د.عبدالخالق حسين
في إحدى مجموعات النقاش التي لي شرف المساهمة فيها، كتب منسق المجموعة، صديقنا العزيز د.محمد حسين علي خبراً مفاده (… في اُمسية 21/8/2019 في قاعة السلام في لندن، القت الشاعرة العراقية سجال الركابي، شيئا من أشعارها.. والشاعرة سجال الركابي قادمة من بغداد وفي ردودها عن الحالة الثقافية في العراق ذكرت ان الحياة الأدبية والثقافية والفنية في انتعاش وتصاعد..).
هذا الخبر المفرح أخرجني من صمتي وتوقفي عن الكتابة لأكثر من شهر، رغم عتاب الأصدقاء مشكورين. فبدوري شكرت الصديق على إعلامنا عن وقائع الندوة الثقافية في لندن، والأخبار الجيدة المفرحة التي نقلتها المحتفى بها العالمة البايولوجية، والشاعرة المبدعة الدكتورة سجال الركابي عن انتعاش الحركة الثقافية والفنية في العراق.
ولكن المشكلة أن بعض العراقيين، وخاصة عراقيو المهجر، ينزعجون من ذكر أية إيجابية عن عراق ما بعد صدام، بسبب مشاكل تداعيات سقوطه، فلا يرون في العراق الجديد إلا الفساد والإرهاب. بل ويستكثرون علينا حتى وصف النظام الجديد بالديمقراطي، بينما لو أردنا الإنصاف فنظام الحكم في العراق هو الأكثر ديمقراطية من أي نظام آخر في البلاد العربية، ومنطقة الشرق الأوسط. ولعل من عيوبه هو ليس عدم وجود الديمقراطية، بل هناك جرعة ضخمة من الديمقراطية أكثر مما يتحمله المجتمع العراقي الذي حُرِّم من ممارسة الديمقراطية في جميع مراحل تاريخه ما قبل 2003، مما فسح المجال لأعداء الحرية بالإساءة إلى الحرية والديمقراطية من أمثال مشعان الجبوري، وفايق دعبول وبقايا فلول البعث وغيرهم، إلى حد أنه وكما ذكر صديق آخر في تعليقه على نفس الخبر أعلاه، أنه حتى المخلصين للعراق الجديد صاروا يترددون من ذكر أية إيجابية يعرفونها، وذلك خوفاً من اتهامهم بالعمالة للحكومة الجديدة!! وهذه تهمة شنيعة والعياذ بالله!!
أقول أن في العراق ديمقراطية أكثر مما يجب لأنه أسيء استخدامها، ففي عراق اليوم أكثر من 700 تنظيم سياسي، وأكثر من 7000 تنظيم من منظمات المجتمع المدني. وهذا بالطبع تبديد للجهود والطاقات البشرية، بدلاً من وحدتها في أحزاب قليلة موحدة ذات أهداف مشتركة كما في البلدان الديمقراطية العريقة. في رأيي أن سبب هذا العدد الهائل من الأحزاب والكتل السياسية، هو رد فعل لنظام الحزب الواحد لنحو 40 سنة من حكم البعث والتيار القومي العروبي. كما وهناك المئات من الصحف، والإذاعات والتلفزيونات الفضائية والمحلية، ومعظمها تابعة للقطاع الخاص، ناهيك عن آلاف المواقع على الانترنت، وملايين الحسابات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر وغيرهما)، وأغلبها ناقدة بل و تتهجم على الحكومة، بحق وبدونه، بمنتهى الحرية ودون أية رقابة أو ممانعة.
نعم، إذا آمنا بأن نظام الحكم في العراق ديمقراطي، وهو كذلك، فمن طبيعة النظام الديمقراطي أن تنتعش فيه النشاطات العلمية والثقافية والفنية وغيرها. لأن الديمقراطية توفر الحرية للعالِم والباحث الأكاديمي، والمثقف والأديب والفنان والصحفي، وغيرهم، وتفسح لهم المجال لإطلاق طاقاتهم الخلاقة ليقدموا ما عندهم من نشاط فكري وفني بدون أي ضغط على حرية التفكير والتعبير والإبداع. وهذا هو الجاري في العراق على جميع الأصعدة. وإذا كانت هناك تجاوزات على حرية التعبير التي تحصل بين حين وآخر، فهذه التجاوزات تحصل بين الجهات المتنافسة فيما بينها وليست من الحكومة. ولكن، وأقولها بألم، أن الأخبار المفرحة عن نجاح الديمقراطية تعتبر من الأخبار السيئة أو المزيفة لدى البعض، بل يفضلون عليها الأخبار السوداء والمشوهة لصورة العراق الجديد، وهناك من يختلق الكثير منها.
إن الموقف السلبي للبعض من النجاحات هو نتيجة للمشاكل الكثيرة والكبيرة، وعلى رأسها الفساد والإرهاب، التي رافقت الإطاحة بالنظام البعثي الصدامي البغيض، وإقامة النظام الديمقراطي البديل، لذلك نسوا معاناتهم أيام حكم الطاغيىة صدام، واستاءوا من مشاكل الوضع الجديد إلى حد أن راح العديد من العرقيين ينكرون أية إيجابية لعراق ما بعد صدام، وحتى صار عند البعض منهم مجرد ذكر إيجابية يعتبر استفزازاً لمشاعرهم. حصل هذا لي في الندوة التي نظمها نادي الكلمة في أواخر شهر كانون الثاني/يناير من هذا العام (2019)، حيث دُعيت للمشاركة بمداخلة والتي كانت بعنوان: (أمريكا وإيران.. تقاسم نفوذ، أم ادارة للصراع بالنيابة؟)(1)، إلى جانب مداخلات أخرى من قبل زميلين آخرين.
وبعد الانتهاء من إلقاء المداخلات، فتح مدير الندوة الأستاذ أبو فراس الحمداني المجال للجمهور للتعليقات والأسئلة. وكانت غالبيتها مناقشات ممتعة ومفيدة في صلب برنامج الندوة. ومن هذه الأسئلة سؤال من أحد الأخوة عما إذا كانت هناك إيجابيات للعراق الجديد. والأخ الحمداني طلب مني الإجابة على هذا السؤال. يجب التوكيد هنا أن السؤال كان عن الإيجابيات وليس عن السلبيات التي هي لا تُعد ولا تحصى! إذ لا بد وأن تكون هناك إيجابيات، وقد كتبتُ عنها مقالاً في حلقتين بعنوان (إسقاط حكم البعث في الميزان)(2،3)، وهي كثيرة، وعلى رأسها الإطاحة بالنظام الدكتاتوري، وإصدار دستور دائم، وإقامة نظام ديمقراطي بديل، والزيادة الكبيرة في إنتاج وتصدير النفط بأرقام قياسية …الخ، وبينما كنت أذكر قائمة الإيجابيات قاطعني أحد الأخوة في الحضور بانفعال شديد ينكر ما ذكرته عن الإيجبيات، بينما في الحقيقة هذه الإيجابيات موجودة وموثقة، لم استطع ذكرها كلها في الندوة المذكورة، ولكني أنقل في الهامش رابط المقال.
على أية حال، الوضع العراقي الحالي ليس مثالياً، ولكن ليس كله فساد وإرهاب كما يدعي البعض، وخاصة البعثيون وأشباههم الذين خسروا امتيازاتهم. فالقيام بعمل كبير مثل إسقاط حكم البعث الصدامي الجائر، لا بد وأن يرافقه الكثير من المشاكل والسلبيات. ولكن هذا لا يعني أن الوضع ما بعد صدام كله شر بلا أية إيجابية. في الحقيقة الإيجابيات كثيرة ولكن الإعلام العراقي فشل في إيصال الأخبار الإيجابية للشعب.
ففي مقال للكاتب والصحفي المعروف سيد حميد الموسوي يوم 3/5/2017، بعنوان: ( الحسد تحول من رذيلة فردية إلى رذيلة سياسية مؤّسساتية)(4) جاء فيه: ((لو سألت ابسط مواطن عن انجازات الحكومة سيقول لك بلهجة عراقية غاضبة: لا بلطوا شارع .. ولا بنوا طابوقة !. وحتى في حوارات النواب والمسؤولين حين يستفزهم مقدم البرنامج او المتصل: ما الذي انجزتموه خلال 14عام؟ يظل المسؤول يلف ويدور ولا يذكر منجزا واحدا ! . حتى صار الامر من المسلمات.)).
ويعدد السيد الكاتب الكثير من هذه المنجزات منها بناء المدينة الرياضية في البصرة، ومئات المدارس الجديدة في المحافظات الأخرى، وبلغ إنتاج الكهرباء رقماً قياسياً…الخ
المعروف عنا كعراقيين أننا لا نقدر ما حصلنا عليه إلا بعد فقدانه. ولتوضيح الأمر، لنتصور أن الجيش العراقي قام اليوم بانقلاب عسكري كما كان يحصل في العهود السابقة، وسمعنا البيان الأول، ونشيد ألله أكبر …الخ. وبيان بمنع التظاهر والتجوال، وتعطيل البرلمان، وإلغاء الدستور، ومنع الصحف، وإلغاء كلما تحقق للشعب العراقي من مكتسبات وعلى رأسها حرية التعبير والتفكير ومنع الفضائيات، والهاتف النقال وغيرها، وبدأ نشيد يمجد بصدام حسين وحزب البعث… فما هو موقف العراقيين من هذا السيناريو؟
بالتأكيد ستخرج الجماهير العزل لتحمي هذه المكتسبات بصدورها العارية كما حصل يوم 8 شباط 1963. وعندها سيشعر العراقيون أنهم فرطوا بفرصة ذهبية كما فرطوا بفرص في الماضي. وهكذا سيعيد التاريخ كل ما حصل منذ 8 شباط 1963 وإلى اليوم لا سامح الله.
شهادة من شيوعي مخضرم عن الوضع الراهن
التقيت في بيت صديق في لندن مع ثلاثة أصدقاء، وكنا نحن الأربعة من خلفية يسارية، وأكبرنا عمراً قد جاوز التسعين عاماً وهو مازال شيوعياً ويعتز بشيوعيته، ويتمتع بصحة بدنية وعقلية نادرة في مثل سنه، وذاكرة قوية كما لو كان في الثلاثينات من عمره.
ونظراً لعمره المديد، ورغبته في الحديث الشيق، طلبنا من صديقنا الأكبر عمراً أن يحدثنا عن ذكرياته النضالية، فأجاد أيما إجادة، وخاصة عن معاناته إبان الإنقلاب البعثي الدموي الأسود في 8 شباط 1963، وفراره من العراق، وتنقله من بلد إلى بلد إلى أن وصل الاتحاد السوفيتي. ونظراً لخبرته النضالية والسياسية، ومتابعته المتواصلة للقضية العراقية، فقد سألناه عن رأيه عن الوضع العراقي الراهن، أي ما بعد 2003. فأجاب بعد صمت قصير قائلاً:
تريدون الصدق وبصراحة؟ فأجبناه: طبعاً نريد الصدق ورأيك الصريح.
فقال، وأنا ألخص من الذاكرة مضمون ما تفضل به الصديق، قائلاً أن الوضع ما بعد 2003 وإلى الآن هو أفضل وضع سياسي عرفه العراق في جميع مراحل تاريخه بما فيه مرحلة حكم الزعيم عبدالكريم قاسم.
وهنا شعرنا بنوع من الإحراج، خاصة ونحن الثلاثة الآخرون نعتبر فترة ثورة 14 تموز هي أفضل فترة مر بها العراق، وما حققته الثورة المجيدة من إنجازات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية…الخ خلال أربع سنوات ونصف من عمرها القصير ضعف ما حققه الحكم الملكي خلال 38 سنة، فكيف يقول ذلك؟
فقال أنه يحكم من خلال موقف الحكومة من الحزب الشيوعي العراقي. فإثناء ثورة تموز، صحيح أن الحزب الشيوعي مارس حريته في العام الأول من الثورة، وسيطر على الشارع العراقي، وعلى العديد من المنظمات والنقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني، وكسب جماهيرية واسعة، إلا إنه لم يكن مجازاً، ولا مشاركاً في السلطة إلا لفترة وجيزة بمشاركة القيادية الشيوعية الدكتورة نزيهة الدليمي. ولكن طوال حكم الزعيم لم يكن الحزب مجازاً، ولما حان وقت إجازة الأحزاب منع الحزب الشيوعي من العمل العلني، ومنح الإجازة لحزب شيوعي مزيف وهو حزب داوود الصائغ، وكان العديد من نشطاء الحزب في السجون… الخ
بينما العراق ما بعد إسقاط حكم البعث ومنذ 2003 وإلى الآن نرى الحزب الشيوعي العراقي مجاز رسمياً، ومكاتبه ومقراته مفتوحة في جميع أنحاء العراق، وصحافته حرة وعلنية، وهو مشارك في السلطة، وله دور فعال في العملية السياسية. واختتم الصديق قوله: “لذلك أقول أن وضع العراق الراهن هو أفضل من أي وضع سابق”.
هذا هو رأي الشيوعي المخضرم. وبالطبع موقف الناس يختلف عن أي وضع وحسب مصالحه ومزاجيته، أي رأي ذاتي (subjective)، لذلك فرضاء الناس غاية لا تدرك. ولكن في جميع الأحوال، هناك نظام ديمقراطي في العراق، ولا بد أن يدوم وينجح، ومن المستحيل إعادة التاريخ إلى الوراء. ففي نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح، كما انتهى المجرم صدام وحزبه البعثي الفاشي في مزبلة التاريخ.
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com