش – عندما في العلى) بتفاصيلها المؤثرة وبالنص الكامل، والتي تحكي ((عن بدء الكون وتكون الفصول وإتحاد قوة كافة الآلهة في الإله (مردوخ – أشور) بعد انتصاره على التنين (تيامات) وتعتبر تلاوة هذه الملحمة، تحضيرا لطقوس خضوع ملك بلاد (أشور) أمام (مردوخ – أشور)، ليتسلم الملك صولجانه من الكاهن الأكبر، ويذهب إلى مدينة ( بورسيبا ) حيث يعيش الإله ( نابو) أبن الإله (مردوخ- أشور)، حيث يقضي ليلة واحدة في ( أي زيدا) وهو معبد الإله ( نابو )، وفي الصباح يطلب مساعدة الإله ( نابو ) في مهمة تحرير أبيه الإله ( مردوخ – أشور ) من أسره وأغلاله في عالم الظلام الكوني)).
في اليوم الخامس من (اكيتو) ..
يبدأ ومنذ مطلع الفجر حيث ينهض رئيس الكهنة ويتطهر بالماء المقدس من نهر (دجلة) و(الفرات) المحفوظ داخل المعبد، ثم يفتح أبواب المعبد لبقية الكهنة ليقوموا بتقديم وجبة الفطور لتمثالَي الإله (مردوخ – أشور) وزوجته (صربانيتوم(، بعد تقديم الصلوات والقرابين يقوم الكهنة بحمل مشاعل ومحارق الطيب لتطييب وتطهير أجواء المعبد ، كذلك تجري طقوس تطهير المعبد بماء (دجلة والفرات)، ثم تقرع الطبول وتتعالى أصوات الكهنة في دعاء جماعي مهيب، وتوقد الشموع والمباخر وتنار أرجاء المعبد ويقوم فريق خاص من الكهنة بمسح أبواب المعبد المقدس بزيت (السدر – شجرة النبق( ثم يقومون بذبح شاة والطواف بها في أرجاء المعبد، ثم مسح جدران المعبد المقدس بدمائها، وهو تعبير عن انتقال الذنوب البشرية إلى جسد الشاة المذبوحة، والتي سيتم فيما بعد رميها في ماء النهر الجاري الذي سيجرفها ويجرف معها كل ذنوب السنة المنصرمة وما حملت من مساوئ وأوزار وخطايا وذنوب، بعدها يصل الملك مركز المدينة قادما من مدينة (بورسيبا) وبصحبته إله ( نابو ) حيث سيتركه عند بوابة ( أُوراش ) في الجانب الجنوبي الشرقي، ويتوجه لوحدهِ إلى بوابة معبد (الإيساغيلا) ، حيث يقوم رئيس الكهنة بنزع كل شاراته الملكية وتجريده مؤقتا من (التاج) و(الصولجان) و(الحلقة) و(السيف)، ليتم الخضوع ملك (أشور) أمام إله (مردوخ – أشور)، حيث سيدخل الملك (الإيساغيلا) برفقة الكهنة، ويتجهون نحو المذبح، وهناك يتم صفع الملك بقوة حيث يركع الأخير ويبدأ بتلاوة الغفران وإعلان خضوعه لـ(مردوخ – أشور)، وبعدها يقف الملك فيعيد إليه الكاهن (التاج) و(الصولجان) و(الحلقة) و(السيف)، ثم يصفعه مرة أخرى بقوة على أمل أن يذرف الملك دموعه، لأن ذلك سيعبر عن المزيد من الخشوع لـ(مردوخ – أشور) والإجلال لسلطانه، وعندما يقوم الكاهن بإعادة التاج إلى الملك، إنما يعني ذلك تجديد السلطة من الإله (مردوخ – أشور).
في المساء يجلب إلى المعبد (ثور أبيض) يقوم الملك بذبحه بسكين التضحيات على مذبح المعبد ويرفعه كنذر للإله ، حيث كان تقديم التضحيات من أهم مظاهر العبادة.
في اليوم السادس من (اكيتو) ..
حيث تبدأ بانطلاق مواكب القادمة من مدن (الأشورية) من (أشور) و(أوروك) و(نيبور) و(أور) و(أريدو)، ولكل مدينة (إله) خاص يخصها تحديدا، بعض المواكب كان يأتي عن طريق البر إلى موقع الاحتفال، وبعضها عن طريق السفن في نهر (دجلة والفرات) ومن مختلف بقاء الدولة (الأشورية) للمشاركة في الاحتفال، يتقدمها موكب إله ( نابو) أبن (مردوخ – أشور) كذلك يقوم إله ( نابو) بزيارة إله الحرب ( ننورتا ) في معبده الخاص، ويتفقان على خطة لقتال إلهين من آلهة الظلام في محاولة لتحرير والده (مردوخ – أشور)، ويقومان بتنفيذ الخطة بنجاح، وشيئا فشيئا يزداد هياج الشعب وغضبه وعنفوان مشاعره وقلقه وشغبه أثناء مرور عربة إله (مردوخ – أشور) بخيولها، ولكن بدون إن يقودها أي شخص، في شوارع المدينة التي تضج بالناس الذين سلبتهم قوى الشر والظلام إلههم (مردوخ – أشور) وكانت العربة التي تسير بدون إن يقودها احد، ترمز لفوضى الكون قبل أن يقوم (مردوخ – أشور) بتنظيمه .
في اليوم السابع من (اكيتو) ..
يتم فيه تقديم طقوس تخليص (مردوخ – أشور) من أسر العالم الأسفل، فيقوم إله (نابو) بتحرير الإله (مردوخ- أشور) بعد ثلاثة أيام من الأسر، حيث كانت الآلهة الشريرة قد أغلقت بابا كبيرا وراء (مردوخ – أشور) بعد دخوله بيته، ويتصارع (مردوخ – أشور) معها، لحين مجيء (نابو) الذي سيكسر الباب الصلب، وتبدأ معركة بين الفريقين ينتهي الأمر إلى انتصار الإله (نابو) وتحرير( مردوخ – أشور)، وبعدها تقوم الكهنة بتنظيف تمثال الإله (مردوخ – أشور) وبقية تماثيل الآلهة وإلباسهم حلة جديدة تحضيرا ليوم الغد السعيد .. يوم قيامة الإله المعظم .
في اليوم الثامن من (اكيتو) ..
في هذا اليوم تجميع قوى جميع هذه الآلهة لتوهب مجددا إلى الإله (مردوخ – أشور) وهنا يأتي الملك ( أشور) راجيا جميع الآلهة للسير مع (مردوخ – اشور) إكراما له، وهذا التقليد يدل على خضوع كافة الآلهة إلى سيدها (مردوخ – أشور) .
في اليوم التاسع من (اكيتو) ..
يقوم الملك (أشور) بقيادة مركبة الإله (مردوخ – أشور) تتبعها عربات بقية الإلهة، وبعد الطواف على جانب النهر يسير بهم الموكب إلى بيت الاحتفالات (اكيتو)، يعطي الملك أوامره لتبدأ الفرقة المقدسة بإنشاد التراتيل الطقسية، حيث يعبر هذا التقليد (موكب النصر) عن مشاركة عامة الشعب بالفرحة بتجدد سلطان الإله (مردوخ – آشور)، وتدمير قوى الشر التي كادت أن تتحكم بالحياة منذ البدء، حيث يسير موكب النصر وتقوم النساء بجمع باقات الورود وسنابل القمح الأخضر وتعليقها على مداخل البيوت ترحيبا بقدوم نيسان الخير، وهذا الطقس ما زال قائما إلى يومنا هذا، فان اغلب العوائل (الأشورية) تقوم منذ مطلع الفجر بوضع باقة من عشب الأخر على مداخل بيوتهم رمزا لقدوم الربيع .
في اليوم العاشر من (اكيتو) ..
يقدم الملك (أشور) يده للإله (مردوخ – أشور) يطلب منه النهوض معه، من اجل مباركته لشرعية حكم الملك (أشور) على البلاد، وبعدها تقام ألاحتفالات و بعدها يذهب (مردوخ – أشور) الاقتران بعروسه ( صربانيتوم )، حيث يتم (الزواج المقدس) المرتبط بعيد (الأكيتو)، بينما يقوم الملك (أشور) بالزواج مع إحدى كاهنات المعبد (الإيساغيلا)، حيث يجلسان معا على العرش أمام الشعب ويبدآن بتبادل مراسيم خاصة بهذه المناسبة لإتمام وضمان تلقيح وخصوبة الأرض والحياة للسنة الجديدة .
في اليوم الحادي عشر من (اكيتو) ..
في هذا اليوم تتجمع كل الآلهة في معبد (الإيساغيلا) الذي هو بيت الأقدار (أوبشو أوككينا) لتقديم الولاء مرة أخرى لإله (مردوخ – أشور) بمناسبة انتصاره وقيامه بتنظيم الكون .
في اليوم الثاني عشر من (اكيتو) ..
وهو اليوم الأخير من (اكيتو)، تقام مأدبة كبرى لتجمع عليها كل أبناء الشعب ويتخللها احتفالات ورقصات وغناء لحين إن تختم فعالية هذا اليوم بعودة الآلهة إلى معبد الإله (مردوخ – أشور) و تعاد تماثيل الآلهة إلى المعبد وتعود الحياة اليومية إلى كل المدن الآشورية.
لنستشف من خلال هذه (الميثولوجيا الآشورية) كيف أثرت على الأمم الأخرى والشعوب المجاورة لإمبراطورية (الأشورية) وكيف امتدت علوم والثقافة (الأشورية) إلى (الآراميين) و(الفينيقيين) و (الإغريق) ليتخذوا من رموز (الأشورية) رموز مماثله لهم وبأسماء أخرى، بعد إن تم سرقة تراث (الأشوريين) من بلاد الرافدين حضارة (العراق) ونسبته إلى حضارات وشعوب أخرى، كما إن الكثير من مظاهر الاحتفالات بيوم (اكيتو) في شهر (نيسان) والذي كان يعتبر الشهر الأول من السنة في بلاد (آشور) قد امتدت فكرته إلى (الافنيقيون) و(الحثيون) و(اليهود) و(اليوناني) و(الفرس) حيث احتفل به (الزاردشتيون) منذ القرن السابع ق.م ولكن تحت تسمية ( نوروز)، وهذا التأثير بالميثولوجيا (الأشورية) قد تم توضيحه في الكثير من بحوث الأكاديمية في ارقي جامعات العالم، بكون ما تم اكتشافه من الآثار (الأشورية) وتحديدا قصة الخلق أو( إنوما إليش( وهي (قصة الخلق الأشورية) والتي اسمها ( إنوما إليش) والتي تم اكتشفها (هنري لايارد) في 1849 في آثار مكتبة (أشور بنيبال) في مدينة نينوى العراق وطبعها (جورج سمث (في 1867، والتي تتألف من ألف سطر تقريبا على سبعة ألواح فخارية باللغة الأشورية القديمة، في كل لوح 115 إلى 170 سطرا، بالنص كامل تقريبا عدا اللوح الخامس والتي اكتشفت نسخة عنها في تركيا، ليستشف من إن أفكار (الأشوريين) القدماء عن قصص وملاحم (الخلق والتكوين) لم تكن أفكارا بدائيه بل أفكار متطورة ناضجة بالدرجة مليئة بأفكار فلسفية و معارف لدرجة التي أذهلت المدارس الأكاديمية لحجم تطور ونضوج عقلية الإنسان (الأشوري) في تلك الفترة من بداية حضارة الإنسان، ليثبتوا (الأشوريين) حجم وقوة مقدرتهم الفائقة على الملاحظة والتشخيص الدقيق والربط واستخلاص النتائج بمنتهى المعرفة والمنطق، لتظهر كل الدراسات الحديثة بان اغلب القصص التي تم تفسيرها وترجمتها من خلال بعثات الآثار وفك رموز الألواح الطينية التي اكتشفت في مكتبة الملك (أشور بنيبال) قد انتقلت إلى كل بقاع العالم ابتداء من جوار المحيط الإقليمي لوادي الرافدين (العراق) والى دول (أسيا الصغرى) وبلاد (اليونان) والى مناطق عدة في (جنوب إفريقيا)، مما ترك بصمات واضحة وأوجه شبه بين قصص (بلاد الرافدين) والقصص التي تتداول أو التي دونت بلسان تلك الأقوام، ولعدة أسباب منها:
أولا.. بحكم وقوع اغلب هذه المناطق تحت سلطة الإمبراطورية (الأشورية).
وثانيا.. نتيجة تأثر المجتمعات الغربية بالتراث الفني والحضاري والثقافي (الأشوري) بعد وقوع (العراق- بلاد الرافدين) تحت السيطرة الأجنبية ولفترة ليست بالقصيرة .
وثالثا.. تم نقل وسرقة ألاف قطع الآثار ولوحات الطينية ومخطوطات الأدب من القصص والملاحم البطولية والتي اليوم جلها موجودة في متاحف العالم خارج (العراق).
و رابعا.. ساهمت عملية الترجمة بعض قصص وملاحم (الأشورية) المكتوبة على الألواح الطينية إلى لغاتها المحلية وربما تم تناقلها بلغات الأقوام أخرى وتم نشرها إلى ممالك وأمم وشعوب مختلفة الذين تأثروا بشكل خاص ببعض العادات والمعتقدات والتقاليد (الأشورية) وبشكل عام تأثروا بفنون الأدب والثقافة والفن (الأشوري) في بلاد الرافدين (العراق الحالي).
ومن كل هذه الأسباب فان قيمة التراث (الأشوري) وتأثيراته في الفكر الإنساني كان عظيما، لدرجة التي اخذوا من التراث (لأشوري) الكثير من العادات والتقاليد ومنها الاحتفاء والاحتفال بطقوس احتفالات بـ(رأس السنة الآشورية – اكيتو)، كما ذكرنا سابقا ، و لهذا فان (الأشوريين) إن يحتفلوا بهذا العيد هو تعبير عن تمسكهم بإرث حضارتهم العريقة (حضارة الأشورية)، ولهذا أخذا هذا الاحتفال عندهم طابعا قوميا باعتباره علامة متميزة من علامات التواصل والتمسك بالهوية القومية (الأشورية) وارثها الثقافي والفني والحضاري الموغل في التاريخ والحفاظ على التقاليد الأمة (الأشورية) على مر الزمن أسوة بالأمم والدول المتحضرة التي تعتز بإرثها وتفتخر بحضارتها.
ورغم كل ما أصاب (الأشوريون) منذ سقوط دولتهم في 612 ق.م حيث ما إن ترتكب بحقهم مجزرة حتى ترتكب مجزرة أخرى، وخاصة عند دخولهم إلى الديانة (المسيحية) وصولا إلى مجاز التي ارتكبها (العثمانيون) و(الفرس) قبل وبعد القرن العشرين في (تركيا) و(إيران) وتحديدا ما بين ( 1915- 1918) وفي العراق ما بين (1920- 1933) ناهيك عن الاضطهاد السياسية التي مارستها أنظمة الحكم في (العراق) بحق (الأشوريين) وسياسة استهدافهم على الهوية الدينية والقومية والفكرية والثقافية ليجبروا إلى النزوح والهجرة من ارض إبائهم وأجدادهم في (العراق) وطن (الأشوريين)، ومع كل حملة اضطهاد وسياسة إلغاء الهوية تمسك (الأشوريين) وواصل النضال والتشبث بأرضهم و بإرثهم الحضاري رغم التضحيات الجسام التي ذاقوها من استهداف..وقتل.. وخطف.. وتجريف أراضيهم وقراهم.. وحتى لم تسلم مقابرهم من التجريف والتخريب بل تجاوزا أمر التخريب والتجريف إلى مواقع الآثار للحضارة (الأشورية) التي هي ارث الدول وحضارة العالم، ولكن لأنها تحمل صفة الهوية (الأشورية) تم تجاوز عليها لتكون مواقع الآثار ساحة مفتوحة لسلب والنهب والتخريب، كما حدث في (نينوى) اثر احتلالها من قبل الدولة الإسلامية الداعشية في 2014، وما أعقبها من نزوح هائل لـ(لأشوريين) تشتتوا في المخيمات ودول الجوار وفي شتات الأرض بعد حملة موسعة من قبل أعداء الأمة (الأشورية) في استهدافهم المباشر من اجل محو وإلغاء هويتهم القومية والدينية من على أرض الإباء والأجداد في (العراق)، مما زاد من نزيف الهجرة، ومع كل هذه المعانات والمجاز والاضطهاد لم يتخلى (الأشوريين) لا عن ديانتهم (المسيحية) ولا عن هويتهم القومية (الأشورية)، وتواصلوا متشبثين بكل ما أتى لهم من قوة وعمل وكفاح من اجل البقاء في وطن الأجداد في (العراق) ومن اجل الاحتفاظ بأرضهم.. وبطقوس ارثهم الحضاري.. ومورثهم الشعبي.. وعاداتهم.. وتقليدهم.. ولغتهم (الأشورية)، ليواصلوا الاحتفال كل عام بأعياد (اكيتو) في (الأول من نيسان) كرمز من رموز التمسك بالهوية القومية (الأشورية)، رغم أنهم بدخولهم (المسيحية) تغير الكثير من رموز الاحتفال بعيد (اكيتو) على ما كان يمارس قبل أكثر من سبعة ألاف سنه؛ لتغيير طبيعة التحضر ومعاني الحياة ودخول مفاهيم معاصره على طبيعة البشرية، ولان (الأشوريين) واكبوا قيم التحضر والمعاصرة، حيث يعتبرون اليوم من أكثر ألأقوام في العالم وشعوبها تحضرا، فكرا.. وثقافة.. و وعيا.. وتقبلا للقيم الحضارة المعاصرة، ومع ذلك فأنهم إن يحتفلون اليوم بعيد (اكيتو- رأس السنة الأشورية) إنما يحتفلون وفق قيم ومفاهيم معاصرة وبطريقة متحضرة، لدرجة التي واكبت كنيستهم (الأشورية) هذا التحضر، بل ساهمت مساهمة فاعلة وفعلية بالاحتفاظ على روح التقاليد القومية على مر العصور، ولهذا بقى (الأشوريين) مع كنيستهم يحتفلون بأول من نيسان كعيد قومي لبداية الربيع وتجدد الحياة، لذلك ينظمون مسيرات احتفالية وكرنقالات ومهرجانات وتقديم رقصات شعبية وارتداء ملابس خاصة بالزى (الأشوري) المعروف بنقشاته وتطريزه الأنيق؛ حيث يتجمع المحتفلون بأعداد هائلة في أحضان الطبيعة كما ويقوم اغلب العوائل بوضع باقة من العشب الأخضر في صبيحة الأول من نيسان على أبواب بيوتهم تعبيرا عن قدم الربيع وبداية شهر الخير و الفرح ويسمونه بـ(ذقن نيسان أو لحية نيسان)، وكما تقوم العوائل بتبادل الزيارات فيما بينهم لتقديم التهاني بقدوم الربيع وبشكل متحضر يواكب مع روح العصر.
ليبقى الاحتفال بالأول من نيسان (كيتو) عيدا قوميا لـ(لأشوريين) ولتذكير شعوب الأرض عن قيمة الميثولوجيا (الأشورية) ومدى تأثيرات التي تركته في الفكر الإنساني وفي تطوير الثقافة والمعرفة البشرية والتي منها انطلقت كل المعارف والعلوم الإنسانية والعلمية والاقتصادية والسياسية في العالم .
ومن هنا تكمن أهمية التراث في تعزيز وتغذية ودعم العقل الجمعي من اجل تشكيل الوعي العام في المجتمع (الأشوري) ومده بالقيم من روح الحضارة (الأشورية) ومن صميم معطياتها الفكرية، ولهذا فان حفظها ونشرها ونقها من جيل إلى جيل يتحمل مسؤوليتها جميع أبناء الأمة (الأشورية) لضمان استمراريتها؛ باعتبارها تمثل مدا شعوريا ترسم ملامح الهوية القومية ليتم التواصل مع الأجيال، لان تمسك وارتباط أفراد المجتمع (الأشوري) بماضيهم وعراقتهم وجذورهم هو الذي يجعلهم تلقائيا يتكيفوا مع واقعهم بما أورثوه؛ ليتم التواصل والتلاؤم بين الماضي.. والحاضر.. والمستقبل، لان هوية الإنسان هي مجموعة من قيم وخصائص وسمات لمجتمع أو لمجموعة أثنية (ما)؛ سواء أكان ذلك على المستوى الروحاني أو المادي أو معنوي، بمعني أن الفكر والثقافة من الفنون.. والآداب. وأنظمة القيم.. والدين.. والأعراف.. والتقاليد.. والمعتقدات.. والتراث.. هي التي تميز أي مجتمع عن مجتمع آخر.
ولهذا تعمل مؤسسات الأمة (الأشورية) – سوا في الوطن (العراق) أو في الشتات – على تنمية ثقافة المجتمع (الأشوري) عبر تطور مؤوسسات التربية والتعليم ابتدأ من المراحل الابتدائية وانتهاء بمراحل الدراسة الجامعية و بالدراسات العليا، وهذا هو طموح المجتمع (الأشوري) اليوم، وتقوم بأداء هذا الواجب (كنيسة المشرق الأشورية) سواء في (العراق) أو في مناطق وجود (الأشوريين) في شتات الأرض؛ حيث تقوم وبمسعى حثيث وبجهود مضنية بتوسيع مؤوسسات التربية والتعليم لتتخطى مراحل الابتدائية إلى الثانوية والى الدراسات الجامعية وتوفير كل مستلزمات لنجاح هذا المسعى لمواكبة تعزيز الوعي القومي والثقافي بين أفراد المجتمع (الأشوري)، وليتم وبشكل أوسع ترقية الوعي الثقافي في المحيط الاجتماعي بما يساهم إثراء الآليات تطبيقه على المشهد الثقافي (الأشوري) وممارسته؛ ليتم إدماجه في وعي الأفراد إدماجا معنويا.. وفكريا.. وروحيا.. ووجدانيا؛ ليتم رفع مستواهم ثقافيا.. وعلميا.. وتربويا.. وسياسيا.. واقتصاديا.. واجتماعيا، لان ثقافة المجتمع كلما تبنت سياسة تنموية وتنوعت وتعددت آليات تطبيقها كلما تقدمت خطوة إلى الإمام والتي على ضوئها تتقدم خطوة نحو التقدم والازدهار، باعتبار الثقافة جزء من حضارة الأمة وفلسفتها، والحضارة (الأشورية) ما كان لها إن تصل إلى مستوى (الإمبراطورية) إلا حين توجهت توجها ثقافيا.. وعلميا.. وتربويا.. وسياسيا.. واقتصاديا.. واجتماعيا؛ ولهذا عرفت بهذا الثراء بين الأمم ونالت رفعة وشموخ .
لذلك يجب الحفاظ على التراث والعمل على تنميته باعتباره خيارا استراتيجيا للوجود القومي (الأشوري) بين إلام وشعوب العالم، لأن (ألأشوريين) امة تنعم بالتاريخ العريق، ليس في (العراق) فحسب بل في العلم اجمع، بكون عمقها الحضاري يمتد لأكثر من سبعة ألاف سنة ق.م، فهي حضارة عظيمة أوجدت لنفسها مكانة سامية بين الأمم وشعوب الأرض لما حملته من شواهد شامخة منذ عصور ما قبل الميلاد؛ والحفاظ على هذا الإرث ضرورة ليس للأمة (الأشورية) فحسب بل لكل المجتمعات في العالم، لأننا من خلالها ننظر بأمل ليشرق لنا آفاق المستقبل، لأن (الحضارة الأشورية) هي أولى الحضارات ومنها انطلقت المعارف والعلوم الإنسانية، ولهذا لابد أن نسترجع النقاط المضيئة من تاريخ هذه الأمة لنستمد منها مقومات للوصول إلى غد مشرق لكل الأجيال ولكل المجتمعات في العالم .
المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن وجهة نظر الموقع