د. عبدالخالق حسين
يبدو أن العراق محكوم عليه أن يتحمل تبعات كل ما يجري من صراعات بين دول المنطقة، وخاصة بين إيران، والسعودية وتركيا، وبالطبع وراء هذه الصراعات أمريكا وإسرائيل وحسب ما تقتضيه سلامة وأمن الأخيرة. فالمعروف أن كل القوى السياسية في كل دولة من دول العالم لا بد أن تدخل بصراعات داخلية فيما بينها حول مصالحها الفئوية، والمنافسة على السلطة والنفوذ، ولكن عندما تكون بلادهم مهددة بخطر خارجي، فسرعان ما ينسون خلافاتهم، ويتوحدون صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، دفاعاً عن مصلحة شعوبهم و أوطانهم.
ولكن مع الأسف الشديد يبدو أن هذا المبدأ غير قابل للتطبيق في العراق. فمنذ سقوط حكم البعث الفاشي، انقسمت القوى السياسية فيما بينها، كل منها لجأت إلى دولة من الدول الاقليمية تستجدي منها الدعم ضد القوى المنافسة لها، وحسب انتمائها الطائفي والأثني، مفضلة مصلحتها الفئوية على المصلحة الوطنية.
حصل هذا مؤخراً، وبكل وضوح عندما قامت إدارة ترامب بفرض عقوبات اقتصادية جائرة على الشعب الإيراني انتقاماً من الجمهورية الإسلامية الإيرانية بسبب سياساتها المعادية لأمريكا وإسرائيل، وبرنامجها النووي، ودعمها للقضية الفلسطينية. إذ يذكر أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد أعلن في أوائل مايو الماضي، انسحاب واشنطن من الاتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي. وقرر لاحقا إعادة العمل بجميع العقوبات المفروضة على طهران، بما في ذلك العقوبات الثانوية، أي التي تطال بلدانا أخرى تقوم بالتعامل مع إيران. وقد هددت الخارجية الأمريكية الحكومة العراقية إذا ما رفضت الالتزام بالعقوبات الأمريكية ضد إيران، وقالت إن منتهكي نظام العقوبات يمكن أن يخضعوا هم أنفسهم للعقوبات.(1)
ونحن كعراقيين عانوا كثيراً من العقوبات الاقتصادية الجائرة لثلاثة عشر عاماً من الحصار الاقتصادي الدولي، بسبب سياسات النظام البعثي الساقط الإجرامية على اثر غزوه للكويت عام 1990، نعرف أن هذه العقوبات لا تضر بالنظام الحاكم، وإنما يتحمل وزرها الشعب، حيث الدمار الاجتماعي و الاخلاقي والحضاري والهجرة المليونية، بحثاً عن لقمة العيش بكرامة…الخ.
وهنا وجدت حكومة الدكتور حيدر العبادي نفسها بين (حانة ومانة)، كما يقول المثل العراقي، بين إيران وأمريكا. فإيران هي جارة تربطنا بها علاقات جغرافية، حيث لنا معها 1400 كلم من الحدود، وتاريخية لعشرات القرون، ودينية وثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية وأمنية…الخ، لا يمكن التفريط بها إطلاقاً. وفي نفس الوقت للعراق مصالح سياسية وأمنية واقتصادية مع أمريكا التي قامت بتحرير الشعب العراقي من أبشع نظام جائر في التاريخ، وخلصته من الحصار الاقتصادي الأممي، ومئات المليارات الدولارات من الديون، وتعويضات الحروب العبثية التي شنها النظام الساقط على دول الجوار. وفي هذه الحالة ليس بإمكان الحكومة العراقية أن تفرط بعلاقتها مع أمريكا لتأخذ موقفاً منحازاً إلى إيران.
لذلك فموقف الدكتور العبادي هو أشبه ببطل السرك الذي يمشي على حبل مشدود، لا بد وأن يحافظ على توازنه كي لا يسقط. وإنصافاً للرجل، أقول أن تصريحاته الأخيرة حول موقف العراق من العقوبات الأمريكية على إيران كانت جداً متوازنة، آخذاً بنظر الاعتبار مصلحة الشعب العراقي فوق مصلحة أي بلد آخر، تماما كما تفعل حكومتا إيران وأمريكا وغيرهما، و أية حكومة لا تعتبر مصلحة شعبها أولاً، هي حكومة خائنة لشعبها.
فماذا قال العبادي بالضبط في هذا الخصوص كي يثار ضده كل هذا الغضب من إيران، وأنصارها في العراق؟
قال العبادي وحسب ما نقلته وكالة رويتر للأنباء: ” من حيث المبدأ نحن ضد العقوبات في المنطقة. الحصار والعقوبات تدمر المجتمعات ولا تضعف الأنظمة“. وأضاف ”نعتبرها خطأ جوهريا واستراتيجيا وغير صحيحة، لكن سنلتزم بها لحماية مصالح شعبنا. لا نتفاعل معها ولا نتعاطف معها، لكن نلتزم بها“.(2)
والعبارة التي أثارت غضب إيران، وأنصارها في العراق هي “لكن نلتزم بها”. وهل بإمكان أي رئيس حكومة، حريص على مصلحة شعبه أن يقول غير ذلك؟ هل بإمكان العبادي أن يقف بوجه جبروت أمريكا؟ وهل يتعظ العراقيون من تجاربهم المؤلمة و خيباتهم السابقة؟
لقد حاول السيد نوري المالكي، رئيس مجلس الوزراء سابقاً، وتحت ضغوط من إيران، وأنصارها في العراق، تحدي أمريكا، ورفض طلبها بإبقاء قطعات عسكرية أمريكية في العراق لتدريب القوات العراقية، ومساعدتها في حربها على الإهاب. فماذا كانت النتيجة؟ النتيجة احتلال ثلث مساحة العراق من قبل شذاذ الآفاق من الإرهابيين البعثيين الدواعش لثلاثة أعوام عجاف، ولم يتم تحريرها إلا بمساعدة أمريكا والقوات الدولية، و إزاحة المالكي عن رئاسة الحكومة، وتدمير البنى التحتية بشكل كامل في المناطق المحتلة، واستشهاد عشرات الألوف من القوات المسلحة والحشد الشعبي وغيرهما، وقتل عشرات الألوف من المدنيين من قبل الارهابيين، إضافة إلى صرف عشرات المليارات من الدولارات على العمليات الحربية بدلاً من استثمارها في الاعمار والتنمية البشرية.
لقد طلع علينا بعض أنصار إيران من العراقيين بمقالات نارية غاضبة ضد حيدر العبادي بسبب قوله (لكن نلتزم بها)، أي بالعقوبات. وعلى سبيل المثال لا الحصر: كتب السيد محمد مجید الشیخ، وهو سفير عراقي سابق في طهران، مقالاً بعنوان (إيران خط أحمر) جاء فيه: ” ان ایران وكما تحدثنا ‘الروایات المتواترة’ هی قاعدة الامام المهدی (ع)، الذی سیقود جیوشها للقضاء علي السفیانی الذی یدخل العراق ویعیث فسادا فی الارض، ثم یتجه الامام (ع) الي بیت المقدس محررا وفاتحا. وإذن فان إضعاف ایران فی العقل الاستراتیجی (الصهیو إنكلو امریكی) هو لعرقلة تحقق هذا الوعد الالهی .. ولكن خسئوا فان الله منجز وعده ولو كره الكافرون.”(3)
ومع احترامنا لمعتقدات الناس الدينية والمذهبية، إلا إننا نرفض استغلال هذه المشاعر لأغراض سياسية تضر بمصلحة بلدهم، وهو يمر بأحلك الظروف تهدد وجوده، لمصلحة بلد آخر. فهل يمكن لأي عاقل مسؤول على رأس الحكومة أن يضحي بمصلحة شعبه بناءً على هذه السفسطات المتافيزيقية التحريضية التي لا تسمن ولا تغني من جوع ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين؟ فالعراق يمر بمرحلة تاريخية وجودية خطيرة، ليس هناك أي مجال للتلاعب بمشاعر البسطاء من الناس، الدينية والمذهبية، بل يجب اتباع المنطق العلمي العقلاني السليم، وسياسة فن الممكن، والالتزام الكامل بمبدأ (العراق أولاً) ومصلحته فوق مصلحة أية دولة أخرى، والتخلي عن هذا المبدأ يعتبر خيانة وطنية.