حازم زوري
في حوار عرضي تم اليوم مع صديق من اصدقاء مرحلة الشباب يوم كنا في مقتبل العمر ، بشخصياتنا اليانعة وتجربتنا المحدودة وخطواتنا البكر في الحياة … بادرني هذا الصديق بالقول : انت لست حازم الذي كنت اعرفه قبل ما يقرب الاربعين عاماً ، فأجبته بلا تردد : انت على حق يا صديقي … فكيف تريدني ان اكون ذلك الانسان الذي عرفته قبل اربعة عقود من الزمن … كيف يمكنني ان اكون ذات الشخص بعد خبرات وتجارب اربعين عاما في سوح الحياة ، واربعين عاما في سوح المعرفة الثرة انكببت خلالها على الكتابة في مختلف المجالات الادبية وعلى التهام المئات من الكتب في مختلف انواع المعرفة وما زلت !!! كيف يمكنني ان اكون ذات الانسان الذي لم يكن له في ذلك الوقت قضية او موقف من المعضلات الكونية ومن ازلية الصراع بين الحق والباطل وقضايا الانسان والحياة والحرية ،وكانت المبادئ والثوابت في طور التشكل والصيرورة وكنا في مستهل العمر فلا موقف لنا من اي قضية اذ لم نكن نملك سوى الصمت والاندهاش ازاء ما يعترضنا في الحياة ،بسبب قلة الخبرة والتجربة من جهة وبسبب جور السلطة وبطشها وقسوتها وذراعها الامنية الطويلة التي اطبقت على الوطن من اقصاه الى اقصاه ،فألجمت الافواه وصادرت الحريات واغتالت الفكر واصحابه وملأت رحاب الوطن بالسجون والمعتقلات والمقابر والاشلاء وتفننت في تعذيب اصحاب الرأي الآخر ..
كيف يمكنني ان اكون ذات الانسان الذي القمته السلطة البعثية المضللة في مرحلة الدراسة الاعدادية والجامعية مثله مثل ملايين العراقيين
الكثير من الاكاذيب والاضاليل والهتافات الرخيصة والتاريخ المزور الذي اتضح لنا زيفه وبهتانه فيما بعد ،وما ظل مخفيا منه جاء عصر الانترنت ليفضحه ويؤكد سقوطه وسقوط تلك الشعارات وتلك الرموز التاريخية التي قُدمت الينا كابطال تاريخيين بينما لم يكونوا في حقيقتهم سوى مجاميع غزاة وقطاع طرق ومجرمي حرب وسفاكي دماء تاجروا باسم الله ..
بعد اربعين عاما بمخاضاتها العسيرة وتحدياتها الكثيرة وطنياً وفكرياً وإنسانياً وعلى المستوى الشخصي ، وبعد رحلة استكشاف عميقة ومضنية في دهاليز الحياة ودروبها الوعرة وفي ميادين المعرفة الواسعة والمتشعبة لم اعد الشخص الذي كنته وهذا امر طبيعي ، فالشخصية في حالة مخاض دائم وصيرورة متواصلة ، وما كنا لا نملك ازاءه سوى الدهشة والذهول او الصمت والحيرة يومذاك ،بات لنا منه موقف ورأي رفضاً او قبولاً فيما بعد مقروناً ذلك كله بكم كبير من التساؤلات التي تنتظر اجوبة على صفحات الايام ،وتلك هي ضريبة الادراك والمعرفة الجميلة التي اسهمت في تشكل وبناء شخصيتنا وكينونتنا ووضعتنا في موقف مسؤول واخلاقي ملتزم تجاه كل قضية وفكرة وطرح ،وما رافق ويرافق ذلك من تحديات لا يمكن لاي انسان يحمل الحد الادنى من الثوابت الاخلاقية والمبادئ الانسانية ان يقف متفرجاً او غير مكترث ازاءها ..
اجل يا صديقي … انا لم اعد ذلك الانسان ، والزمن ليس ذلك الزمن ، والارهاصات والهواجس والتمنيات والهموم ليست ذاتها ، فلكل عمر شؤونه وشجونه وادواته واحتياجاته ، وبودقة الحياة تواصل صهرنا واعادة تشكيلنا بشكل مستمر ومنتظم مع اغنائنا بكل ما هو جديد من حقائق ومعارف وعلوم ،ولكنها لا تزيدنا في مسألة الاخلاص للثوابت والقناعات والموقف من قضايا الوطن والانسان والحرية والكرامة البشرية سوى يقيناً وثباتاً ورسوخاً.