قراءة وعرض / أديسون هيدو
بعد رفده المكتبة الاشورية بالعديد من المؤلفات والكتب الأدبية والتأريخية المهمة , صدر عن مطبعة بطريركية كنيسة المشرق الاشورية في بغداد للكاتب والأديب الاشوري المعروف الأستاذ يوارش هيدو كتاب جديد حمل عنوان ( لمحة من تاريخ الاشوريين ) , وهو مهداه ( الى ارواح شهداء كنيسة المشرق الآشورية والى كل ابنائها المخلصين الذين يعتزون بماضيهم المجيد وايمانهم القويم وبملافنتها العظام وبتراثها الخالد ) , يقع في مائة صفحة من الحجم المتوسط بفصلين الأول ( الاشوريون قبل الميلاد ) والثاني ( أعتناق الاشوريين المسيحية ) مع الملحق ومصادر تأريخية .
يتناول الفصل الأول وضمن سياق نثري سلس تأريخ أجدادنا الاشوريين وأصولهم قبل اكثر من اربع الاف سنة قبل الميلاد عندما ظهرت ( كما يقول الكاتب ) في الجزء الشمالي من بلاد ما بين النهرين ( ميسوبوتيميا ) وبمحاذاة نهر دجلة جماعة من الناس عرفوا بالاشوريين وعرفت بلادهم بـ ( اشور ) , وهم أحفاد الأكديين الذين جاءت تسميتهم من كلمة أكد التي لا يعرف معناها اذا كانت سومرية أو سامية , فهي لفظة أطلقت أولاً على مدينة كانت تقع في أرض شنعار جنوبي بابل , ورد ذكرها في العهد القديم ( التوراة ) جنباً الى جنب مدينة بابل العظيمة كجزء من مملكة نمرود , وقد جعلها الملك ( سركون الأول ) عاصمة لامبراطوريته حوالي عام (2400 ق.م.) . وفيما بعد عمّت التسمية لتشمل البلاد كلها والتي كانت تضم العراق وعيلام وجزأ من بلاد فارس وأجزاء من سوريا . وكان الأكديون يتكلمون لغة سامية قريبة الشبه بالعبرية والتي منها تفرعت لهجتان هما البابلية والآشورية , وإستعاروا من السومريين نوعا من الكتابة أطلق عليها المسمارية ليدونوا بها لغتهم التي حفظت لنا عقوداً تجارية وقوانين وسجلات تاريخية وقصصاً دينية وعسكرية وأخبار الملوك وغيرها .
ومن الحقائق التأريخية التي استند عليها الأستاذ هيدو في كتابه ما ذكر في سفر التكوين من ان ( آشور ) خرج من أرض شنعار وبنى مدناً عديدة من بينها ( نينوى ) والتي أصبحت فيما بعد ، كما هو معروف، أهم العواصم الآشورية على الإطلاق . ولا يُعرف معنى الأسم آشور . وفي الكتاب المقدّس يدل هذا الإسم على أبن سام بن نوح الذي يعتبر أب الاشوريين , كما أن هذا الأسم ينطبق أيضاً على مدينة ( آشور ) العاصمة الأولى للآشوريين التي تُعرف اليوم خرائبها بقلعة شرقاط على الشاطئ الأيمن لنهر دجلة. وتبعد خرائب آشور مسافة 110 كم الى الجنوب من مدينة الموصل , كما أن آشور كان إسم الإله القومي الأعظم للآشوريين ويعتقد البعض إن إسمهم مأخوذ من إسم إلههم هذا ) .
( لقد بدأ ظهور الآشوريين السياسي في بلاد ما بين النهرين على شكل دويلة عاصمتها “آشور”. ويعتقد بعض المؤرخين أن تسميتهم بالآشوريين جاءت من إسم هذه المدينة التي بدورها سميت كذلك لكونها مقراً لعبادة كبير آلهتهم ( آشور ) . وحوالي ( 1275 ق.م ) تمكن ” توكولتي- نينب الأول ” ملك آشور من إخضاع بابل لتصيرَ جزءاً من المملكة الآشورية حتى سقوط نينوى (612 ق.م ). فتضاءلت أهمية بابل لتصبح آشور قوة عظمى وسيدة آسيا الغربية من غير منازع. وقد تتابع على العرش الآشوري عدد كبير من الملوك العظام الذين تحدث عنهم الكاتب بأسهاب مثل ( تغلات بيلاسر الأول ) و ( تغلات نينب الثاني ) ، ( آشور ناصر بال ) ، ( شلمناصر الثاني ) ، ( تغلات بيلاسر الثالث ) ، ( شلمناصر الرابع )، ( سركون الثاني ) ، ( سنحاريب ) ، ( أسرحدون ) ، وآشور بانيبال ) .
ويقول هيدو ( في عهد الملك العظيم آشور بانيبال بلغت الإمبراطورية الآشورية أوج مجدها وقوتها وعظمتها. ولكن مع ذلك وفي غضون سنوات قليلة بعد وفاته كُتب لهذه الأمبراطورية العظيمة المترامية الأطراف أن تنهار. فبعد وفاته سنة (626 ق.م ) خلفه ملوك ضعفاء وضعفت الإمبراطورية بدورها الى حد كبير. وبعد سنوات قليلة إستطاع الملك الميدي “كي إكسار” ان يلحق الهزيمة بالجيش الآشوري وأن يحاصر العاصمة نينوى بعد أن تحالف مع البابليين بقيادة ( نابوبولاسر ) . إستطاعت المدينة المحاصرة أن تصمد لأشهر قليلة إلا أنها سقطت أخيراً ودُمرت ) . ( لقد إقتسم الغزاة الأمبراطورية بينهم فخضعت آشور الاصلية لحكم الميديين بينما أصبحت بابل والمقاطعات التابعة لها من حصة الخائن نابوبولاسر الذي أصبح أول ملك لِما سُمي ( بالأمبراطورية البابلية الثانية ) . بعد مدة قصيرة وتحديداً في عام (605 ق.م) مات نابوبولاسر وخلفه إبنه نبوخذنصر الذي حكم حتى (562 ق.م). لقد كرّس هذا العاهل نفسه لاعادة بناء الهياكل القديمة وتجميل العاصمة بابل وأقام حولها أسواراً ضخمة. ومن أشهر حملاته العسكرية تلك التي شنها ضد اليهود التي إنتهت بسبي يهوذا وإحتلال اورشليم ونقل جزءٍ كبيرٍ من سكانها أسرى إلى بابل في عام (597 ق.م) . ( لقد دامت الامبراطورية البابلية الثانية ما يقرب من سبعين سنة، فبعد وفاة نبوخذنصر خلفه على العرش ملوك ضعفاء لم يدم حكمهم سوى سنين قليلة. ففي أيام آخر ملك بابلي، نابونيدوس، سقطت مدينة بابل التي كان يحكمها نيابة أبنه (بيلشاصر) بأيدي كورش الميدي . وهكذا شربت بابل الكأس نفسها التي شربتها نينوى، وعلى يد حليف الامس، الميديين. ومنذ ذلك التاريخ ظلت بابل تحت حكم الفرس الاخمينيين حتى زمن إلاسكندر الكبير (356-323 ق.م.)، لتصبح من ممتلكات الإغريق . إستطاع الفرثيون بعد نزاع طويل مع السلوقيين أن يحكموا بلاد ما بين النهرين نحوا من أربعة قرون (250 ق.م – 224 م). وبعد زوال سلطان الفرثيين خضعت البلاد الى الفرس الساسانيين الذين حكموا من (224 م) حتى سقوط إمبراطوريتهم على أيدي جحافل العرب المسلمين بعد معركة القادسية الشهيرة عام (635 م). ورغم كل هذه التقلبات ظلّ الآشوريون هم الأغلبية في هذه البلاد وكانت لغتهم لغة الثقافة والأدب حتى ظهور الإسلام ) .
( إن سقوط الإمبراطورية الآشورية ثم البابلية لا يعني على الاطلاق إنقراض أو إختفاء الشعب الآشوري البابلي كما يزعم بعض “المؤرخين” الدجّالين الحاقدين الجهلة ناسين أو متناسين الآشوريين المعاصرين الذين يبلغ تعدادهم أكثر من خمسة ملايين بعضهم ما زال يسكن في أرض أجداده ( بلاد ما بين النهرين ) منذ آلاف السنين الى يومنا هذا ، محافظين على هويتهم القومية وعلى لغة أبائهم وأجدادهم الأماجد بُناة أقدم حضارة في تاريخ البشرية. وتنتشر أعداد كبيرة من الآشوريين في بلدان عديدة ، سورية ، لبنان، تركيا، الولايات المتحدة الامريكية، كندا، أستراليا، نيوزلندا، السويد، الدانمارك، هولندا، فرنسا ، المانيا، روسيا ، المملكة المتحدة، ايران، أرمينيا، جورجيا، وغيرها. وجميع هؤلاء الآشوريين يتكلمون لغة واحدة ” السريانية ” التي هي إمتداد للغة البابلية\الآشورية أو شكل متطور لها ) .
ومن ثم يتساءل ( هناك أمثلة عديدة لامبراطوريات سقطت وزالت سلطتها السياسية والعسكرية لكن شعوبها لم تنقرض. فلماذا يفترض أولئك “المؤرخون” إنقراض الشعب الآشوري من بين جميع الشعوب؟! ألا يدل ذلك على جهلهم أو على حقدهم الأسود على أقل تقدير؟! نعم، الشعب الآشوري ما زال موجوداً رغم كل المذابح والكوارث والاضطهادات الفظيعة التي تعرّض لها على مر التاريخ. صحيح أن أعداداً كبيرة من الآشوريين قتلوا بحد السيف أو سيقوا أسرى الى بلدان أخرى إثر سقوط إمبراطوريتهم ، إلا أن هذا لا يعني البتة أن جميع السكان أُبيدوا ) .
في مكان آخر من هذا الفصل يتحدث الاستاذ هيدو عن مزايا الشعب الاشوري ويصفهم بأنهم كانوا شعباَ ناشطاَ مقداماَ مولعاَ بالحرب لا يعرف الأستسلام ينزل بالأعداء المغلوبين عقوبات في غاية القسوة والوحشية يلجأون اليها عند محافظتهم على النظام , وفيما عدا ذلك كانوا حماة للمدنية ولم يكونوا مخربين أو برابرة , وقد بلغ ( الاشوريين والبابليين ) كشعب واحد وطناَ ولغة وتأريخاَ وثقافة وديناَ درجة عالية من الحضارة , بما حققوه من تقدماَ ملحوظا في الحرف اليدوية وفن النحت والصياغة والهندسة والعمارة بما شيدوه من قصورا رائعة واقاموا من هياكل فخمة لآلهتهم العديدة , وكذلك في الزراعة حيث أوجدوا نظاماَ متقدماَ للري يدعو للأعجاب . وفي العلوم أيضاَ وخصوصاَ الرياضيات وعلم الفلك .
ومن ثم يتطرق الى ديانة الاشوريين فيقول ( عبدوا الهة كثيرة وكل أله كان مسؤولاَ عن جزء معين من الكون أو مظهر خاص من مظاهر الحياة اليومية , وكان أشور ألههم الرئيسي وهو أله الحرب , و (أشتارا الاهة الحب والجمال ) , و ( آنو أله السماء ) و ( أنليل أله الأرض ) و (سين أله القمر ) وهكذا .أما لغتهم فهي تنتمي الى مجموعة اللغات السامية .
في القسم الثاني من الكتاب يتطرق الكاتب الى موضوع أعتناق الاشورين المسيحية وكيف نشأت كنيسة المشرق الاشورية حيث يقول ( بعد صعود المسيح أنطلق تلاميذه يكرزون بالأنجيل في كل مكان من المعمورة حتى وصلوا بلاد ما بين النهرين وبلاد فارس وهم مار توما الرسول وبرتولماوس ومار ماري وتلميذاه ( اكاي وماري ) , لذلك يعتبر الشعب الاشوري من اولى الشعوب التي اعتنقت المسيحية , ويعد ( مار ماري ) بجدارة رسول الشرق الاول الذي بشر بالانجيل على نطاق واسع , وهو المؤسس الحقيقي لكرسي كنيسة المشرق , الذي عليه جلس العشرات من الجثالقة او البطاركة , فكانت ساليق وقطيسفون ( مقر الكرسي المقدس ) بمثابة العاصمة المسيحية للمشرق ورائدة الفكر المسيحي في الشرقين الاوسط والاقصى ومنها الى جميع انحاء الامبراطورية الفارسية ومن ثم الى الهند والصين ومنغوليا وغيرها . ثم يستعرض الكاتب في هذا القسم أسماء بطاركة كنيسة المشرق الذين خدموا الكرسي البطريركي منذ تأسيسه في القرن الأول الميلادي بدءَ من مار ماري وحتى يومنا هذا وتواريخ جلوسهم مرتبة حسب تسلسلها الزمني ومدة خدمة كل واحد منهم للسدة الرئاسية لكنيسة المشرق الاشورية , وكذلك أسماء الأساقفة اليوم , ونبذة عن اعادة النظام الانتخابي في الكنيسة منذ عام 1976 بأنتخاب ( مار خنانيا دنخا ) بطريركا لكنيسة المشرق تحت اسم مار دنخا الرابع حيث اسدل بانتخابه الستار على النظام الوراثي الذي انشأه شمعون الباصيدي وأنتهت حقبة تأريخية عرفت بحقبة ( بيت مار شمعون ) أو ( الأسرة الشمعونية ) التي دامت ستة قرون ونصف خدم خلالها الكنيسة بطاركة عظام خلد التأريخ أسماءهم لمأثرهم وتضحياتهم الجسام وصمودهم الأسطوري بوجه العواصف الهوجاء والأمواج العاتية ) .
ومن ثم يستعرض الاستاذ هيدو في كتابه عناوين واسماء الكتب الطقسية المتداولة في كنيسة المشرق الاشورية والمكتوبة جميعها بالسريانية وهي ( أونكَاليون ـــ الأنجيل الطقسي ) و( شليخا ـــ الرسول) و ( قِريانا ــــ القراءات ) و ( توركَاما ـــــ الترجمة ) و ( داويذا ــــ كتاب المزامير ) و ( خوذرا ــــ ألمدار ) و ( كشكول اي جمع الكل ) و ( دقذام وذواثر ــــ ألقَبل والبعد ) و ( كَزا ــــ الكنز ) و ( ميامر باعوثا دنينوايي ــــ تضرع أهل نينوى ) و ( طوخسا دعماذا ــــ طقس العماذ ) و ( طوخسا دبوراخا ــــ طقس أو رتبة الزواج ) و ( طخسا دقوداشا ــــ طقس القداس ) و ( طخسا دخوسايا ــــ رتبة الغفران ) و ( طخسا دسياميذا ــــ رتبة الرسامة أو وضع أليد ) و ( طخسا دعنيذي ـــــ رتبة وطقوس الدفن والتجنيز ) بالاضافة الى ثلاث كتب ادخلت اجزاء من محتوياتها في طقوس الكنيسة وهي ( ابو خليم ) و(كتاب خاميس ) و( وردا ) .
في نهاية الكتاب يستشهد الكاتب بما كتبه الآثاري وعالم اللغات السامية بجامعة كارديف، هاري ساكز في كتابه القيّم (جبروت آشور) أو عظمة آشور :
( إن تدمير الامبراطورية الآشورية لا يعني محو سكانها. لقد كان هؤلاء السكان في غالبيتهم فلاحين، وطالما أن بلاد آشور تحتوي على أراض زراعية هي الأخصب في منطقة الشرق الأدنى ، فان أحفاد أولئك الفلاحين الآشوريين ، كانوا كلما سنحت لهم الفرصة ، يُشيدون قرى جديدة على أنقاض المدن القديمة ويواصلون الحياة الزراعية متذكرين تقاليد المدن الكبيرة. بعد قرون من سقوط إمبراطوريتهم وبعد العديد من التقلبات، أعتنق هؤلاء السكان الديانة المسيحية. إن هؤلاء المسيحيين ومعهم الجماعات اليهودية المنتشرة بينهم، لم يحتفظوا بذكرى مواقع أسلافهم الآشوريين فحسب ، ولكنهم أدمجوها أيضاً مع التقاليد المستقاة من الكتاب المقدّس. وفي الحقيقة كان الكتاب المقدّس عاملاً مهماً جداً في الحفاظ على ذكرى بلاد آشور وخصوصاً مدينة نينوى التي كانت مسرحاً لواحدة من أكثر قصص العهد القديم سحراً وجاذبية، أعني قصة النبي يونان ) .