د. عبدالخالق حسين
في البدء، أتقدم بالشكر الجزيل للأصدقاء الأعزاء الذين راسلوني وهم يتساءلون عن انقطاعي عن الكتابة خلال ما يقارب الثلاثة أشهر الأخيرة. إن السبب وكما بينته لهم، أني بين حين وآخر أصاب بالنفور من الكتابة، الحالة التي يسميها البعض بـ(الإنغلاق الكتابي)، إذ إني سأمتُ من الذهنية السائدة على المستويين السياسي والإعلامي: فالسياسيون يحكمون العراق وقد تفشى بينهم الفساد واللا أبالية، و بعض الكتاب ينظِّرون ويحللون، ويضللون المجتمع. فالكتّاب في رأيي ينقسمون إلى ثلاثة أقسام. القليل منهم يكتبون بما تمليه عليهم مصلحة البلاد وفق الظروف الصعبة، وما تتطلبه اللعبة السياسية من مناورات، والعمل بمبدأ (فن الممكن)، وتجنب الخسائر إلى أقصى حد. وقسم آخر يرددون ما ينشره أيتام البعث الفاشي من أن العراق قد انتهى من بعدهم، وأن حكمهم كان أنزه وأشرف حكم عرفه العراق، بينما في الحقيقة لم يأت نظام أضر بالعراق مثل حكم البعث الغاشم. وقسم ثالث، ديدنهم كتابة اللطميات والبكائيات والشتائم، والتسقيط، وتضخيم السلبيات ونفي الإيجابيات، القصد منها تدمير معنويات العراقيين ودفعهم لليأس القاتل، وهم بذلك، شاؤوا أم أبوا، بقصد أو بدونه، يخدمون فلول البعث.
وبين هؤلاء وأولئك، شعرتُ بأني أنفخ في قربة مثقوبة، أو أغني خارج السرب، وأننا نكتب لأنفسنا دون أن يكون لنا أي تأثير على الساحة. لذلك سأمتُ من هذا الوضع المزري، وشعرتُ بالنفور من الكتابة.
وما دفعني للخروج من صمتي وكتابة هذا المقال هو الصديق أياد السماوي مشكوراً، بمقاله الموسوم: (مخاطر الوجود العسكري الأمريكي في العراق)(1). وإني لا أشك أبداً بحسن نوايا الأخ السماوي، والعديد ممن يتخذون نهجه وبنوايا حسنة فيما يكتبون، ولكني أختلف عنهم في العديد من المواقف والآراء، وكما قيل: (الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية).
فهؤلاء الأخوة سامحهم الله، يطالبون الحكومات العراقية المتعاقبة منذ 2003 وإلى الآن باتخاذ موقف معادي من أمريكا، وعدم السماح بوجود قطعات عسكرية أمريكية في العراق، بدعوى أن هذا الوجود يسئ إلى السيادة الوطنية. وكمحاولة إبتزازية، راح البعض منهم يتهمون كل من يخالفهم في هذا الرأي، بالانبطاح لأمريكا، والعمالة لها ولإسرائيل، إلى آخر الاسطوانة المشروخة من الاتهامات السخفية. نقول لهم، أن عملاء أمريكا وإسرائيل الحقيقيين هم الذين يشتمون أمريكا وإسرائيل علناً، ويخدمونهما بالسر.
أما الذين ينهجون هذا النهج وعن حسن نية، فإنهم لا يدركون مدى الدمار الذي سيلحقونه بالعراق لو اذعنت الحكومة العراقية لمطالبهم. ودليلنا على ذلك هو تجربة عام 2011، يوم أصر رئيس الوزراء الأسبق، السيد نوري المالكي، وبضغوط من إيران، والقوى السياسية العراقية التي تأتمر بأوامرها، على عدم السماح لأمريكا بإبقاء أي قطعات عسكرية لها في العراق. وقد حذرنا آنذاك من مخاطر هذا الموقف، وطالبنا السيد المالكي بعدم الإذعان لضغوط إيران وأنصارها في العراق، ولكن بلا جدوى. وكانت النتيجة احتلال ثلث مساحة العراق من قبل فلول البعث باسم داعش. (راجع مقالنا: (الكرامة والسيادة في خدمة داعش)(2)
فهل حقاً وجود عدد قليل من القوات الأمريكية في العراق لدعم قواته المسلحة، والمساهمة في حمايته من الإرهاب والعدوان، يسئ إلى السيادة الوطنية، والعراق بأمس الحاجة إلى دعم الدولة العظمى في مثل هذه الظروف الصعبة التي يمر بها؟ فلو كان الأمر كذلك لكانت دول كبرى مثل بريطانيا وألمانيا واليابان، وكوريا الجنوبية، وعشرات الدول الأخرى ناقصة السيادة.
إن إصرار السيد المالكي عام 2011 على رحيل آخر جندي أمريكي من العراق لا يدعو للثناء، لأن البديل كان سقوط ثلث مساحة العراق بيد داعش، وما تطلب ذلك من تضحيات جسيمة بالأرواح والأموال لتحريرها. وبذلك فقد خسر السيادة وخسر المنصب، بل وراح خصومه يحملونه مسؤولية جميع الكوارث التي حلت بالعراق على يد الداعش.
فعندما نطالب الحكومة العراقية بعدم معاداة أمريكا، وكسبها إلى جانب العراق، لا لخدمة أمريكا، بل لخدمة الشعب العراقي، ونحن نعلم أن أمريكا ليست مؤسسة خيرية، خاصة في عهد اليميني المتطرف ترامب. ولكننا نعرف أيضاً، أن أية مواجهة عسكرية أو حتى مجرد خصومة مع أمريكا، معناها انتحار جماعي. فإذا امتنعت الحكومة العراقية عن السماح لبقاء قوات عسكرية أمريكية في العراق، فالنتيجة هي إعادة احتلال داعش للمناطق السنية، و تحت أي اسم آخر، بل وحتى تشجيع حكومة إقليم كردستان للتمرد على بغداد، وهذا ما حصل عام 20014 يوم تم تسليم المناطق الغربية إلى داعش، واحتلا كركوك من قبل حكومة الاقليم، وما تطلب ذالك من تضحيات هائلة في الأرواح والأموال، وتعطيل التنميىة البشرية والمادية.
ليفهم هؤلاء أن الشعب العراقي الذي انهكته الحروب الصدامية العبثية، والعمليات الإرهابية بعد 2003، وبوضعه الحالي الهش والمتشرذم، و الصراعات الطائفية الغبية، واستعداد كل فئة من فئاته التعاون حتى مع الشيطان في سبيل إلحاق الهزيمة بالفئات المنافسة، ليس بإمكان هذا الشعب المواجهة مع الدولة العظمى في حروب محسومة النتائج. فبإمكان أمريكا وبمجرد إشارة خفيفة إلى أي من الفئات العراقية المتناحرة، بإعلان التمرد على حكومة بغداد. وهذا ما حصل يوم سلَّمت القوى السياسية السنية محافظاتها إلى داعش بدون إطلاق رصاصة واحدة في 10 حزيران 2014. فامتنعت أمريكا مساعدة العراق في محنته، حيث قال الرئيس الأمريكي أوباما آنذاك، أنه لن يتعاون مع العراق في محاربة داعش طالما بقي المالكي رئيساً للوزراء، مما اضطر الأخير للتنحي، ومجيء الدكتور حيد العباد لرئاسة الحكومة، والذي بكسبه أمريكا، نجح في تطهير جميع الأراضي العراقية من دنس داعش، ولكن بثمن باهظ في الأرواح والأموال. كما استطاع الدكتور العبادي استرجاع جميع المناطق المتنازع عليها بما فيها محافظة كركوك من هيمنة حكومة الإقليم اللادستورية، إلى آخره من المكتسبات وبدون حرب. والحقيقة يجب أن تقال، وهي، ما كان بإمكان السيد العبادي تحقيق كل هذه الانتصارات لولا الدعم الأمريكي له.
وعندما نقول أنه ليس من مصلحة العراق معاداة أمريكا، لا يعني ذلك أننا ندعو إلى معاداة إيران، إذ من مصلحة أمريكا وإيران أن تكون للعراق علاقة جيدة معهما. فإذا كانت أمريكا وإيران والسعودية وسورية وكل دول العالم وراء مصالحها، وترفع شعار بلادها أولاً، فلماذا على العراقيين وحدهم أن يضحوا بمصلحة بلادهم في سبيل مصالح غيرهم؟
يجب على دعاة وضع العراق في مواجهة غير متكافئة ومحسومة النتائج، مع أمريكا، أن يعرفوا أن أمريكا هي التي جاءت بحكم البعث للعراق في الستينات، وهي التي أزاحته عندما اقتضت مصالحها لذلك، وأمريكا هي التي سمحت بإحتلال داعش للمناطق السنية، وربما بالإيعاز منها، و هي التي ساعدت على دحره فيما بعد، لذلك وفي حالة أي عداء جديد لأمريكا، فهي مستعدة لإعادة كل السيناريوهات السابقة، وهكذا يبقى الشعب العراقي محروماً من أي استقرار والتمتع بثرواته الوفيرة، ويواصل الحروب والتضحيات البشرية والمادية الإستنزافية إلى حد الإنهاك التام، كل ذلك من أجل أن يُشبع البعض غرورهم، وهم يتنعمون بنعيم الغرب، بتحد أمريكا، والدول الغربية “الكافرة” والرأسمالية “المتوحشة” على حد تعبيرهم. فهؤلاء يريدون نعيم الغرب لأنفسهم، ولكنهم يحرضون الشعب العراقي ضد هذا الغرب باسم السيادة الوطنية. إنه قول حق يراد به باطل.
فمقابل تحرير المناطق المحتلة من داعش، دفع الحشد الشعبي نحو 50 ألف شهيد، ونفس العدد من القوات العسكرية النظامية، إضافة إلى صرف عشرات المليارات الدولارات، ودمار شامل للمناطق المحتلة، وفرار الملايين من السكان، وعشرات الألوف من اللقطاء. فأيهما أفضل، السماح لإبقاء عدد قليل من القطعات العسكرية الأمريكية لمساعدة الجيش العراقي في حماية حدوده، وأمنه الداخلي من الإرهاب الغاشم، أم رفض ذلك باسم السيادة الوطنية، والنتيجة تسليم ثلث مساحة العراق إلى الدواعش؟ وأية سيادة هذه في ظل الاحتلال الداعشي المتوحش؟ هذا السيناريو الرهيب ينتظر العراق فيما لو أذعن السيد عادل عبدالمهدي لضغوط إيران وأنصارها واتبع سياسة السيد نوري المالكي عام 2011.
اللهم إني بلغت، فهل من يسمع؟
ـــــــــــــــــــــــــــ
روابط ذات صلة
أياد السماوي: مخاطر الوجود العسكري الأمريكي في العراق
http://www.akhbaar.org/home/2019/1/252997.html
د.عبدالخالق حسين: الكرامة والسيادة في خدمة “داعش”
http://www.akhbaar.org/home/2014/9/177006.html