نيسان بيغازي
لم يتوقف تاريخ امتنا الاشورية وعبر محطاته المتواصلة من تسجيل مناقب سامية ومواقف جريئة لرجال أشروا بمواقفهم عمقا مشهودا في الدفاع عن قضيتهم من خلال ما قدموه من العطاءات التي ساهمت في اذكاء روح الجماهير ولعبت دورا في عملية النضج الفكري لها خالدين في ذاكرة الماضي كثروة قيمة ودرس مفتوح للحاضر من الاجيال .
واحد هؤلاء الرجال الطبيب بطرس البازي ،حيث كانت لمواقفه ونشاطاته علاقة بالواقع الذي كانت تعيشه جماهير امته فجعل من هذه النشاطات رسالة وخدمة بعيدة عن المال والشهرة فاستحق تقدير التاريخ وثناء الامة
1 – سيرته الذاتية :-
في احضان جبال اكاري الشاهقة وتحديدا في اقليم باز- قرية ماختيا ولد الدكتور البازي عام 1902 وترعرعت خصاله القومية والفكرية التي استقاها من محيطه وخاصة من والده القس دانيال يوسف الذي كان يدير مدرسة امريكية نقلت الى باز بعد عدم نجاحها في ليزان وكانت الدراسة فيها بالاشورية والانكليزية ولمرحلتين الابتدائية والمتوسطة بعدها كان الطالب يرسل الى اورمي في ايران لتكملة تحصيله الدراسي للمرحلة الاعدادية ومن ثم الحصول على شهادة جامعية في احدى الدول الاوربية . وقبل التهجير القسري للاشوريين من ديارهم من قبل آل عثمان عام 1915 ارسل الى ايران – تبريز لتكملة دراسته في الاعدادية العامة ثم سافر الى جنيف –سويسرا وحصل من جامعتها على شهادة طبيب مختص في الادوية بعدها ينتقل الى لندن – انكلترا لينهي تعليمه في الجامعة في علوم الطب باختصاص امراض الباطنية والمناطق الحارة، وفي نهاية العشرينات يعود الى الوطن ويخدم في وزارة الصحة العراقية / مكتب نانس لجامعة الامم ومستشفيات جمعية التبشير الكنسية ،ونسب الى مستشفى تكريت وبعد فترة قصيرة يقدم طلبا لنقله الى الشمال وكان هدفه من ذلك ان يقدم خدمته الطبية لابناء شعبه وتم ارساله الى منطقة عين سفني، حيث تواجدهم الكثيف هناك.
2 – نشاطاته :-
كان شجاعا في قول الحقيقة باغضا للباطل وتميز بشخصية سياسية وثقافية وقدرة عالية على المحادثة وكان دائم الافتخار بتراثه وثقافته الآشورية ، فاستثمر امكانياته هذه وسخرها لصالح القضية القومية في المجالات التالية : –
1 / دفاعه عن المسألة الآشورية :
في يوم الاستقلال الشكلي الذي منح للعراق في تشرين الاول 1932 والمقيد بشروط مفروضة من قبل الانكليز ارسل الدكتور بطرس مقالا بالانكليزية الى صحيفة سيادة العالم الواسعة الانتشار ( ورلد دومنيون) تضمن حقيقة الاوضاع السياسية والمعاناة المأساوية اليومية التي كان يعيشها ابناء شعبه والتي تنذر بشر مستعير للايقاع بالاشوريين وتضمنت مقالته شكاوى عديدة منها :
أ – ان تسريح قسم من المجندين الاشوريين من قوات الليفي الاشورية سببت لهم مشاكل مادية واقتصادية كبيرة .
ب – منعهم من العمل في الدوائر الحكومية وشركات النفط العراقية وتسريح العاملين فيها بسبب التعصب القومي الموجود والتحريض لطردهم من مصلحة السكك الحديد العراقية كونهم دخلاء.
ج – اسكانهم في مناطق واراضي غير صالحة للسكن البشري وبشكل غير متجانس خشية منهم مما تسبب على نزوح قسم من الاشوريين الى سوريا .
وفي نيسان 1933 ارسل المبشر الامريكي كمبرلاند ردا على مقالة الدكتور بطرس الى نفس الجريدة التي نشر فيها مقاله وتم ترجمة مقال كمبرلاند من قبل الحكومة العراقية الى اللغة العربية وارسل الى كل الجرائد والمجلات العراقية للقيام بنشره حيث اشادت الحكومة العراقية بمقال كمبرلاند لانها كانت تبرئة لسياسة العراق تجاه الاشوريين بادعائه بان الاشوريين اسكنوا في احسن المناطق التي لم يحضى بها اقرانهم من الايزديين والاكراد. ونفى كمبرلاند تسريح الاشوريين من العمل في دوائر الدولة او شركات النفط وبالنسبة للمجندين الاشوريين المسرحين فقد تم اعادتهم الى الخدمة بعد ان تعلموا اسلوب النظافة ، كما استخدم كمبرلاند نفوذه ايضا في اقناع الاشوريين بالوثوق بالحكومة العراقية ، وقام الاب بولص بيدارو بالرد على مقال كمبرلاند دفاعا عن الاشوريين وارسله الى الجرائد العراقية من دون ان يسيء الى اية جهة معينة لكن المقال هذا اهمل فلجأ الى طبع الرد في منشور خاص لتوزيعه لكن تم احتجازه ايضا من قبل الشرطة العراقية واعتبر الاب بيدارو مجرما.
* وقد ادلى فيليب ممفورد ضابط الاستخبارات العسكرية البريطانية في العراق والمتابع الجيد للقضية الاشورية بتصريح غير منحاز في موضوع المقارنة بين ما كتبه الدكتور بطرس والمبشر كمبرلاند حيث قال ان الحقيقة في هذه المسألة تقع اقرب الى شكوى الدكتور بطرس منها لتوضيحات كمبرلاند.
* اما الدكتور ديفد برصوم بيرلي في مقارنته بين المبشر جون فان وكمبرلاند يقول ان كمبرلاند قلب وحور وابتز الحقائق عن مسألة الاشوريين .اما جون فكان مضطرا لكسب صداقة العرب في العراق لان عمله التبشيري كان في خطر اذا نطق الحقيقة.
مما تقدم نستنتج بان مقال المبشر كمبرلاند لم يكن الا مجاملة للحكومة العراقية وتحسين صورة المبشرين التي كانت موضع شك وريبة من قبل الحكومة العراقية ، واثناء مذابح سميل وتحديدا في 16 آب 1933 تلقى كمبرلاند مكالمة هاتفية من المفتش الاداري في الموصل يدعوه الى احضار زوجته الى الموصل حيث كانت الخارجية العراقية قد قدمت شكوى تتعلق بنشاطاته السياسية ويطلب نقله من بغداد لانه قام بكتابة كل ما يتعلق بالمذبحة في سميل ويحمل الجيش العراقي مسؤولية المذابح ويتهم العرب والاكراد بالسلب والنهب للقرى الاشورية وطلب المفتش الاداري ستافورد انسحاب المبشرين من الموصل لسلامتهم الشخصية ولكي لا تطلب الحكومة منهم ترك البلاد وعندها لا يتحقق الهدف الذي جاءوا من اجله، وكانت خاتمة حياة كمبرلاند في العراق على يد سليم مصطفى عندما زاره الاخير في قصره الكائن في دهوك وارداه قتيلا.
2 / خدماته الطبية المجانية :
كانت الخدمة المجانية التي يقدمها د.بطرس لابناء امته اعجب نواحي آفاقه القومية فكان لا يهوى المال ويساعد المحتاجين دون مقابل مع الاعتناء بهم بامانة واخلاص.
في معركة ديربون ومذابح سميل كان يخرج سرا حاملا حقيبته قاصدا القرى الاشورية لمعالجة الجرحى والمرضى وقد وصل خبر تحركات د.بطرس الى المسؤولين في الحكومة العراقية من قبل الواشين بانه يقوم بمعالجة الاشوريين من الجرحى ويزود القرى الاشورية بالادوية الحكومية فارسلت الحكومة برقية الى معاون الشرطة عزره ورده البازي في دهوك لالقاء القبض عليه وارساله الى الموصل وحال تسلمه البرقية ارسل ليلا الشرطي قيصر اوراها الى عين سفني لتبليغ الدكتور للهرب والا سوف يقبض عليه ويعدم، وقال لقيصر لا تذهب وحدك الى د.بطرس لانك شرطي سوف تنكشف وقال له بلغ اوراها انوية البازي وهو احد ابناء عمومة الدكتور وكان يعمل معه بصفة مضمد للتداوي وزرق الابر لتبليغه عن هذا الخبر وحال استلامه التلبيغ وفي نفس الليلة اخذ الدكتور معه دليلا وعبر الحدود العراقية الى سوريا في طريقه الى مدينة زحلة اللبنانية، وفي عام 1935 ارسل د.بطرس من قبل عصبة الامم كطبيب خاص للاشوريين الساكنين على ضفاف نهر الخابور في سوريا وبعد عام ترك العمل في خابور وسافر الى لندن لاسباب خاصة قد تكون مطلوبيته للحكومة العراقية ، وبعدها بفترة قليلة يسافر الى فلسطين ويفتح عيادة طبية له في شارع يافا القدس ثم تزوج من فتاة فلسطينية من عائلة مسيحية ويذهب الى الاردن – اربد ليستقر فيها ويفتح عيادة ليصبح طبيبا مشهورا وذاع صيته فيها بحيث سمت الجماهير الشارع الذي تقع فيه عيادته بشارع البازي وغدت نقطة دالة في المدينة وتقديرا لخدمته النموذجية لشعب الاردن منح عدد من المداليات و تم اختياره ايضا ليكون عضوا في لجنة الاطباء الخاصين بالملك عبدالله الاول ،وعضوا في الصليب الاحمر البريطاني في الاردن، ومن الجدير بالذكر بان الدكتور رزق ببنين وبنات واحفادجلهم حملة شهادات في الطب واختصاصات اخرى.
3 / تشجيعه التعلم باللغة الام :
يقول عنه المراسل الاعلى في القدس لمجلة الجامعة السريانية التي كان يصدرها الصحفي المعروف فريد نزهه وفي العدد الممتاز لشهر اب 1936 في مقابلة له في عيادته بشارع يافا ، الدكتور باز هو من كبار الاطباء وخيرة رجال الامة الاذكياء وقومي بكل معنى للكلمة وهو شاب نشيط عالى الهمة يحسن اللغات، الاشورية – الانكليزية – الفرنسية – العربية لغة وانشاء وهو من اقترح ان تنشر المجلة في بعض فصولها باللغة الام ووعد صادقا بتعزيزها ومناصرتها ونشرها فيما بين ابناء شعبه بايجاد المشتركين لها وقد لبى طلبي بمقال ممتع للمجلة ويستهله بقوله الامة التي لا لغة لها لا يمكن ان تدعى امة واللغة بلا امة تعد ميتة وقد سمى هذا الموضوع لغتنا المحبوبة ليس لان هذه اللغة محبوبة لدينا لكونها لغة اجدادنا فقط بل لانها تعرف بالمقدسة عند الملايين من الامم الاخرى الذين استنشقوا عبق شذاها الادبي والشعري والعلمي ولانها لغة الفادي في حياته الارضية فهي اللغة الاولى في العالم وهي ام اللغات واصلها ووضعت فيها المؤلفات النفيسة وقد تركها لنا اباؤنا العظام الى اليوم مع استمرار المذابح والاضطهادات ارثا ثمينا مقدسا فهل يحسن بنا ان نجهلها في القرن العشرين اليس عار علينا ان نتناسى لغتنا القومية ونتركها وشانها لتموت ويقضى عليها في عصرنا هذا عصر انتشار الاداب والمعارف والحرية عصر استرجاع الحقوق المهضومة وما بلغت به المطبوعات من التسهيلات ، ثم يطلب في المقال الآباء الروحيين ورؤساء الاديان ليكون واجبهم الاكبر حث الشعب على تعلمها وخاصة الناشئة منهم كلغة رئيسية قومية في المدارس كلها وعلى انواعها ودرجاتها وبيان فوائدها للنشئ الحديث ونشر الكتب والمجلات والجرائد والمطبوعات بها ، ثم يحث ابناء قومه لتعليم لغة الام ويقول – يجب ان تتعلموا لغة امتكم فهي حلوة وعذبة وسهلة التعلم بقليل من الارادة مع الميل والرغبة لكي لا تتلاشى لغتنا وقوميتنا الاشورية والا فلن نصبح امة حية لها شخصيتها بين امم العصر الذي اخذت فيه كل امة تعيد النظر الى تاريخهاولنقل جميعا بصوت واحد لتعش لغتنا وليعش معها شعبنا العريق في القدم.
4 / نتاجاته:
نشر العديد من المقالات في الشان القومي والثقافي والفني وفي مجال اختصاصه الطبي وله مؤلفات باللغة الانكليزية بعناوين :
1 – جواهر الحكم .
2 – قاموس الامثال .
3 – قصة الادوية .
امنيته ووفاته :-
كانت امنية الدكتور ان يكحل عينيه برؤية الوطن ويشم رائحة الاجداد قبل ان تدركه المنية رغم انه كان قريبا منه من خلال تواجده في سوريا – لبنان – فلسطين – الاردن ولم يعتبر نفسه غريبا عن هذه الدول لانها كانت تشكل لديه امتداد لبلاد النهرين والا فكان بمقدوره ان يتخذ من لندن مقرا لسكناه بعيدا عن المتاعب السياسية وملاحقة السلطات العراقية له ، ولم يقطع صلته بابناء شعبه واقاربه فكان يتابع ما كان يحدث من خلال اتصالاته بهم اواثناء زيارتهم له الى الاردن ، وفي العهد الملكي سنحت له الفرصة لزيارة العراق حيث تم اختياره ليكون على رأس وفد لصيادلة الاردن لحضور مؤتمر الصيادلة العرب المزمع عقده في بغداد وبعد وصول اسماء اعضاء الوفد اشترطت الحكومة العراقية استبعاد اسم رئيس الوفد كونه مطلوبا من قبلها وفي بداية السبعينات تحقق حلمه بزيارة الوطن ضمن وفد رسمي لاطباء الاردن ، ويلتقي خلالها بمعارفه واصدقائه وابناء شعبه لفترة ثم يقفل راجعا الى وطنه الثاني الاردن مغمورا بالفرح والسعادة وبتاريخ 22 / 9 / 1974 وافته المنية بعد تحقيق الامنية و اجبر التاريخ على تخليده بفعل مواقفه القومية خدمة لامة آشور .
المصادر:
1 – الخيانة البريطانية للاشوريين – يوسف مالك .
2 – اعوام الشدة – معركة ديربون وفاجعة سميل / عوديشو بارزانا – ترجمة – الاب شليمون ايشو خوشابا.
3 – مجلة الجامعة السريانية – العدد الممتاز – اب 1936.
4 – معلومات من عائلة واقارب وابناء عمومة الدكتور بطرس البازي شاكرين تعاونهم معنا.