حنان اويشا
تحتفل الامم المتحدة سنوياً يوم 21/ فبراير من خلال منظمة اليونسكو للتربية والعلوم والثقافة باليوم الدولي للغة الام، وبحسب المنظمة فان الهدف الأساسي وراء تحديد هذا اليوم يأتي كمساهمة منها في تعزيز التعليم من أجل المواطنة العالمية. حيث تبدي اهتمامها بالمناسبة بعدة مظاهر احتفالية حرصاً منها على الحفاظ على التنوع اللغوي بين شعوب المعمورة وكدلالة على أهمية صون ذلك التعدد والتنوع في ظل التهديد الذي يكتنف آلاف اللغات بالاندثار خصوصاً ان العالم يعيش عصر العولمة وثورة تكنولوجية عارمة.
وتتبنى اليونسكو بهذه المناسبة اقامة انشطة ثقافية وفنية مختلفة، اضافة الى لقاءات وندوات ومهرجانات متنوعة، وترفع في كل عام شعاراً خاصاً تعبر من خلاله عن رؤيتها واهدافها تجاه عملية الحفاظ على اختلاف الثقافات حول العالم من خلال الحفاظ على اللغة الام باعتبارها عنصراً أساسياً من عناصر بناء ثقافة الشعوب. فقد رفعت المنظمة هذا العام مع احتفالها باليوم الدولي الرابع والعشرون للغة الأم شعار “التعليم المتعدد اللغات – ضرورة لتحقيق التحول المنشود في التعليم”.
كما أكدت الرسالة التي وجهتها بالمناسبة المديرة العامة لليونسكو السيدة أودري أزولاي على ضرورة التعليم باللغة الام لتمكين الفرد من التطور والنمو على اكمل وجه ونقل التراث اللغوي، مشيرةً الى ان نسبة 40% من التلاميذ في شتى انحاء العالم يتعذر عليهم تلقي تعليمهم باللغة التي يجيدون تكلمها أو فهمها أكثر من غيرها، وهذا يسفر عن عواقب وخيمة على عملية التعلم والتعبير الثقافي وبناء الروابط الاجتماعية، ويزعزع بنيان التراث اللغوي للانسانية. وأكدت الرسالة على ان ذلك لايتحقق الا بزيادة الوعي العام بشأن اهمية التنوع اللغوي والتنوع الثقافي في العالم اللذين يعدان هشّين وفي الوقت ذاته لايقدران بثمن. فكلما اندثرت لغة من تلك اللغات فقدنا كنزاً لايمكن تعويضه.
ولا يقتصر الاهتمام بضرورة إدامة اللغات الام حول العالم على المنظمات الدولية، وانما هناك دعوات لخبراء ومختصين ينادون فيها لصيانة هذا الارث التاريخي الذي مد جسور التواصل بين الشعوب لقرون طويلة وحافظ على ترابطها الثقافي والمجتمعي.
بهذا الشأن يقول أستاذ الترجمة وعلم اللغة في جامعة القاهرة، الدكتور خالد توفيق:
اللغة الأم هي اللغة الأولى التي يتعلمها الطفل، لكنها ليست اللغة التي يتحدثها بالضرورة من حوله. وقد يتعلم لغته الأم الخاصة بالعرق الذي ينتمي إليه، لكنه قد يدرس بلغة أخرى في المؤسسة التعليمية. لذلك ثمة مخاوف من اندثار لغات كثيرة، حيث تشير التقديرات الى أن العالم كان فيه نحو 7 آلاف لغة، في حين لم تعد هناك اليوم سوى ألفي لغة. وترجح التوقعات اختفاء نحو ألف لغة خلال السنوات الخمسين المقبلة، وعندئذ ستختفي ثقافات كثيرة مرتبطة بها.
وحقيقة عند تعلق الموضوع بمخاوف اندثار لغة ومعها ثقافة شعب من الشعوب تاخذنا الذاكرة الى الصراع المرير الذي خاضه الشعب الكلداني السرياني الاشوري خلال مراحل تاريخه الطويل والعريق والوعي الذي أتسم به ابنائه من أجل الحفاظ على عناصر وجوده كشعب حي ذو هوية قومية ودينية اختلفت دائما عن الشعوب المحاطة به ، ذلك الاختلاف الذي لم يحسب يوماً في تاريخ العراق الحديث كعنصر مهم من عناصر الغنى والثراء الوطني والثقافي والمجتمعي، ذلك ما كلف هذا الشعب الكثير من التضحيات البشرية والمادية والمعنوية، ودفعه الى التعاطي مع كل الازمات التي مرت به وفي مراحل زمنية مختلفة بتأن وحسب ما تطلبته ظروف كل مرحلة وبيئتها لاجل صون كيانه ووجوده. ولعل ان الاهتمام باللغة الام كان من اولويات ابنائه الذين ادركوا اهميتها ولم يدخروا جهداً اينما تواجدوا لابراز هويتهم كأمة لها خصائصها وتراثها وموروثاتها من خلال صيانة لغتهم وحمايتها من الضياع والاندثار والتصدي لكل المعوقات التي تقف في طريق تحقيق هذا الهدف النبيل والحق الذي اقرته كل المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الانسان. وهنا لابد من الاشادة بمؤسسات الشعب الدينية والقومية ومؤسسات المجتمع المدني ودورها الكبير في صون اللغة الام التي حافظت عليها كنائس شعبنا لقرون طويلة من خلال اقامة طقوسها وقداديسها باللغة السريانية، اضافة الى تعليمها عبر اقامة دورات تعليمية يشارك فيها ابناء الرعية بجميع فئاتهم واعمارهم.
والى جانب الكنائس فقد كان لمؤسسات شعبنا القومية والاعلامية دوراً فعالاً في احياء اللغة السريانية رغم كل الاوضاع الصعبة التي مرت بشعبهم السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية، وتبعاتها على بنية المجتمع واستقرار ابنائه في مدنهم ومناطقهم حيث الهجرة والتشتت في بقاع مختلفة من العالم، ورغم ذلك فان التاريخ حفظ لنا خطوات مهمة يشهد لها باتجاه تبني مشاريع وبرامج قومية واعلامية حتى في دول الشتات، ومنها الاهتمام باصدار الصحف والمجلات التي اخذت على عاتقها احياء اللغة الام كهدف رئيس واساسي في نهجها وخطها الفكري. فتاريخ الصحافة السريانية ومنذ انطلاقتها عام 1849 زاخر بتلك التجارب الصحفية التي اهتم القائمون عليها على تخصيص صفحات من منشوراتها باللغة الام، ايماناً بالمسؤولية التي تقع على المؤسسة الصحفية في تحمل قضايا الشعب المصيرية ومحاولة الابقاء على مرتكزات وجوده وان اجبرتهم الظروف على الابتعاد عن ارضهم ووطنهم.
وعند الحديث عن ان اهمية احياء اللغة السريانية لدى ابناء الشعب الكلداني السرياني الاشوري بالشكل الذي يليق بمكانتها وارثها العريق لابد من العودة الى مرحلة تاريخية اخرى مهمة شهدها تاريخهم الحديث على الصعيد السياسي والقومي والثقافي، وتجلى بعد الحدث السياسي الذي شهدته المناطق الشمالية من العراق وتمثل في انتفاضة كبيرة لابناء المنطقة في اذار عام 1991 والتي نتج عنها ابعاد سلطة النظام السابق عن مناطقهم، ومن ثم اجراء انتخابات برلمان اقليم كوردستان العراق وماترتب عن ذلك من اوضاع سياسية جديدة اتسمت بافساح المجال للمكونات المتعايشة في المنطقة لممارسة حقوقها السياسية والثقافية في اجواء ديمقراطية اكثر ملائمةً، واقرار حق المكون الكلداني السرياني الاشوري في اختيار ممثليه عبر مقاعد الكوتا المخصصة له، حيث اصر نوابهم آنذاك على اقرار عملية التعليم السرياني واعتمادها وفق أسس علمية وتربوية من خلال انشاء مدارس سريانية رسمية لطلبة المكون يدرسون فيها جميع المواد والمناهج بلغتهم الام السريانية. وكوننا عايشنا تلك الفترة عند بداياتها دائما ما ترجع بنا الذاكرة الى الصعوبات والمعوقات التي اكتنفت العملية خصوصاً عند بداياتها نتيجة الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة التي سادت المنطقة، وتأثيراتها على كل مفاصل الحياة، اضافة الى اسباب ذاتية تمثلت في قلة التخصيصات المادية ونقص الكوادر التدريسية التي تجيد اللغة السريانية، ومن ثم الغموض الذي ساد حول مستقبل العملية ومدى نجاحها وغيرها من المعوقات التي تم تجاوزها بصعوبة واقتضى ذلك ربما عقود من الزمن وتقديم الكثير من الدعم والمساندة من لدن ابناء المكون ومؤسساته القومية والخيرية داخل الوطن وخارجه الى جانب ما قدمته المؤسسات الحكومية المعنية بالتربية والتعليم.
فبعد ان تمخضت جهود ممثلي المكون في برلمان الاقليم الى اقرار عملية التعليم السرياني عام 1993 وفقا لقانون وزارة التربية المرقم (4) لعام 1992. وتم البدء فعلا بوضع اللبنات الاولى لمدارس سريانية رسمية لمراحلها الابتدائية في مركز محافظة دهوك، وايضا في عدد من القرى والمناطق، وجاء الافتتاح الرسمي للمدارس بتاريخ 6/3/1993، حيث تم حينها افتتاح ستة مدارس في مركز محافظة دهوك ومدرسة في كل من سميل ومجمع المنصورية وبيرسفي وكوماني وديرالوك وعقرة ومدرستان في زاخو، علما ان مدرسة في سرسنك كانت قد افتتحت في شهر تشرين الثاني من عام 1992 واستنادا الى نفس قرار وزارة التربية.
وقد اثبتت العملية عام بعد عام نجاحها وخرجت بنتائج غير متوقعة آنذاك، بعد تمكن الطلبة من تحقيق نسب نجاح جيدة في جميع المراحل وعلى مستوى المدارس والمحافظات الى ان انهت الدفعة الاولى دراستها الابتدائية في العام الدراسي 96ـ97 بنجاح كبير بعد مشاركتها في الامتحانات العامة (البكالوريا) الوزارية، والنجاح الباهر للعملية تمثل في تحقيق نسبة نجاح بلغت 76% في الدور الاول، وهذه اعلى نسبة نجاح تحصل عليها المدارس الابتدائية حينها، كما ان معظم المدارس السريانية حصلت على نسبة نجاح 100% وحصلت على المركز الاول أو المراكز المتقدمة على مستوى المحافظة.
وتكررت الحالة عندما دخل طلاب المرحلة المتوسطة بالدراسة السريانية في الامتحانات العامة الوزارية للصف الثالث المتوسط في العام الدراسي 2000ـ 2001 ، كذلك بالنسبة لطلاب المرحلة الاعدادية بفرعيها العلمي والادبي في الامتحانات الوزارية في العام الدراسي 2003ـ 2004. وتكلل نجاح العملية بدخول الطلبة الى جامعات ومعاهد الاقليم عام 2004 حيث تخرجت الدفعة الاولى منهم عام 2007ـ 2008.
ومن الطبيعي وبعد هذه النجاحات التي حققها التعليم السرياني في الاقليم وكتجربة مهمة اضافت الى أسس التعايش الاخوي وضمان حقوق المكونات المتعايشة فيه، ان يضمن لها كل مقومات التواصل التطور، وفق ذلك تواصلت المطالبات من قبل المعنيين من ابناء المكون بفتح اقسام للدراسة السريانية في جامعات الاقليم لما لها من اهمية في رفد العملية بالكوادر التدريسية الاكاديمية والتي كانت في أمس الحاجة لها طوال عقود منصرمة، وبعد المطالبات المتكررة من قبل المؤسسات القومية والتربوية المعنية، جاءت الموافقة على فتح قسم لدراسة اللغة السريانية في كلية التربية ـ جامعة صلاح الدين بعد صدور الامر الوزاري بتاريخ 31/8/2016 من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في الاقليم كخطوة مهمة اخرى نحو التواصل في انجاح هذه التجربة الرائدة.
وحرصاً على المضي في رحلة التعليم باللغة الام فان القائمين عليها والمهتمين باحيائها وتطويرها كلغة عريقة ارتبطت جذورها بالعمق التاريخي للعراق وحضاراته، ساهموا بخطوة اخرى مهمة بعد التغيير السياسي الجذري الحاصل بعد اسقاط النظام السابق عام 2003، حيث تعالت مطالباتهم مرة اخرى لفتح اقسام للغة السريانية في جامعات بغداد بناءًا على مبدأ ضمان حقوق كل المكونات العراقية الذي كفله الدستور خصوصاً الاقليات الصغيرة التي غيبت وهمشت لسنوات طويلة رغم كونها شعوب اصلية للبلد، ومن واجب السلطات الجديدة الحفاظ على ذلك التنوع والاختلاف العرقي والثقافي لمكوناته، لتثمر مطالباتهم تلك بتأسيس قسم اللغة السريانية في كلية اللغات ـ جامعة بغداد بموجب كتاب مجلس الحكم المرقم 1228 في 31/3/2004، ليبدأ التدريس في القسم في تشرين الثاني / 2004 وساهم في تخريج عدد كبير من الكوادر المتخصصة باللغة السريانية الذين يتولون حاليا مهمة التدريس في المدارس السريانية الثانوية وفي مناطق مختلفة.
ان المعاناة والمآسي التي تمر بها الشعوب مهما طالت تبقى حافزاً للمضي نحو تحقيق واقع افضل لها ، ذلك ما اثبتته تجارب لا حصر لها في تاريخ نضال الشعوب من اجل العيش بحرية وكرامة، وما اصرارها على الحفاظ على ارثها وموروثاتها الا دليل على قوة الارادة والتصميم على نيل حقوقها الانسانية التي طالما حاولت القوى والحكومات المتنفذة على هضمها، وربما ياتي في مقدمتها محاولات محو اللغة الاصل باعتبارها اثبات حي على اختلاف الشعوب عن بعضها عبر مقومات تحدد هويتها وكيانها وعمق وجودها التاريخي. وحقيقة اننا شخصياً وفي السنوات الاخيرة كان لنا اهتماماً بالموضوع من خلال التذكير باليوم الدولي للغة الام التي اقرته الامم المتحدة في 21 /2 /2000 الذي وجدنا في خلفياته شواهد لتجارب الشعوب وتشابه سبل كفاحها من اجل الحفاظ على لغتها حتى وان كلفها تضحيات كبيرة، وقصة تحديد هذا التاريخ كيوم دولي للغة الام يأتي كمثال حي على ذلك، تلك القصة التي دعت منظمات دولية مرموقة كالامم المتحدة الى اطلاق الدعوات لتعزيز ثقافة تعدد اللغات حول العالم التي ستشجع بالتالي على تحقيق التضامن المبني على قيم التفاهم والتسامح والحوار.
فالقصة بدأت من بنغلاديش التي كان لها الدور الأكبر في إقرار هذا اليوم العالمي بعد شهدت احداث دامية دفاعاً عن لغتها الأصل عندما قام رئيس وزراء الباكستان عام 1948 بفرض اللغة الأردية على (باكستان الشرقية) بنغلادش حالياً. حيث كانت الباكستان تنقسم جغرافياً لباكستان الغربية (باكستان حالياً) وباكستان الشرقية. وفي عام 1952 أعلنت الحكومة في الباكستان بأن الأردية هي اللغة المعتمدة في الدولة متجاهلة بذلك النصف الشمالي في الباكستان الشرقية، ولا سيما أن أهلها يتحدثون اللغة البنغالية، ويبلغون الجزء الأكبر من السكان.
هذا الإعلان أثار غضب البنغلاديين وحميتهم، وجعلهم يتظاهرون دفاعاً عن لغتهم التي يفخرون بها، حتى وصل الامر الى احتجاجات دامية، وفي 21 فبراير 1952 تصدت القوات الباكستانية للحركة التي قام بها طلاب جامعة دكا، وفتحت النار عليهم مخلفة خمس ضحايا من الطلاب والنشطاء المحتجين، اضافة الى مئات الجرحى، سميت هذه الاحتجاجات بثورة اللغة أو الحركة اللغوية التاريخية (أمور إكوشي)، وهي تعد من الأحداث النادرة تاريخياً، أن يثور شعب دفاعاً عن لغته الأم. بعد ذلك أقرت الباكستان بأن البنغالية هي لغة رسمية في الدولة عام 1956، وبعد أن استقلت بنغلاديش (باكستان الشرقية) في 26 آذار 1971 أصبحت البنغالية هي لغتها الرسمية.
وتعد البنغالية من اللغات الثرية التي تحتل المركز السابع عالمياً من حيث عدد المتحدثين بها. هذا ما دفع بدولة بنغلاديش للتقدم بمبادرة للمؤتمر العام للثقافة والتربية والتعليم (اليونسكو) عام 1999 تطلب فيها إعلان يوم عالمي للغة الأم حمايةً للغات المهددة بالزوال، وتخليداً لذكرى الضحايا الذي قدموا أرواحهم دفاعاً عن لغتهم البنغالية، وبناءًا على هذه المبادرة تم اطلاق اليوم العالمي للغة الأم بتاريخ 21 فبراير 2000 باجماع أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة (اليونسكو).